نقرأ عبر رواية «الشجعان» للمبدع هشام ناجح اشتغالا متميزا على ثلاث واجهات في نظري. الأولى هي أن التاريخ لم يكن موضوعة أساسية، بل وسيلة آو شرَكاً نصبه للقارئ لتمرير أفكاره،والثانية هي اللغة كما سنفصل في القراءة، والثالثة هي ذلك الاقتراب الذكي من شخوص روايته..
في الإهداء نقرأ رسالتين: الأولى للفارسة الشاعرة مباركة بنت حمو البهيشية، والثانية الى والد الكاتب، وكلاهما يرتبطان بالتاريخ ، الاولى خلّدت فيه عبر مواقفها وأشعارها والثاني كان يحب الحكي عن تاريخ لا يموت..
ثمة فهرس في البداية يضم أربعين عنوانا إلى جانب الإهداء….وهنا يحضرني سؤال: هل كان الكاتب يروم توجيهنا الى اختيارات معينة، أم أنه كان متأكدا أنه سيجر القارئ منذ الجزء الأول إلى مرماه وقد وثّق عمله بوثيقة تاريخية/فخ سردي يؤطر العمل برمته ؟
منذ العتبات الأولى يتأكد لنا ارتباط الكاتب بالتاريخ وهو مسنود بمرجعيات فكرية و إبداعية عالمية تؤكد على أهمية الارتباط بالماضي في حياتنا المعاصرة والمستقبلية. ولعل عتبته عن الشجاعة كانت تمهيدا فكريا لمفهوم الشجاعة وارتباطها بالخوف الخفي في النفوس، أي أن الشجعان يعيشون خوفا من نوع خاص لتفادي الأسوأ..
عبر الوثيقة التي استهل بها الكاتب عمله كانت للقارئ فرصة لمعرفة واقع المغرب في فترة حرجة ، حيث كان الصراع محتدّاً بين الشجعان والأنذال..ولعل ختم الوثيقة بشعر للا امباركة البهيشية – وهي أغنية تحفر حضورها في قلوب و مخيال المغاربة- كان له ذلك الدور المبدع في شد القارئ إلى تتبّع خيوط رواية عميقة.
في كل الفصول كانت ملحمة جلجامش حاضرة، وكل استشهاد كان له ارتباط وثيق بالنص..لم يكن حضور الملحمة ترفاً فكريا بقدر ما كان حضوراً معزّزا إيحائياً.
يخوض الكاتب هشام ناجح في هذه التجربة الروائية (إبداعية الرواية في قدرتها على التجريب ) مغامرة جميلة وهي تتكئ على التاريخ ليس كهدف، وإنما كوسيلة لتمرير العديد من القضايا..لقد قرأنا روايات تاريخية كثيرة لكن هذه الرواية تبقى متميزة لأنها ساءلت التاريخ في أحلك محطاته ووضعت اليد على مشكل مغربي خاص وهو ما أسميه بأعداء الداخل، فالشجعان كمؤشر دال على كسب رهان المعركة كان تمويهاً في نظري من أجل تمرير واقع المقاومة الحقيقية، وما كان يعتمل داخلها من تآمر وتخابر ضد ومع العدو..
إن مفهوم الشجاعة الذي تجسّد في عدة شخصيات وعلى رأسها « النيرية» و»البوزيدي» يرتبط بالإيمان بمفاهيم أخرى ذات حمولة فلسفية واجتماعية وثقافية كالحرية والكرامة وحب الوطن ، لذلك كان الثمن باهظا وهو السقوط المتوالي لهؤلاء الشجعان. ولعل شقاء النيرية كان شاهدا على هذا السقوط معوضة تحفيزها الشعري وتحريضها الوطني بصمت رهيب ، خاصة وأن البوزيدي الوطني، المحب، الشجاع، قد سقط بدوره شهيدا.
ولعل صوت الجدجد،صديق البوزيدي هو ما فَضُل في هذا الفراغ وهذا الموت بالجملة.
إن هذا المقطع الذي ورد في (صفحة366) آخر صفحات الرواية: «سقطت الأم بني ملال بالمرة في يد الفرنسيين»، كان تلخيصا صريحا لذلك السقوط المتوالي لمدن و بوادي المغرب. إن كلمتي (الأم) و (بالمرة) تحيلان على الاستعمار الشامل للمغرب ارتباطا بلفظة «الأم» التي تحيل على الاحتضان الشمولي ، و»بالمرة» تؤيد هذا الزعم وهي تؤشر على القطْعية..
