الشاعر مولاي إدريس أشهبون: لا يمكن للمنظومة الفكرية والثقافية أن تستقيم في واقع مهزوم 2/2

في زمن قديم، قديم جدا..، هناك، حيث لا أحد يعرف التفاصيل بالضبط، كانت الكلمات تنبت في ألسنة الناس، وتنمو مثل نباتات الظل، فيتّصل بعضها ببعض، وربما تتلاقح فتنتج كلمات جديدة بملامح مختلفة.
الجماعةٌ التي كانت تتعمّد إنبات المختلف والمورق والمُزهر في ألسنتها، كانت القبيلة تسمّهم سُلاّن الضوء، ثمّ صرنا، في ما بعد، نسميهم شعراء..، نتساءل من أين يقطفون المجازات؟ وكيف يعيدون ترتيب الكون؟ ومن أي باب يدخلون إلى مزارع القصائد؟
وقد قُيّض لي أن ألتقي مرارا الشاعر مولاي ادريس أشهبون، في مقهى، أو أرافقه في سفر، فيحدّثني عن حاجة الإنسان إلى الكلمة، وعن السلطة التي امتلكها باللغة، وعن علاقة الاستعارات بالفكر وبالفعل…، لكن، حين دعوته إلى هذا الحوار- بغاية التوثيق والنشر- قال لي:
أتدري..؟، إن كتابة الشعر ورطة سواء اخترته أم اختارك، لأنه من الابداعات التي يفوز فيها الجانب الوجداني التعبيري بشكل كبير، ولهذا السبب يتورط كاتبه في موجة عاطفية عنيفة، قد تصل حد الحلول، وقد تنسى من اختار الآخر، وكيف اختاره، ولماذا اختاره.. كتبت نصوصا شعرية وأنا في الثانوي، وفزت مرات عديد في مسابقات، ووجدتُني داخل القصائد.

 

p لا أفهم كثيرا معنى الهامش والمركز، لكن دعنا نُسقط هذه الثنائية على إبداعاتك. لقد حققت نصوصك حضورا واسعا ومقروئية كبيرة مغربيا وعربيا، فهل يوازيها حضور ينصف إبداعك؟

n هذا سؤال أساسي حقا، لأن الكتابة الإبداعية تحتاج إلى تقويم وتقييم على حد سواء، وفي هذا الإطار ساعدتني رغبتي المتأخرة في الكتابة الإبداعية (قصيدة النثر) على بلورة إمكانياتي في الإنتاج، من حيث الكتابة الشعرية وشروطها ومن حيث البحث في هذا المنجز الأدبي المتميز. وأنا الآن بصدد إتمام بحث في مجال قصيدة «النثر بين النسق والسياق» ..
أما عن علاقتي مع النقاد، فأعتقد أن بعضهم قد فتح أمامي آفاقا كبيرة في الكتابة، بالتشجيع أولا والتقويم ثانيا وبالنصح ثالثا، وهم من فتح المجال حقا أمام نصوصي المتواضعة، كي تكون في المتناول، ومن بعث الحياة من جديد في قصائدي، وكتاباتهم قد سافرت ببعض دواويني إلى أقطار بعيدة ، وديواني الأخير «أقطف من عيونك حزنا» قد تُرجِم إلى اللغة الفرنسية، وإلى اللغة الإسبانية ..
كتاباتي واضحة، وموضوعاتها إنسانية في العموم، وصادقة في تقديري قدر الإمكان. وكما يقول الأديب والناقد الكبير كليطو «كنت متأثرا بعنوان لبودلير «قلبي عاريا»من الممكن أن هذه هي الكتابة».

p تشتغل في الحقل السياسي منذ أكثر من 40 سنة، وتنخرط في الحقل الحقوقي بشكل كبير، هل لهذه الاهتمامات صدى في نصوصك؟

