العرض الوطني للتخييم 2025: حان الوقت للتخلص من فوبيا «المخيمات الدامجة»… والوعي بضرورة تنزيل التخييم بالقيم وعلى القيم

نعيش على وقع التحولات السريعة، وتتقاطع الأزمات، في سياق دولي ومحلي تنهار فيه منظومة القيم، وتشتد فيه الحاجة إلى تربية تعيد للإنسان معناه…في ظل هذا التحدي المجتمعي والقيمي يُطلّ علينا موسم التخييم الوطني 2025 ..لا كمجرد موعد سنوي عابر، بل كفرصة ذهبية لإعادة بناء الجسور بين القيم والواقع، بين الفعل التربوي وحياة الأجيال القادمة. فالمخيمات اليوم ليست مناسبة للترفيه فقط، بل أصبحت ورشًا لبناء الإنسان ولإنتاج معنى جديد للمواطنة، ولغرس قيمٍ لا تصدأ مع الزمن.
هذا ونحن نعيش أزمة انحسار وظيفة المدرسة، وتُصاب أنظمة التنشئة بالعطب، لا بد من بدائل أكثر حرية، أكثر التصاقًا بالواقع، وأكثر قدرة على احتضان الطفولة كما هي، دون تزييف أو تجميل. وهنا، تظهر المخيمات كمنصات غير نمطية للتربية، كمختبرات مفتوحة على كل إمكانيات الإبداع التربوي، ومجالات رحبة لإعادة صياغة علاقة الطفل بالعالم، لا من منطلق التلقين، بل من منطلق التفاعل والمشاركة.
إن التربية بالقيم وعلى القيم ليست ترفًا ولا شعارًا يليق خطابيا، بل هي صيرورة تربوية تتطلب وعيًا عميقًا بالسياق، والتزامًا عمليًا طويل النفس. هي جوهر الفعل التخييمي، وروحه الحقيقية. المخيمات التي لا تُربي على الصدق، على احترام الآخر، على الانضباط الذاتي، على التعايش في ظل التنوع، تفقد معناها، وتتحول إلى مجرّد لحظة ترفيهية بلا أثر.
إننا حين نختار أن تكون مخيماتنا حاضنةً حقيقية لقيم التضامن والمساواة والتسامح والحق في الاختلاف والتعدد والحق في التعبير المؤطر بمبدأ» ملاءمة الحق بالواجب»، فإننا نعيد للمخيم رسالته الكبرى: أن يكون مشتلا للمواطنة النشيطة، وللأمل، وللثقة في الآخر وفي النفس. هذه القيم لا تُدرس في الكتب، بل تُمارس في الحياة اليومية: في تنظيم الصفوف، في المشاركة في ورشات الفن، في الاحترام ، في الإنصات للجماعة، في حماية البيئة، في تقديم المساعدة .
ومن هنا، فإن الرهان الأكبر اليوم لا يكمُن فقط في ضمان الجودة التربوية، بل في ضمان عدالة الولوج إلى هذه الجودة. أي معنى للمخيمات إن لم تفتح أبوابها لأطفال المناطق النائية؟ أي فخر يمكن أن نشعر به كمؤطرين ومجتمع مدني إذا كنا نعزل فئاتٍ بأكملها من الحق في التخييم؟ وهنا نتحدث عن المخيمات الدامجة، لا كمجرد صيغة تقنية، بل كمبدأ أخلاقي، كفلسفة نابعة من روح المواطنة.
إن دمج الأطفال في وضعية إعاقة داخل المنظومة التخييمية ليس امتيازًا نمنحه لهم، بل هو حق أصيل، وهو في الوقت نفسه فرصة لباقي الأطفال ليتشربوا قيم التعايش مع المختلف، ويكتشفوا غنى التجربة الإنسانية. إن المخيم الذي لا يتسع للكرسي المتحرك، أو لا يخصص برامجه بلغة الإشارة، أو لا يوفر بيئة ملائمة مكيفة حقيقية للمكفوفين، ليس فقط مخيمًا ناقصًا، بل هو انعكاس لمجتمع لا يزال يُقصي ويُهمّش…
إن المخيم الذي لا يدمج أطفال التوحد وثلاثيي الصبغيين، ومن يتعايشون مع أمراض مزمنة… يحاكم بقسوة هشاشة رؤيتنا ومفهوم العدالة والإنصاف التخييمين.