لم يكن الكاتب ليعلن هذا السقوط في النهاية إلا بتجريعه(من الجرعة) للقارئ عبر فترات سردية متوالية، وقد أعلن جملة مفصلية تكررت أكثر من مرة: « لم تعد الشاوية تلك المرأة الفاتنة ..» (ص13/ص364)، هذا التكرار لهذا المقطع يؤشر على أن الشجعان لم يكونوا فقط ضحايا عدوان استعماري، بل كانوا شهودا على تاريخ مروّع، وكانوا أيضا علامة فارقة في تاريخ المستعمر الذي تكبّد بفعل الشجعان كثيرا من الخسائر ولم تساعده في تحقيق أهدافه التوسعية إلا خيانة أو عدوان داخلي. تقول الرواية :» فالقوة الحقيقية لفرنسا في قوة القواد الإقطاعيين لأنهم يحكمون الداخل والخارج معا، ويراقبون دبيب النمل في حمأة القيظ « .(ص164). من هنا كان حضور النيرية فعالا وهي تفضح أفعال الخونة وخذلانهم وهي تسم جيادهم بالحناء…لقد كانت هذه المرأة محركا أساسيا لفعل المقاومة النبيل على اعتبار أنها كانت رفيقة الشجعان الحقيقيين، وحافزا للمتخاذلين انطلاقا من حضورها الفعلي في الميدان أو بتحفيزاتها الشعرية عبر القصيدة/الوثيقة:
«تحزموا كونوا رجالا» (ص96).
لقد كانت هذه القصيدة رصداً لواقع المغرب في مرحلة حرجة وتخليداً لأسماء الشجعان كالنيرية والبوزيدي، شباني..بزازو..عربوش…
والشجعان عنوان قصيدة والقصيدة درس وطني في الشجاعة التي لا تعني الانتصار دائما بقدر ما تعني عدم التنازل عن مواصفات لا تقبل المزايدة حول الحرية والكرامة والوطنية…
هنا يحضرني سؤال آخر ارتباطا بما سلف: هل أراد الكاتب أن يمرر فقرات من التاريخ وتاريخٍ بعينه، عبر قصة النيرية والبوزيدي، أم أنه توخى تشغيل آليات السرد عبر اللغة بامتدادها العامي لكتابة رواية مدخلها التاريخ وبناؤها التداخل القوي بين السياسي والتراثي والعاطفي..؟ إن الرواية تعود بنا الى القصة الأصل التي بدورها تسائلنا هل هي الأصل بالفعل ..هل قصة النيرية والبوزيدي هي الأصل أم قصة الاستعمار الفرنسي للمغرب والمقاومة، أم تلك القصص الهامشية التي مررها السرد عبر دروب اللغة بتفرعاتها الفصيحة والعامية والشعرية؟..
«الشجعان» حسب الوثيقة التاريخية عنوان لقصيدة بنت حمو البهيشية للا امباركة وتتخذ في النص نداء لأولئك الذين تغنت بهم الشاعرة الفارسة، أي أن النيرية لم تتحدث عن الشجعان بصيغة الجمع، إلا لأنها عاينت هذا الامتداد عبر حضورها البطولي المحايث واللصيق والمحفز لفعل المقاومة النبيل..ولعل اللغة قد أنصفت هذه المرأة وهي تؤكد في منطوقها الدارج على أن «النيرة» هي» العارضة الخشبية التي تشد خيوط المنسج « وهنا تحضر العبارة المسكوكة : اسم على مسمى..
ولا ننسى ذلك التوازن الذي خلقته الرواية بين أهم شخصياتها، بين النيرية والبوزيدي كمحب وفارس وشاعر أثثت أشعاره المتخيلة من إبداع الكاتب الذي راهن على ذلك التوازن الكبير بين المرأة والرجل عبر كل مناحي الحياة .
إن حضور المرأة في «الشجعان» كان حضوراً محسوباً يمنحها مكانة متميزة إلى جانب الحديث العابر عن نساء وزوجات وأمهات مع التنصيص على أن مكانة المرأة ومواقفها تبقى استثنائية :
« ليكن في علمك أني لا أخاف من كلام الرجال بقدرما يرهبني كلام النساء « (ص80)
« آه من امرأة تنذر حياتها لقضية ما « (ص ٨٠)
أما النيرية وبحكم موقعها البطولي فقد حددت الرواية أهم صفاتها إذ تقول عنها « يمكنك أن تقود جَمَلاً عشاريا، لكن لن تثني النيرية عن مواقفها « (ص318).
هذه صورة امرأة وطنية شاعرة محبة مقاومة، لقد جعل الكاتب من المرأة بطلة في زمن ذكوري بامتياز، لكن حتما نأتي الى الدور الأساسي الثاني للمرأة وهو الأم، إذ نصادف نموذجها مع أم القايد بوزكري للا سامبا في أبهى تجلياتها، تقول الرواية بإمعان كبير :» حكّ القائد أنفه وانطلت عليه كالمعتاد حيلة والدته بتحريك كانونه الداخلي «(ص169).
