العالم بعد كورونا : موازين قوى تستعاد من بوابة الألم والموت

المفكر كمال عبد اللطيف:  النقد المناسب للتعولم  في أبعاده الاستهلاكية يكون بالتنمية

 

كثير من اليقينيات والقناعات ستتلاشى، حتما، بعد انتهاء الجائحة، وستفرز تبعات كورونا عالما جديدا مغايرا وأفقا جديدا متعدد الأقطاب، وباسترتيجيات ستبنى بدون شك على نتائج وتداعيات الوباء.
هل ستحدث الجائحة تغييرا في ميزان القوى بين الصين والغرب؟ وكيف سيتم تشكيل وبناء التقاطبات والصراعات وحتى آليات التضامن بين الدول التي ، بالنظر الى أشكال تدبير الأزمة داخليا خصوصا في أوربا، ستتجه إلى البحث عن تعاقد عالمي جديد؟
إن ما حصل ويحصل اليوم ، ولا نتكهن بما سيليه من الأيام، أظهر أن الجائحة لا تقف عند ثنائية الصحة أو المرض وإنما سيمتد الى كافة أجنحة الحياة: السياسة والثقافة والاقتصاد والدين وعلم الاجتماع، وقد تتقوى بعدها بعض السلط والقيم على حساب سلط أخرى ، وقد تولد وتتأسس قيم جديدة.
هل ستخرج الإنسانية من هذا الامتحان أكثر أخلاقية، وتتحرر من سطوة التوجه الاستهلاكي والتصنيعي ومن نزعات الفردانية، أم أنها ستسمر في صناعة «نهاية التاريخ» بأشكال ولبوس أخرى وتستمر في التغني بمنجزات «العولمة السعيدة»؟
الأكيد من هذه الأسئلة كلها هو أن العالم اليوم مدعو إلى إعادة ترتيب أوراقه وتحيين أولوياته، وأولها الاهتمام بالبحث العلمي والاستثمار في قطاعي الصحة والتعليم لكسب الرهان أمام كل الأزمات التي ستواجه الإنسانية مستقبلا.
وإذا كان من المتعذر أو الصعب اليوم، إطلاق أحكام وتقييمات لما حصل، ورسم ملامح لصورة العالم بعد الجائحة، وهو ما يقتضي من المفكرين والباحثين مسافة زمنية مناسبة للتحليل والاستشراف، تحليل مجريات الأحداث وتوجهات السياسات، سواء منها العمومية أو الدولية، أو قراءة طالع السلوك الإنساني بشكل علمي يستند الى مناهج البحث االعلمي أو الاجتماعي، فإننا في هذا الملف الذي سيتطرق الى آراء مفكرين وعلماء اجتماع وفلسفة، نحاول، فقط، الاقتراب شيئا ما وبنسبية أكبر ، رسم بورتريه أولي لوجه العالم، والمغرب ضمنه، في انتظار أن تتضح الصورة أكثر.

 

هل يمكن الحديث اليوم، بعد ما يقارب خمسة أشهر على ظهور الجائحة، عن ملامح عالم جديد قيد التشكل؟

بدأ الحديث عن عالم ما بعد كورونا في وقت لا تزال فيه الجائحة، مستمرة، وقد أصبحت تفرض علينا اليوم نمطا من العيش لا عهد لنا به… يمكن التفكير في مرحلة ما بعد كورونا، من زاويتين: زاوية الما بعد، أي زاوية اللايقين، وزاوية الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها مما جرى ويجري، بناء على توافقات عديدة في موضوع إعادة بناء مجتمعنا بعد الجائحة.
عندما أتابع الأحاديث والمواقف المتداولة في موضوع ما بعد كورونا، أتعجب من النزوع اليقيني الذي يحكم كثيرا من المواقف خاصة في مسألة تحولات النظام الدولي والعلاقات الدولية، كما أتعجب من المواقف التي ترى أن الجائحة ستدفعنا إلى مراجعة مسارات التعولم الاستهلاكي الذي انخرط فيه العالم تحت ضغط مقتضيات الرأسمالية المتوحشة، إضافة إلى المواقف التي تطالب بمراجعة خيارات المؤسسات الدولية المالية، لكن السؤال الذي يمكن طرحه هنا، هو: هل بإمكان ما بعد الجائحة أن ينتصر لما ذكرنا؟

الجائحة كشفت إذن هشاشة الأنظمة الصحية والاقتصادية بالعالم، لكن بصورة أكثر حدة في دول العالم الثالث، ومنها المغرب؟