n هذا السؤال يختزل أجوبة كثيرة …أن تكون مبدعا أو غير مبدع، فيجب عليك أن تنخرط في هموم شعبك، فالصراع الاجتماعي لا يستثني أحدا.. أنا ولدتُ في واقع اجتماعي، اشتد فيه الصراع بكل تلاوينه السياسية. ولأن السياسة هي أرقى أشكال الثقافة، وجدت نفسي منخرطا منذ بداية حياتي الطلابية بالإتحاد الوطني لطلبة المغرب (تيار الطلبة الديمقراطيين) كاستمرار لجيل حركة 23 مارس، ولايزال في عمقنا الشيء الكثير من هذا التراث الإنساني..
كما أني كتبت الشيء الكثير عن الحب.. وعن الثورة، لكن ذلك قد ضاع مع الزمن، بسبب انشغالي بأمور أخرى خارج الإبداع، باستثناء قصائد الحب التي أذيعت أنذاك في ( برنامج ناشئة الأدب) والذي كان يديره المرحوم وجيه فهمي صلاح…
ولا أعتقد أن هناك خصومة ما بين الإبداع والسياسة، بل هناك تفاعل بينهما، والواقع الاجتماعي يحتاج إلى وعي ممكن يزيل الغشاوة عن عيون الناس.. ولا يمكن للمنظومة الفكرية والثقافية أن تستقيم في واقع مهزوم، وفي سياق وعي تاريخي متأخر؛ ورغم ذلك فأنت تكتب، ولأن الكتابة هوس يجبرك على الإصغاء إلى كل الاهتزازات، والانكسارات في أعماقك، ومن حولك، قد تؤلمك حقا لكنها هي وقود الإبداع.
يقول إرنست همنجواي: «ليست الكتابة بالأمر الصعب، ماعليك سوى أن تجلس أمام الآلة الكاتبة، وتبدأ بالنزيف»، وأنت تراهن بقوة على العمل الثقافي، والسياسي، تجد نفسك مناضلا حقوقيا ترفع الشعارات، وتصرخ في الشارع، وتصطدم في كل مرة باليأس والوعي المتأخر.. وربما يقودك هذا الإحساس الدائم إلى حزن مقيت، أو إحباط لا ينتهي. يقول إميل سيوران «إذا كانت كتبي كئيبة، فذلك لأني أبدأ الكتابة حين تكون لدي رغبة بإطلاق رصاصة على نفسي..»… قد يكون في هذا القول شيء من الحقيقة المرة، لكن الإنسان في هذا الواقع، وفي هذا الوجود يصارع على الدوام وبمرارة، ليثبت لنفسه أنه قد مَرَّ ذات يوم في هذه الحياة.

p شخصيا، شهدت بضع نجاحاتك التي تجعل المرارة تُزهر، منها ما حققه إصدارك الشعري الأول من نجاح ملحوظ، مثلما حظيَت لقاءاتك الشعرية بحضور جماهيري كبير.. كيف تبرر هذا الالتفات الشعري حول ابداعاتك؟

n يبدو أني أقول مع الشاعر الكبير محمد الماغوط «أحاول أن أكون شاعرا في القصيدة، وخارجها، لأن الشعر موقف من الحياة، وإحساس ينساب في سلوكنا»، وقد يكون فحوى هذا القول هو جوهر هذا التفاعل، من جهة، ومن جهة أخرى، أنت تعرف أني درَّسْتُ في هذه المدينة الأطلسية الجميلة أكثر من 30 سنة، وفيها قضيت زهرة شبابي، ولأني قبل كل شيء ابن مدينة مريرت التي لا تبعد إلا مسافة زمنية قليلة جدا..
فالأجواء الغنائية ، والمحيط الطبيعي كانت حاضرة في اللغة الشعرية التي اشتغلت عليها منذ زمن بعيد…تفاعل القارئ مع كتاباتي من هذه الزاوية أولا، ومن زاوية أخرى لأني عبرت صادقا في كل المحطات التربوية والسياسية والنقابية والحقوقية عن موقف جاد ومسؤول، وتحملت في ذلك مسؤوليتي الأخلاقية والفكرية ولا أزال كذلك…وهناك أيضا عامل إيجابي كبير وهو انخراطي في تأسيس مركز «روافد»، مع ثلة من أصدقائي الأدباء والشعراء والمفكرين، ولقد كان لهذا المركز دور كبير في إغناء تجربتي بالنصح والتصحيح، والتوجيه، والطبع..
ولن يفوتني في هذا الحوار ان أشكركم أولا سي حسام الناقد الواعد و والاعلامي أحمد بيضي الذي تابعني منذ البداية بالنشر والتشجيع، وصديقي حميد ركاطة الذي قدم كل يد المساعدة والنقد، وأخص بالذكر أيضا صديقي توفيق البيض الذي فتح أمامي باب النشر، وكيف كان يعيد معي تصحيح النصوص وتصويبها .. وشكرا لنقاد آخرين اهتموا بتجربتي: سي محمد عياش ، مصطفى داد وآخرون تناولوا إنتاجاتي في منجزاتهم النقدية وهم كثر.. كل هذه المحاولات ما كانت لتعيش لولا هذا التعاضد وهذا التشجيع…


الكاتب : حاوره: حسام الدين نوالي

  

بتاريخ : 21/09/2023