إن تجربة المبدع هشام ناجح كانت رهانا على كتابة روائية بصيغة جديدة عبر توظيف للتاريخ بشكل أفقي عابر وتمرين كبير للغة ،هذا المكون الروائي الذي عرف اشتغالا كبيرا من الكاتب في هذا المتن..
منذ المقطع الأول «ترقبات حارة» تؤشر الرواية على عوالمها اللغوية جملاً وتعابيرَ وأصواتاً، فاللغة العامية مندمجة مع الفصحى : «قوالب السكر والريالات الحسنية «(ص14).
والفصحى مندمجة بالعامية: «طريق الحبيبة بين عيني…طريق الحبيبة تتوسل الي» (ص19)..الى جانب إدماج كثير من الاصوات :»قربال، يا قربال..يا صديقي وجاري، ماذا تقول في الخلّة؟
-صر صر صر صر صرررر.»(ص17).
واللغة الشعرية تسجل حضورها اللافت :»تملكت السيد جورج نوبة من المس البهيج ، فصفق بيديه، وعيناه الزرقاوان تنقران بخبث كعيني طائر كاسر حين يلامس بجناحيه، في هفهفة مناوشة، طريدة ساذجة « (ص15).
لم تكن اللغة هنا وفي باقي فصول الرواية مجرد وسيط تواصلي، بل كانت أداة للإنصات لكل الشخوص وحتى الأمكنة والحيوانات المؤثثة لفضاء السرد. وكما ورد مثلا في التعبير الآنف في (ص 19) المؤنسن للطريق والجامع في زواج مبدع بين العا مية والفصحى كما نقرأ في( صفحة 314):
«تليين الرأس المغربي القاسح «
او قوله في( صفحة 124) :» فمها لحسه كلب وأردفه جرو «.
«لقد تاقت روحي إلى الشجى في هذا الليل الأعزب. مُر ابن الزعري أن يسوي وتره، وعليوات وبلحسن والشمشمومي أن يسخنوا طاراتهم وتعاريجهم؛ فليكن الطائح أكثر من الواقف « (ص207).
لقد مارس الكاتب لَعبه اللغوي بإبداعية كبيرة حتى وصل الى تعريب الدارجة كما نرصد ذلك في العديد من المحطات :
– يا الله..يا الله..الرأس الدائخ يحتاج إلى هذه الكأس..الله يمنحك الصحة والعافية للا سامبا «(ص284).
– «أصر الآن على أن أسقيك بنفسي يا سي القايد، حتى تستعذب الكأس التي تسقط الزرزور من فوق السور « (ص286).
– «…وبصق في كفيه ثم فركهما مستعدا ليسوس خيشة الاخبار على فمها..»(ص292).
-»…فيحس كأن العالم اجتمع في أنفه ملبيا رغبة الحياة المذرذرة في عسل الحب.»(ص69).
وفي خضم هذا الاشتغال اللغوي ظل الحضور «العروبي» في التواصل قائما كما نسجل في هذا التعبير : اسمع يا مُونْ كْنَّيْنِيرْ(سيدي الكولونيل)(ص293).
ثمة اهتمام واضح باللغة دفع الكاتب إلى تشغيل القارئ باللجوء الى المعجم وهو يفحمه ببعض المفردات التي لم تعدْ مستعملة أو قلّ استعمالها من قبيل : يزقو (ص289) ./المنجعصة (ص283)./ هتمل(ص240)…. ودون أن ننسى الإشارة إلى انغماس الكاتب في البحث اللغوي ارتباطا بموضوعة الحرب وآلياتها وأفعالها (المنُورات /سبطان/إبرة الاطلاق/مغلاق حُجرة القديفة….)
(ص289).
إن «الشجعان» وارتباطا بالمرحلة التاريخية التي اشتغلت عليها حققت انسجاما كبيرا بين تيمتها الاساس ومعجمها اللغوي الذي اعتبره مبحثا ثراتيا مغربيا في ما يخص اللباس المغربي الأصيل (التحتية/ الفرجية/تشامير/ القفطان /الحايك/الجلابة البزيوية/البلغة الزيوانية. ) والطبخ والعادات المغربية وأسماء الأماكن والناس والحيوانات وخاصة الحصان (الركط/حجر الواد/الادهم).. وذلك منذ الفصل الأول.
