في رواية “مِحنة ابن اللِّسان” للروائي جمال بندحمان نصادف شخصية بلا اسم؛ صحافي يُجسد دور البطولة في الرواية. وهي بالمناسبة رواية تُشرح وضع الصحافة في تاريخ المغرب المعاصر، وتتبع تشكلها في الزمن، من صحافة ارتبطت بالأحزاب إلى صحافة مستقلة تأسست غداة الاستقلال تم تليها الصحافة الجديدة، أو “الصحافة الانتهازية”…
وبالعودة إلى الرواية دائما، من يكون الصحافي في الرواية؟
هو “إنسان يَملك لسانه، ومن في دائرته من قلم وكتابة وحكاية ومرافعة”. أوَ ليس في التشبيه إيحاء إلى استحضار مِحنة اللسان العربي، والقصد بذلك، مِحنة ابن حنبل ومِحنة ابن رشد؟ لكن متى يكون اللِّسان مِحنة؟
في المتخيل العربي فكرة اللسان تُذكرنا بحكاية الأفعى التي أدخلت إبليس تحت لسانها للجنة ليجر آدم إلى اقتراف الخطيئة، فعاقبها الله بشق لسانها إلى نصفين.
جاء في الأثر: “الإنسان مخبوء تحت لسانه”. اللِّسان هو من يستجلب المتاعب. وقد يقع الصحافي اليوم تحت تأثير وجاذبية الرأسمال والسلطة، ويُصَيَّر حاكي الصدى، أو بائع الكلام حتى لا نقول بائع الهوى، والبيع هنا يتم بقياسات وحسابات التجارة والأعمال. يقول بطل الرواية في مقطع منها: “ما عُدت أعرف الحق؟ لأنني كلما اشتغلت في صحيفة قالوا لي: هذا خطنا التحريري…عليك الانضباط إليه، ودَعك من حكايات الموضوعية وأخلاقيات المهنة”. ويتساءل: “ما هو هذا الخط التحريري؟ يُجيب بكل وضوح وجرأة: “خط المال”. ص 57.
يرتد سؤال الصحافة اليوم بقوة إلى واجهة المشهد الإعلامي، وفي سؤال العودة رغبة في بعث الأسئلة التي تتعلق بماهية الصحافة وغايتها، وفي تجديد الانشغال بدورها في مقاومة استراتيجيات التنميط والمحو…
يستدعي التشخيص أن نُقِر بواقع موضوعي لا سبيل لحجبه. صحافة اليوم تعيش في مفترق طرق، في وضع صعب جدا. نحن إزاء لحظة مِفصلية وفارقة جدا في مسارها. دعوني أستعير معكم العبارة الشهيرة للمفكر أنطونيو غرامشي: “جسد على وشك الوضع، يترنح بين ماض لم يمت وحاضر لم يولد”. أو لِنَقل بعد تحوير العبارة: نحن أمام صحافة على وشك الوضع، في طور تشكل مولود جديد…واضح أن كثيرا من ثوابت المهنة ماضية نحو التفتت والتحلل. يتوجب أن نَصدح بصوت عالٍ جدا، وأن نؤسس جبهة للمقاومة للقول بأن الصحافة في البدء والمنتهى هي موقف؛ وهي أيضا قضية إحساس وشغف تَصدر عن رؤية فكرية وحِس منهجي والتزام أخلاقي ومنهي…
ما معنى أن تكون صحافيا اليوم؟
شرعية السؤال تستمد وجوديتها من عُنف التحول الكبير الذي يُقوض المكتسبات. أن تكون صحافيا معناه أن يكون لك موقف واضح مما يحدث. في الصحافة لا يمكن أن نتحدث عن مفهوم “المسافة الإبستيمولوجية” و”الحياد الإبستيمولوجي” الذي تحدث عنه السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر، لأننا نتعامل مع وقائع تقتضي إبداء رأي وموقف…
على مِهاد الهنا والهناك، تضيق هوامش التعبير يوما عن آخر، وطيور الغربان “إيديولوجيات السلطة” تقتنص طيور السَّعد كما قال الروائي عبد العزيز أيت بنصالح في رواية طيور السعد. لم تعد الأنظمة السياسية اليوم ترغب في سماع من ينتقدها.
