الضياع الأنطولوجي في فلسفة مارتن هيدغر

 

لقد استطاع هيدغر أن يقف عند مشكلة معقدة لا يُعَدّ أمراً سهلاً تناولها على المستوى المنهجي تتعلق بأنّ الثقافة الإنسانية على وجه العموم والفلسفية منها على وجه الخصوص قد غابت عن كلتيهما العناية بالتساؤل عن معنى الوجود ما أفضى إلى إهمال الوجود وغؤوره في النسيان. ويعزو هيدغر تجاهل مسألة الوجود إلى افتراضات مسبقة منعت الفكر الإنساني من الإقدام على أي محاولة يكون الهدف منها هو تصيير الوجود موضوعة لبحث دقيق منظم يمكن استناداً إليه الوصول إلى نتائج ذات قيمة. وتتحدد هذه الافتراضات المسبقة في أنَّ الوجود هو أكثر المفاهيم كليّةً، وأنه غير قابل للتعريف، هذا إلى أن مفهوم الوجود هو من بين كل المفاهيم يكون الاكثر وضوحاً، وبالتالي هذا يمنع أية محاولة للبحث من حيث إنها سوف تصطدم بالعمومية المطلقة للوجود التي تجعله نادَّاً عن أي تعيين منهجي بقصد دراسته، كما أنَّ الوجود هو ما تُعرف به الأشياء ولا يوجد ما يمكن أن نعرف بوساطته الوجود؛ إلا أنه سوف نكتشف في النهاية أنه وجود لا غير، هذا إلى أنَّ وضوح الوجود يجعل من غير المتاح البحث فيه؛ لأنه لا يمكن الوصول إلى معرفة أبعد من هذا الوضوح عينه.
غير أنَّ هيدغر قام بتفنيد هذه الافتراضات المسبقة، مؤكداً أنها هي أنفسها تصير حوافز للبحث في الوجود. ووجد أنه إزاء مطلب يجب تحقيقه وفهمه من منطلق أنَّ تأسيس البنية الصورية لسؤال الوجود يسهم في تصييغ هذا السؤال. ولا يُعدّ غريباً أنَّ الابتداء بعملية التساؤل عن معنى الوجود يمكن أن يستند بادئ ذي بدء إلى فهم الإنسان للوجود وذلك من حيث هو إنسان لا يمكن أن يكون مجذوذ الصلة بالوجود، لكن على الرغم من ذلك يجب ألا ننظر إلى هذا الفهم عينه للوجود من دون تدقيق؛ بل يجب أن نتعامل معه بما يسهم في تصييغ سؤال الوجود على نحو صحيح.
ولا غرو أنَّ طرح السؤال عن معنى الوجود يقتضي مدخلاً مناسباً له، ولا يوجد مدخل مناسب سوى الموجودات، لكن الموجودات كثيرة، فأي موجود منها نختاره ليكون مدخلاً للسؤال؟ هنا ارتأى هيدغر أنَّ الموجود المختار لهذه المهمة هو الموجود الذي يكون قادراً على طرح سؤال الوجود، أي الموجود الإنسانيّ نفسه، أو على حدّ تعبير هيدغر الدازاين، الذي يمتاز من بين سائر الموجودات الأخرى بطريقته في الوجود، فبينا سائر الموجودات توجد، فإنه هو وحده ينوجد، أي ينفعل بوجوده إلى أقصى حدّ هادفاً من ذلك إلى الخروج من ذاته باستمرار من أجل تحقيق إمكانياته، فنمط وجوده يتجلى في الاتجاه نحو تحقيق الإمكانيات وهذا هو الانوجاد؛