إذا اقتربنا أكثر من قلب الجائحة، سنجد أنها عرت كثيرا من الأوجه المستورة في حياتنا. صحيح أننا كنا نعرف واقع مستشفياتنا كما نعرف أوجه فسادنا، إلا أن الوباء كشف عدد ضحايانا وكشف درجات فزعنا، فازدادت الأمور تعقيدا.
تراكمت منذ سنوات أخطاء سياسية أدخلت مجتمعاتنا في دوامة أبعدتنا كلية عن دروب الأمل والحلم، دروب محاربة الفساد والريع السياسي، حيث استأنسنا في سياستنا العمومية بوتيرة التراجع وأكثرنا من الجدل الهوياتي المحافظ في موضوع التعليم وبرامجه ولغاته، متناسين أن للمعرفة مختبراتها ومنطقها ولغاتها ، ولم ننجح وسط الضجيج العقائدي المرتفع والمتواصل في بلورة مبادرات وخيارات تكفل لنا إمكانية الاقتراب مما نتطلع إليه فتضاعفت الخسائر والمآزق، ولم نقم بالمراجعات المطلوبة إلى أن جاءت كورونا وتحولت إلى مرآة كبرى كاشفة لما كنا نظن أن مساحيقنا الملونة، تخفيه.

مغربيا، وقفنا على فشل تدبيري كبير في قطاعي الصحة والاقتصاد خصوصا، هل آن الأوان لمراجعة السياسات التدبيرية بشكل جذري، مراجعة تستفيد من المعطيات التي أفرزتها الجائحة؟

واجهنا في مرآة كورونا هشاشتنا وخوفنا وانقباضنا، كما واجهنا هشاشة بنياتنا التحتية في القطاع الصحي، وفقرنا الكبير في الموارد البشرية، إضافة إلى غياب المؤسسات والمختبرات البحثية التي يفترض أن تكون جزءا متمما لفضاءات العمل في القطاع.
ولأن كورونا- كما وضحنا- مرآة، فقد أدركنا ونحن نعاين ذاتنا فيها، أن ميزانيتنا السنوية لا تستوعب البند المتعلق بالكوارث والأوبئة، وما لا يمكن توقعه أو التنبؤ بحصوله، إضافة إلى غياب مقتضيات الحماية الاجتماعية في اقتصاد متخلف، وبمديونية تتزايد وتدعو إلى القيام بسياسات ترفع فيها يد الدولة عن جملة من المرافق الاجتماعية والاقتصادية.
كشفت أحوال كورونا كثيرا من أوجه سوء تدبيرنا لسياستنا العمومية، ليس في القطاع الصحي وحده بل في مختلف القطاعات المرتبطة بحياتنا، إلا أنه يجب أن لا نغفل أن كورونا – مثلها في ذلك مثل كل الكوارث التي تحصل في التاريخ – تضمر وجها إيجابيا، وأنها مثل كل الصدمات والمآزق في التاريخ، تدفعنا إلى استخلاص الدروس التي تحملها، والتي يصعب علينا إدراك ملامحها وفرز عناصرها بوضوح كاف في الوقت الراهن، بحكم أن أهوال الجائحة التي تقبض أنفاسنا خوفا من فيروس قاتل لا يُرى، تجعلنا نُصاب بالعمى.. وإذا ما حاولنا الانتباه جيدا لمختلف ما جرى ويجري منذ حصولها، سندرك أننا اليوم في حاجة إلى المزيد من التشبث بالأمل، حيث ينبغي أن نواصل التغني بقيم العلم والمعرفة، ونواصل الحديث دون حرج بلغات الحلم واليوتوبيا بحكم الاقتران الذي نفترض وجوده بين تطلعاتنا المعرفية، وآمالنا في بناء مجتمع أكثر توازنا وعدلا. فقد تتيح لنا الدروس التي تحملها الجائحة بلغة مشفرة، أن نتجاوز محنها وانفعالاتها.
لنواصل ونحن نَعْبُر أجواء الجائحة الخانقة، لنواصل، ثقتنا في ضرورة التحديث، لنواصل اقتناعنا بالعلم وبالتاريخ لأنه لا شيء يمكن أن ينقذنا من ويلات كل ما ذكرنا غير هذا… ولنعمل على إصلاح أنظمة الاقتصاد والتعليم والصحة والبحث العلمي، ضمانا لحماية اجتماعية غير منقوصة،وذلك بكل ما تحمله المطالب المشار إليها من دور مؤكد وبارز للدولة ووظائفها في مجتمعنا.
أشرت إلى إصلاح أنظمتنا في التعليم، وأهمية عنايتنا بالثقافة والمعرفة، بحكم ملاحظتي أن كثيرا من صور معاناتنا في ظل كابوس الجائحة، تعود في بعض أوجهها إلى سطوة ثقافة التقليد، وقد أصبحت تهيمن اليوم في واقعنا. فقد تغلغلت أيضا في وسائطنا الاجتماعية ، الأمر الذي أدخلنا في متاهات بعيدة كل البعد عن الجائحة وتداعياتها، وأفقدنا القدرة على مواجهة ما يجري أمامنا، وأفقدنا، بالتالي، القدرة على الأمل والحلم وبناء ما يتيح لنا إمكانيات الانتصار على العلل والمخاطر التي تملأ واقعنا.
إن الثقة في العلم وفي البحث العلمي، وبالروح النسبية اللازمة لهما، هي ما يجعلنا نرتب أحوالنا في الزمن الاعتيادي وفي زمن الكوارث والجوائح بثقة وبأمل في تجاوز مختلف الصعاب. فلنحرص على تربية الأجيال الناشئة في أفق المعرفة والأمل من أجل تهييئها لمواجهة مختلف الصعاب والأوبئة والأزمات.