نريد أن يصبح المخيم الدامج هو القاعدة لا الاستثناء. أن يصبح كل مؤطر مُكونًا فعلًا في أساسيات التعامل مع الإعاقة. أن يصبح الكل مؤمنًا بأن الدمج ليس عبئًا، بل ثراء. أن نصمم الأنشطة من بدايتها على قاعدة التنوع، لا على قاعدة التأقلم بعد فوات الأوان.
المخيم الدامج ليس فقط في الفضاء والمرافق، بل في التخطيط الذهني والبرمجة الشعورية، في تشكيل الفرق وتوزيع الأدوار. حينما يشعر الطفل في وضعية إعاقة أنه جزء من اللعبة، من الأغنية، من الورشة، من السهرة واللعبة الكبرى ومن التنافس وفق خصوصيته، حينها فقط نكون قد بدأنا في التربية الحقيقية على الإنصاف.
ولكي لا يبقى هذا الخطاب حبيس الورق أو العروض، لا بد من تعبئة جماعية. الدولة، عبر قطاع الشباب والطفولة وكل القطاعات المعنية، عليها أن تجعل من الدمج محورًا للتقييم والدعم، والجمعيات، باعتبارها شريكة في الفعل الميداني، يجب أن تُعيد النظر في تصوراتها التربوية، وفي تكوين المؤطرين، وفي بنياتها الإدارية واللوجستيكية … لا ننكر توفر الإرادة العمومية الواعية بالرهانات الجديدة، لكن التربية بالقيم والدامجة إسقاط أفقي على محاور … التكوين … والبنيات التحتية والوعي المدني والمنهاج التخييمي. كما أن للإعلام دورًا لا يقل أهمية: عليه أن يُنقل الصورة الحقيقية للمخيمات الدامجة، أن يحتفي بالنماذج الملهمة، أن يُسلط الضوء على الأطفال ذوي الهمم كفاعلين لا كضحايا. فالإعاقة ليست مأساة، بل شكل من أشكال العيش المختلف، وهي لا تُلغي الطاقة، ولا تحجب الذكاء، بل تتطلب فقط بيئة دامجة ومؤطرة بوعي إنساني.
إن المخيمات الوطنية لهذا العام أمام مسؤولية تاريخية: أن تُبرهن أن الرهانات الكبرى يمكن أن تُترجم على الأرض. أن تكون التربية بالقيم ملموسةً في كل سلوك، في كل علاقة، في كل نشاط. أن يكون الدمج ممارسةً يومية، لا فوبيا تنظيمية. أن يُتاح لكل طفل، مهما كانت إعاقته، أن يبتسم، أن يحلم، أن يشارك، أن يتألق.
ولن يتم ذلك إلا إذا خرجنا من منطق الخوف من المبادرة والتجريب، ودخلنا في منطق الإبداع التربوي العميق. أن نُكوّن المؤطر لا كمُنفذ، بل كفاعل. أن نمنح الجمعيات التربوية الإمكانيات والدعم اللازم لتُبدع وتبتكر، أن نثق في الطفل ككائن قادر على المساهمة لا فقط التلقي.
لذلك، ندعو اليوم كل الفاعلين التربويين، وكل المؤمنين بأن التخييم أكثر من لعب وأناشيد، إلى الالتفاف حول هذا الورش القيمي. لنُعيد الاعتبار لمعنى التربية. لنصنع من كل موسم تخييمي مدرسةً مفتوحة في ترسيخ قيم العدل والتعايش ودمج واع يصنع العدالة. لننقل الأطفال من عوالم العزلة إلى رحابة الجماعة. لنُحَوّل المخيمات إلى حاضنات للمستقبل الذي نحلم به.
فهل نملك الجرأة التربوية للقيام بهذه النقلة؟ هل نستطيع أن نُعيد بناء مخيمات تُشبه أحلام الطفولة، لا مخاوف الكبار؟ هل نستطيع أن نؤسس فعلًا لمخيمٍ يُعانق القيم في العمق، لا في الهامش؟ هل سنكون في الموعد، هذه المرة؟
أسئلةٌ ليست بسيطة، لكنها ممكنة التحقيق. فقط إن آمنا بأن الطفل ليس مشروعًا مؤجلًا، بل حاضرٌ يستحق كل الاستثمار. فقط إن فهمنا أن التربية ليست درسًا، بل علاقة. وأن المخيم ليس فسحة، بل فعل مدني متجدد. فقط إن حولنا كل خطوة في المخيم إلى رسالة، وكل لحظة إلى وعد بمستقبلٍ أجمل. هكذا نصنع التغيير. وهكذا نُربّي. وهكذا نبني الوطن.


الكاتب : محمد قمار

  

بتاريخ : 17/06/2025