تحلّ معهم أجيال جديدة لتعزيز الهوية والانتماء ومحاولة استيعاب التغيرات المجتمعية المختلفة
مع حلول كل صيف، تشهد المطارات والموانئ المغربية عودة مهمة لأفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج، حيث تحضر مشاهد العناق والدموع، والفرحة العارمة بلمّ الشمل، والهدايا المحمولة بعناية، وتكون هذه اللحظات طقسا متكررا يعيد نفسه كل عام، لكن خلف هذا المشهد الجميل، تختبئ حقيقة اجتماعية وإنسانية معقدة، يعيشها الآلاف من أبناء الوطن في صمت والتي تتعلق بما يصفه البعض بـ «صدمة العودة» أو ما يتم نعته كذلك بـ «صدام الثقافات» الأمر الذي يضعهم أمام واقع قد يكون مختلفًا كليا عن الصورة التي يحملونها في ذاكرتهم عن «المغرب».
تشكل الجالية المغربية المقيمة بالخارج، التي تشير الأرقام إلى أنها تقدّر بأزيد من 6 ملايين شخص، جزءا مهما من النسيج الوطني، وتلعب دورا اقتصاديا واجتماعيا حيويا، خاصة من خلال التحويلات المالية التي تتجاوز 100 مليار درهم سنويا. ورغم الروابط المتينة التي تجمعهم بالوطن، إلا أن الكثير منهم، خصوصا المنتمين للجيل الثاني والثالث، يواجهون عند العودة الموسمية صعوبة في التكيف مع الإيقاع اليومي، والتقاليد، ونمط العيش المحلي. هذا الصدام الثقافي يُولد عند البعض منهم شعورا بالاغتراب داخل بلدهم الأصلي، ويطرح تحديات مرتبطة بالهوية والانتماء.
حنين وارتباك
في تصريح خصت به «نادية» جريدة الاتحاد الاشتراكي، وهي شابة مغربية ولدت في إسبانيا، وتزور المغرب كل صيف مع عائلتها، أكدت قائلة «أحب زيارة المغرب، وتعتبر هذه اللحظة مهمة في حياتي، وإن كنت أجد بعض الاختلافات التي تمنعني من الانصهار وسط المواطنين، فالناس هنا مختلفون، عاداتهم، نظرتهم للمرأة، حتى طريقة اللباس تُعرضني أحيانا للانتقاد، عكس ما أكون فيه في إسبانيا لأنني هناك أشعر بأنني أعيش حياة طبيعية بعيدا عن نظرات الغير في حين أنني هنا أحس بأنني تحت المجهر.»
مثل نادية، هناك عدد من أبناء الجالية، خاصة الشباب الذين وُلدوا أو نشأوا في أوروبا، الذي يجدون صعوبة في التكيّف مع إيقاع الحياة المغربية، فبعضهم لا يتحدثون بالدارجة بطلاقة، ولا يفهمون رمزية بعض السلوكيات والعلاقات الاجتماعية، كما أنهم يُفاجَؤون أحيانا بتفاوت كبير في القيم، سواء على مستوى الحرية الفردية أو التواصل الأسري.
بين الوطن والهوية المزدوجة
تزداد الظاهرة وضوحا لدى الجيل الثاني والثالث من المهاجرين المغاربة، الذين يحملون جوازات سفر أوروبية، لكنهم يحتفظون بجذورهم المغربية. هذا الجيل يعيش «هوية مزدوجة»، فهو لا يشعر بالانتماء الكامل لا لبلد الإقامة ولا لبلد الأصل، بحسب تصريحات عدد من المتتبعين، وهو ما يجعل في نظرهم زيارة المغرب تجربة مشحونة بالتساؤلات.
«كريم» يبلغ من العمر 17 سنة، جاء من بلجيكا لزيارة عائلته في الدار البيضاء، يقول للجريدة «أنا مغربي في بلجيكا، وبلجيكي في المغرب، وأحيانا أحس بأنني غريب هنا وهناك». هذا الشعور المربك يؤثر على اندماج الشباب العائدين، ويجعلهم يميلون إلى الانعزال أو الاكتفاء بالبقاء في منازل العائلة، بعيدا عن المجتمع المحلي.
خلخلة ثقافية
لا يتوقف «الصدام» عند حدود الشارع أو الفضاء العام، بل يمتد إلى العلاقات العائلية نفسها، ففي العديد من الحالات، تنشب اختلافات بين المغاربة العائدين وأقاربهم المقيمين في المغرب بسبب طريقة التفكير، التربية والنظرة إلى الحياة.
في هذا الإطار توضح «فاطمة» لـ «الاتحاد الاشتراكي»، وهي مهاجرة مغربية في فرنسا منذ 20 سنة، قائلة «حتى علاقتي مع أختي تغيرت. نعيش بنمط مختلف كليا. هي ترى أنني تغيّرت كثيرا، وأنا أرى أن بعض الأمور هنا لم تتطور. نحب بعضنا لكن لا نفهم بعضنا أحيانًا.»
هذا التباعد الثقافي بين أفراد نفس الأسرة قد يولّد عند البعض إحباطا أو نفورا، خصوصا إذا لم يُرافقه وعي باختلاف السياقات والبيئات.
الشارع المغربي بنظرة أوروبية
يُلاحظ المغاربة العائدون من الخارج، خاصة الذين غابوا لسنوات، تغيرات كبيرة في الفضاء العمومي، تتراوح بين ما هو إيجابي من قبيل تطور البنية التحتية، تعدد المراكز التجارية، سهولة التنقل…، وما هو سلبي ممثلا في الازدحام، الضجيج، البطء في الخدمات، غياب النظام… ورغم هذه الاختلافات إلا أن المجهود الذي بذله المغرب خلال السنوات الأخيرة نقله إلى مصاف الدول الأوروبية وأضفى صورة مختلفة لمدن المغرب، التي تجمع بين أصالتها وعراقتها وبين التمدن والتطور واعتماد التكنولوجيات في عدد من مناحي الحياة اليومية، وهو ما يجعل مغاربة الخارج ينظرون لوطنهم بكثير من الفخر والاعتزاز.
بين الغربة والانتماء
رغم كل ما سبق، فإن زيارة المغرب تظل تجربة ضرورية عاطفيا وثقافيا لأفراد الجالية، فهي تمنحهم إحساسا بالصلة بالجذور، وتُذكّرهم بأصلهم، وتُقوّي علاقاتهم العائلية، وكثير منهم يعي جيدا بأنه بعد سنوات، مهما طال عددها وأمدها، فإنه سيعود إلى هاته التربة ليقضي بها ما تبقى من عمره. عودة يدفع إليها الحنين والانتماء، فرغم كل شيء تحس أغلبية مغاربة الخارج بأنها في ديار الغربة وتعيش وفي قلبها شعور بالاغتراب عن الوطن وعن الذات.
إن عودة الجالية المغربية إلى أرض الوطن ليست فقط لحظة فرح ولمّ شمل، بل هي أيضا تجربة إنسانية معقدة، تختبر حدود الهوية والانتماء والاندماج كذلك، وبالتالي من الضروري فهم هذا «الصدام الثقافي» الذي يرافقهم، والانتباه لتحديات التعايش بين «الداخل» و»الخارج»، لاحتضان الجميع داخل مجتمع مغربي أكثر شمولا وتسامحا، يمنحهم مكانا حقيقيا يشعرون فيه أنهم ينتمون إليه بكل أريحية.