سيتجه العالم، حتما، بعد الجائحة إلى إعادة ترتيب أوراقه ومصالحه. هل سنرى وجها جديدا للعولمة، أم ستتجه الدول إلى الانكفاء والانغلاق على مجتمعاتها الداخلية؟

أوضح في البداية صعوبات الحديث عن المستقبل، ولا أتصور أن هناك سيناريوهات مؤكدة في هذا الباب. هناك احتمالات مفتوحة على أكثر من خيار، وهناك مسارات قائمة بحسب موازين القوى السائدة، رسمت لها الحدود والشروط والسياقات مثلما هو عليه الحال في موضوع العولمة والتعولم القائم، وثورات تقنية الاتصال والتواصل وما تستوعبه من عمليات إسناد العولمة، وتعزيز مسارات اقتصاديات المعرفة التي أحدثت ثورة في مجال السوق والخدمات وفي عالم الشغل والأعمال.
إن ما أريد توضيحه هنا هو أن خيار التعولم لم يعد اليوم أمرا قابلا للتوقيف أو الإلغاء.. قد تُوقِفُ الجوائح والحروب بعض أجنحة التعولم، إلا أن محاصرة الأوبئة والقضاء عليها، يُمَكِّن البشر لاحقا من تطوير آليات عملها..
نتصور أن النقد المناسب للتعولم في أبعاده الاستهلاكية يكون بالتنمية، كما يكون بتطوير آليات عمل المنتظم الدولي ومؤسساته، وهذه الأمور تتطلب مزيدا من العمل من أجل اختراق موازين القوى الدولية القائمة، وبناء بدائلها دون الإخلال بالمكاسب والمنجزات التي عمل البشر، ويعملون، باستمرار على بلوغها.

الصراع الدائر اليوم بين أمريكا والصين بخصوص المسؤولية في ما حدث، والتسابق نحو إيجاد علاج، يحمل في طياته ملامح من سيقود العالم في المستقبل. هل هو وجه آخر من صراع الحضارات يستعاد اليوم من بوابة الألم والموت؟
هذه موضوعات مركبة ومعقدة. من سيقود العالم بعد كورونا؟ لكن من يقود العالم اليوم؟ ومن أوصلنا إلى الجائحة؟ ومن سينقذنا منها؟
هذا النوع من الأسئلة قد لا يكون مفيدا اليوم. فهناك العديد من القضايا التي لا تزال غامضة في موضوع الوباء، وهناك قضايا أخرى يرتبط مجال بحثها، أساسا، بالتطبيب والعلاج. صحيح أن هناك إجابات على مثل هذه الأسئلة، إلا أن صلاحيتها لا تتجاوز صلاحية تمارين التدريب على صياغة الاحتمالات الممكنة في الموضوعات المركبة، بالإضافة إلى أن هناك إجابات يكتفي أصحابها بتسجيل موقف سياسي مثل ما قرأته مؤخرا في بعض الآراء التي تشير إلى «نهاية أوربا» أمام الصين، أو ترجيح قوة الصين الصاعدة على القوة الأمريكية وأرصدتها السياسية والاقتصادية..
أما في موضوع علاج كورونا، والتسابق بين من ذكرتِ عمن سيكون له السبق في إيجاد اللقاح والعلاج، فإنني أرى أن لقاح كورونا وأدويتها، تشرطه أمور ترتبط بالبحث العلمي وبعلوم الأوبئة في الدول المتقدمة علميا واقتصاديا. أما الحسابات الآنية التي يتداخل فيها المعرفي بالبحثي، بالربحي وبالصراع السياسي والأخلاقي في التاريخ، فإنها أمور تضعنا أمام مستويات أخرى من الفهم والتحليل.


الكاتب : حاورته: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 17/04/2020