وارتباطا بالفصل الأول، أرى أن كل عوالم الرواية تم تبئيرها جماليا في هذا الفصل،إذ من خلال العنوان الدال « ترقبات حارّة « تبدّت أهم شخصيات الرواية وأفقها السردي واللغوي والإعلان عن أُسِّها الحكائي: «هفهف (البوزيدي)على شعلة القنديل بفمه. روائح النهايات لها منبهات لا يمكن أن تخطئها الحواس . ملأ صدره بالدخان، و همّ إلى الخارج. ثمة لُبس في فهم منبّهات النهاية التي ألقت بنيران حنينها. «(ص18).
لقد تمكن الكاتب عبر سرده المحكم من الإنصات إلى شخوصه، سواء في حديثها مع بعضها أو في مونولوغاتها أو في حديثها مع الحيوان (البوزيدي والجدجد)( ص18) أو في حيث الحيوانات في ما بينها كما رصدنا في مشهد الحصان ابو شامة مع الدبابة الخضراء. ( ص 305). وعبر هذا السرد تمكن الكاتب من ترصيع لغته بخطاب ديني في صيغة أقوال او تهليلات أو أدعية أو آيات قرآنية حرص على تمييزها بالرسم القرآني، أو عبر تضمين ذكي لمضامينها :- « لما يسرحون بأنظارهم صوب فدادينهم وكسبتهم يخالون أنها لن تبيد أبدا» (ص49)…،مما يدل على ثقافة دينية جعلته يصل الى هذه القناعة: « كان الجامع عامراً.لم يعهد البوزيدي هذا من قبل: ماذا أصاب أولاد بهيش؟ هذا الإيمان الفجاء يدعو إلى المماراة. ربما تحت ضغط الايام يسعى الناس إلى الله إنهم يحتاجونه في وق الشدة، أما في وقت الرخاء فهم نساؤون، حالمون، منتشون.» (ص49).
ثمة تيمات أساسية راهن عليها الكاتب في هذا العمل الروائي الذي تحكمت فيه ثنائيات كثيرة، ارتباطا بمضمونه من قبيل: شجاعة /تخاذل. خيانة/وطنية. – استعمار/تحرر .-امرأة / رجل. – حزن/فرح..
إن هذه التيمات مؤطرة في ثالوث أساسي وهو الحرية والكرامة والشجاعة ، لم يكن حضورها من باب الكليشيهات والعناوين البراقة، بل كانت من أجل تمرير رسائل قوية وهي مقولات مفصلية في الرواية اذكر منها :
– «عصي على الوضوح هذا الزمن. لكن، لا شيء يفوق الحرية.» (ص292).
– «الحرية لا يقابلها إلا الموت أيها الشجعان» (ص298).
-»إننا نتطلع دائما أن نكون الأفضل في العالم،إن فرنسا وجه المسيح على الأرض، وأتمنى ألا تصلب كذلك لتتحمل أوزار العالم وخطاياه «(ص110).
– «…حتى هؤلاء العرب أصحاب السحنات الزرقاء المقرفة، اليابسة ،انّي أتسلى بهم أحيانا لقتل الضجر يا شنتال، فأدعوهم الى مسابقات للعدو بجلابيبهم، يا له من منظر حين يقعون على الأرض ملفوفين بتلابيبها..» (ص109/110).
– « خلق آدم من جميع أتربة العالم حتى يتذوق نشوة الاختلاف « (ص150).
– «فالقوة الحقيقية لفرنسا في قوة القواد الإقطاعيين…» (ص164).
ولعل إشارة بسيطة إلى هذا الاستشهاد الأخير الذي سبق توظيفه، تجعلنا نؤكد على الاشتغال الذكي للكاتب على الوثيقة التاريخية والإبداع في تطويعها إلى سرد يجعل القارئ يعيش الأحداث وكأنها تقع أمامه.
ومن المقولات الأساسية في النص في نظري ذلك السؤال المركزي :» ما الجدوى من محاربة عتاة الفرنسيين ومنّا من يدعمهم على قتلنا، على قتل حريتنا، وعلى رأسهم ادريس بن حميد، وعريوى، واحميدة بن التهامي ، وعباس بنفرج، والقائد بوزكري الذي كنا نعتقد أنه في صفنا؟! «( ص321/32).
إن هذه الرسائل القوية في نظري هي ما يعطي لنص ما بعده الإبداعي لخلخلة المسكوت عنه وتصحيح ما اعوجّ من الواقع .
وبكلمة واحدة فإن المبدع هشام ناجح قد نجح في هذا العمل الروائي في تطويع التاريخ لصالح السرد، ونجح في تمرين اللغة ومصالحة روافدها التواصلية العامية والفصحى في ما بينها ..الى جانب رسائله القوية وقدرته على تمريرها بسلاسة ابداعية جميلة.
*ناقد من المغرب