قبل قرن من الآن، لمَّح السوسيولوجي غانتر غراس إلى فكرة جذابة: “السوسيولوجي هو الذي تأتي الفضيحة على لسانه”، وقبل نصف قرن قال الفيلسوف الفرنسي مشيل فوكو وهو الذي امتهن الصحافة مُدة حينما غطى أحداث الثورة الخمينية: “الصحافي هو الذي يظهر الدولة في جسدها العاري”. صحافة اليوم أمام مسؤولية تاريخية، أمام ما سماه فيلسوف الذاكرة ومؤرخ النسيان بول ريكور ب”واجب الذاكرة” الذي يتطلب أن نصدح بالحقيقة لإزالة الغشاوة عن الأعين المغبوشة…
يتوجب علينا جميعا أن نترافع من أجل صحافة تحمل رؤية ثقافية وأكاديمية، وتُقرب إلى القارئ، كان عاديا أو متخصصا، جديد الإنتاجات العِلمية والفكرية والأكاديمية…مثلما نحن مطالبون اليوم بأن نُدرج المساهمات الصحفية ضمن قوائم المقالات العلمية. في ذات السياق، تجربة الأوروبيين فارقة في هذا الصدد، حينما نعرف كيف لمقالات بعض الصحافيين أن خرجت من رَحِمها أطروحات جامعية لا تزال تَرِنُّ في آذان الباحثين.
لا مبرر اليوم، لثقافة الاستخفاف لدى البعض بالمقالات الصحفية. هنا سأفتح قوسا مهما، حول تجربة “كتابة التاريخ الراهن وتوثيق الذاكرة” في الغرب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي بدأ صداها من شُرفة أعمدة الصحافة، وحتى في المغرب أيضا، لا يمكن الحديث عن العهد الجديد وهيأة الانصاف والمصالحة دون العودة إلى كتابات الصحفي الفرنسي جان لاكوتير وإيريك لوران وغيرهم…
في كتابه “مشاكل سوسيولوجيا الأدب” الصادر سنة 1960 ينافح المثقف ألبير مِمّي عن فكرة مهمة جدا: “الصحافة ليست تجربة ذاتية، بل خيار سياسي، وأداة للمقاومة”. وبالفعل، راكمت الصحافة، وخاصة الأدبية منها رصيدا مهما من القراءات والتعليقات حوَّلها أصحابها إلى كتب نقدية. ميزة الصحافة الثقافية أنها تتوجه إلى عموم القراء، مهتمين أو عاديين. وحتى إذا ما أردنا تعقب علاقة الصحافة والجامعة، يمكن أن أحدثكم عن تجربة مهمة جدا، وهي تجربة الصحافة والتاريخ. في حقل التاريخ، هناك مؤرخون كبار ولجوا مهنة التاريخ من شُرفة الصحافة، علينا أن نستحضر في هذا الصدد، آلان نيفين Alain Neven في أمريكا مؤسس التاريخ الشفوي، وفي فرنسا جان لاكوتير Jean Lacouture الصحفي المشهور في جريدة لوموند ومؤسس سلسلة التاريخ الفوري، والصحفي روني ريمون Rene Ramon الذي دعا إلى البحث في الملفات الحارقة، والأسماء كثيرة في هذا السياق. لكن، علينا أن نَحذر من التناول الصحفي، لأنه ينزلق إلى التضخيم والمبالغة، إلى التشويق والإثارة…وهي عيوب يتوجب أن نستشعرها.
الصحافي شخص مُؤتمن على كتابة الحاضر، والمؤرخ شخص مؤتمن على بناء الماضي. صحفي اليوم هو مؤرخ الغد يحمل على عاتقه ثقل الخبر والواقعة والحدث والحقيقة، وكل مقال يكتب هو شهادة تاريخية، ودور الصحافي أن يُسمع الصوت لمن لا صوت لهم، لمن حُكم عليهم أن يستوطنوا دوما في هوامش النسيان. هنا يتوجب علينا أن نستحضر تجربة مهمة جدا، قامت بها مدرسة السوبالترين ستاديز Subaltern Studies في الهند مع المؤرخ ادوارد تومسون Edward Herbert Thompson حينما وجهت أنظار الباحثين والصحافيين إلى كتابة تاريخ المهمشين.