في زمن قديم، قديم جدا..، هناك، حيث لا أحد يعرف التفاصيل بالضبط، كانت الكلمات تنبت في ألسنة الناس، وتنمو مثل نباتات الظل، فيتّصل بعضها ببعض، وربما تتلاقح فتنتج كلمات جديدة بملامح مختلفة.
الجماعةٌ التي كانت تتعمّد إنبات المختلف والمورق والمُزهر في ألسنتها، كانت القبيلة تسمّهم سُلاّن الضوء، ثمّ صرنا، في ما بعد، نسميهم شعراء..، نتساءل من أين يقطفون المجازات؟ وكيف يعيدون ترتيب الكون؟ ومن أي باب يدخلون إلى مزارع القصائد؟
وقد قُيّض لي أن ألتقي مرارا الشاعر مولاي ادريس أشهبون، في مقهى، أو أرافقه في سفر، فيحدّثني عن حاجة الإنسان إلى الكلمة، وعن السلطة التي امتلكها باللغة، وعن علاقة الاستعارات بالفكر وبالفعل…، لكن، حين دعوته إلى هذا الحوار- بغاية التوثيق والنشر- قال لي:
أتدري..؟، إن كتابة الشعر ورطة سواء اخترته أم اختارك، لأنه من الابداعات التي يفوز فيها الجانب الوجداني التعبيري بشكل كبير، ولهذا السبب يتورط كاتبه في موجة عاطفية عنيفة، قد تصل حد الحلول، وقد تنسى من اختار الآخر، وكيف اختاره، ولماذا اختاره.. كتبت نصوصا شعرية وأنا في الثانوي، وفزت مرات عديد في مسابقات، ووجدتُني داخل القصائد.
p هل لأن القصيدة تقول ما لا تقوله الأشكال الإبداعية الأخرى؟
n كل الإبداعات تتكلم وتعبر، رغم التكثيف والإيجاز الذي يميز بعضها عن بعض، لكن القصيدة لها طابعها الخاص، لأنها شعر، ومادامت كذلك فهي تختار لنفسها وسائل تعبيرية مميزة لتخاطب عشاقها، إنها شيقة في تواصلها، ورقيقة في عشقها، وشاقة التورط فيها… وفي القصيدة تجتمع الموسيقى والمعنى والصورة، يجتمع الوضوح والغموض، تجتمع اللغة والرمز وأشياء كثيرة أخرى كالرؤيا الشعرية، والرؤيا الفلسفية، والرؤية الايديولوجية …
إن قصيدة الشعر عالم عجيب تورط كاتبها وقارئها بهذا التراكم اللغوي والدلالي والفكري الذي ذكرتُ بعضا منه، ولا يزال مُريدها هكذا سابحا في عوالمها حتى ينتشي…
p ماذا عن مُريديها اليوم، وما رأيك في حضورها الإبداعي في المغرب؟
n ربما أصبحت قصيدة النثر مفتاحا وجوديا لاكتشاف نوازع الإنسان وميولاته، وأحاسيسه، وأعتقد أيضا أن السياقات السوسيوثقافية قد وفرت تربة خصبة لهذا النماء وهذا النضج الشعري الذي عاش صراعا مريرا مع ذاته أولا ومع النقاد ثانيا …
قصيدة النثر كسرت بعنف كل الضوابط الكلاسيكية في الإيقاع وفي الصورة، وفي الانزياحات اللغوية والدلالية، وكذا في لعبة الكتابة. (فالشعر الحر لم يحقق حريته كاملة مثل استقلال الأمة العربية، ولهذا وجبت الثورة الفكرية والإبداعية عموما حتى النصر)…وفي اعتقادي إن قراءتي لمجموعة من الدواوين من جيل الثمانينيات حتى اليوم، قد خلقت عندي قناعة أن قصيدة النثر، ليست مجرد تطور، أو تجديد فقط بل هي ثورة على ما سبقها من شعر..وفي تقديري المتواضع، هي أرقى أشكال الكتابة الحرة.