لكن بما أنَّ هيدغر بوصفه باحثاً عن جواب لسؤال الوجود، فهو نفسه يتحدد على أنه دازاين. وعليه صار الدازاين باحثاً في الدازاين. والحقيقة أنَّ هذا الضرب من البحث يواجه صعوبات تتعلق بمدى قدرة الباحث على الالتزام بمنهج يحيد الذاتية إلى أقصى حدّ ويلتزم بمعايير صارمة توجّه مساره؛ لكن هل من المقبول اختزال الوجود الإنساني في تنوعه الهائل في التصور الذي وضعه هيدغر عن الدازاين؟ الواقع أنَّ هذا الامر غير مقبول؛ لأنَّ التفاوت الكبير بين سلوكات البشر وغاياتهم وتصوراتهم عمَّا يجب أن تكون عليه طرق وجودهم يقدح في أية محاولة لوضع نموذج يشمل البشر جميعاً ويؤطرهم فيه مهما كان هذا التصور عميقاً.
ويؤكد هيدغر على أي حال على ما سمَّاها الأولوية الأنطولوجية لسؤال الوجود، بمعنى أنه ربط مصير العلوم كافةً بالجواب عن هذا السؤال، فالعلوم على اختلافها تُعنى بمناطق وجودية متنوعة بتنوع هذه العلوم أنفسها، وبالتالي هي لا تُعنى بالوجود الساري في هذه المناطق كلها، أي أنها غير مؤسسة أنطولوجيّاً بسبب من أنها علوم أنطيقية، أي موجودية ينصب كل منها على إقليم معين من الموجود، وبالتالي يصير البحث عن إجابة لسؤال الوجود من منطلق أنَّ الدازاين هو المدخل لتقديم هذه الإجابة واهباً الأساس الحقيقي لهذه العلوم.
وعندما شرع هيدغر بالبحث في الدازاين من منطلق طريقته في الوجود، أي الانوجاد، حدَّد منهجيته في هذا السياق على أنها تحليليّة انوجاديّة تُعنى بالدازاين من ناحية موجودية أو أنطيقية، أي تبحث فيه من حيث هو موجود في الوجود، ينوجد وفقاً لنمط وجوده ويعاني انوجاده الذي يكون في العالم ومع الناس ويتصف بالهم أو القلق أو الوجود من أجل الموت،إلخ.
غير أنَّ هذه التحليلية الانوجادية غير كافية للوصول إلى الهدف المنشود؛ لأنها بحاجة إلى إكمال منهجي حدَّده هيدغر من منطلق الحاجة إلى تحليليَّة أخرى سمَّاها التحليلية الوجوديّة التي تُعنى بما هو أنطولوجي كتكملة للتحليليَّة الانوجاديَّة التي عُنيت بما هو أنطيقي، وبالتالي تكشف التحليلية الوجودية عن بنيات الانوجاد، ومن هنا ينتقل هيدغر من البحث الموجودي إلى البحث الوجودي؛ لكن في الحقيقة الحفاظ على الموازاة أو التوازن بين ذينك البحثين يُعد أمراً شاقاً، سببه هو اضطرار هيدغر إلى الانتقال من الرؤية الموجودية العينية إلى الرؤية الوجودية الشاملة، أي الانتقال من الواقعة إلى التعميم، دون أن يكون في الواقعة مسوِّغ مقنع للاتجاه بها نحو التعميم، لذلك ذهب هيدغر من دون تأسيس كاف إلى التأكيد على أن البنيات التي يكشفها بفعل تكامل التحليليتين الانوجادية والوجودية ليست بنيات عرضية؛ وإنما هي بنيات ماهوية، على الرغم من أن هيدغر عُني بكشف هذه البنيات على أساس من البحث في الدازاين كوجود-في- العالم يقضي بذلك؛ لكن هذا التبرير غير كاف بسبب أنَّ وجود الموجود الإنسانيّ في العالم لا يختزل في الدازاين على الإطلاق؛ لأنَّ هناك ضروب من الوجود لهذا الموجود عينه لم يُدخلها هيدغر في عملية الكشف.


الكاتب : علي محمد إسبر

  

بتاريخ : 27/07/2023