إن قصيدة النثر حقا ، قد جاءت جوابا عن معنى (النفور) الذي عاشه الإنسان حتى أرهقت القواعد الكلاسيكية ذائقته الفنية.. ففي المغرب، أصبح لهذا الشكل الإبداعي شأن فني مميز، لأن شريحة واسعة من المبدعين الشعراء قد ساهموا في إغناء هذا الجنس الأدبي، ولا يزالون، وساعدت مواقع التواصل الاجتماعي في ذلك في الوقت الحالي …
ورغم هذا الثناء الموضوعي، فإني أعيب على بعضهم عدم التدقيق في منجزهم الإبداعي من حيث خصائصه الفنية من جهة، ومن حيث الغرض الغارق على الدوام في ذاتية مفرطة، مما يترك انطباعات سلبية عند القراء، وأحيانا نفورا من هكذا كتابات..
p ألهذا السبب تجعل لنصوصك الشعرية ارتباطا عميقا بالأسطورة وبالمشترك الإنساني، بدل الذاتية المفرطة؟
n للأسطورة في الخطاب الشعري العربي المعاصر، حضور فني وإنساني بكل ما تحمله هذه المصطلحات من معاني فكرية وفلسفية وإبداعية، لكونها ترتبط باللاشعور الجمعي (الخصوبة، والولادة، والموت…)، وهكذا تصبح الأساطير بهذا المعنى معبرة عن الحمولات النفسية والفكرية عند المبدع..
وأعتقد أن الكتابة الشعرية لم تتجاوز الرمز والأسطورة بمعانيهما الخالدة، لكنها أصبحت تعتمد أيضا، على وسائل فنية، وتعبيرية أخرى، من طبيعة المرحلة المعاصرة التي تتميز بمنجزها الحضاري النوعي، تداخلت فيه العلوم، والتكنولوجيا، ووسائل التواصل المرئية وغير المرئية… ورغم هذا التطور، فإن اللغة الشعرية لم تفقد جوهرها، بل تطورت مع هذه المسيرة الشاقة للشعر الحديث، وقصيدة النثر على الخصوص…إنَّ اختياري الرمز والأسطورة، هو تعميق للدلالة ، والمعنى حتى يفتحان المجال للتأويل وقراءات أخرى..
وبالتالي لا يمكن لكتابة شعرية أن تنجح، ما لم تنفتح على قضايا فكرية وفلسفية وإبداعية إنسانية كما يقول محمود درويش (أمشي بين أبيات هوميروس، والمتنبي، وشكسبير..أمشي وأتعثر كنادل متدرب في حفلة ملكية)…
p لكن ثمة ما يثيرني في انفتاحك على القضايا الفكرية والأسئلة الإنسانية العامة، وهو أن دواوينك تشكّل تجارب إبداعية مختلفة لكل منها لمستها الخاصة، ليس على مستوى اللغة والصور فقط، ولن أيضا على مستوى المضامين. فهل يمكننا القول أن كل ديوان هو قضية فكرية مستقلة، أم أن الدواوين كلها تقدم تصورا واحدا بتجليات مختلفة ؟
n تحضرني قولة واسيني الأعرج: (على الكتابة أن تمنحنا فرصة للحلم، وإلا فلن تكون إلا مجموعة من الكلمات التي لا شأن لها). عندما نكتب، نأخذ بعين الاعتبار أن القارئ سيكتشف شيئا ما، من خلال لغتنا التي هي جزء من أحاسيسنا (السوية، المريضة، المتزنة، المعوجة، الخلوقة…)، وأنت تراهن بكل هذا لتكون – بطريقة ما- قد قدمت للمتلقي تجاربك كيفما كانت، ومهما كانت … وعليه قد نطرح السؤال : لماذا يكون المبدع هو المرشح ليقدم نفسه على هذا الأساس، (ذات على طابق الانكشاف).
أعتقد أن هذه الخطوة الشجاعة، هي أساس فلسفتي في الكتابة الشعرية، ومن خلالها أنظر إلى العالم، أقدم لكل قرائي ذاتا حزينة، محبطة، تموت مرات عديدة في اليوم الواحد ! لكني متشبث بقارب يمخر عباب بحر الحياة دون أن أعرف شيئا عن اتجاهاته ..! لهذا جاءت دواويني عموما تبحث عني، وعن أمثالي، وهكذا يعجبني جبران خليل جبران حينما كتب (ليس الشعر رأيا تعبر الألفاظ عنه ، بل أنشودة تتصاعد من جرح دام، وفم باسم).
إن هذه التجربة المتواضعة، أحاول تطويرها بكل الإمكانيات الحياتية والفكرية المتاحة، وقد أسعدني هذا الحوار عن تجربتي الشعرية، وخصوصا أننا في منطقة جغرافية هامشية، لايهتم لأمرها أحد، وأنت تعرف أن الابتعاد عن المركز يجعلك تبدع في أساليب الإهمال والحزن التي تبدو لك هي الملاذ الأخير فقط، وتكبر فيك، ومعك عقدة التهميش..