لا أنتسبُ إلى القصة القصيرة كجنس سردي إلا بصلة القراءة بين الفترة والأخرى، إنما علاقتي بالخطاب السّردي، وما دفعني إلى هذه القراءة هو محاولة امتحان هذا العقل الحكائي في حدود العتبات والشق المتعلق بنمط السرد، ووضعهما في موضع استكشاف ومساءلة.
فتنة العنوان ومعرفته:
اختار الباحث حسام الدين نوالي «العقل الحكائي: دراسات في القصة القصيرة في المغرب» عنواناً لمؤلّفه، وجاء العنوان الرئيس مثيراً، يؤدي وظيفة إغرائية، لكننا مضطرون إلى البحث في خلفياته الإبستيمولوجية وامتحان مدى دقته. فيما يحدد العنوان الفرعيّ موضوع حفر الباحث وسياجه التجنيسيّ/ مختبره (القصة) وسياجه الثقافيّ (المغرب)، في إطار تعاقد صريح مع قارئه، وهويحاول وشم اسمهبقوّة في ذاكرته من خلال أوّل نافذة نقدية يفتحها للباحث؛ نافذة تطلُّ علىبحر معرفي يتسم بالعمق والاتزان الأكاديميين.
يفرق الباحثون بين مظهرين للعمل السردي استقرا على مصطلحين مع الشعريينهما: القصة والخطاب.هنا العقل في عنوان المؤلف يوازي مفهوم الخطاب؛و»في هذا المستوى، ليست الأحداث المنقولة هي التي تؤخذ بعين الاعتبار، ولكن الطريقة التي يجعلنا الراوي نتعرف عليها بها.»
بالتوازي مع المادة الحكاية (القصة) والخطاب، يتم التفريق بين الدماغ والعقل. إن الدماغ مادة توجد عند جميع بني الإنسان، بينما يتفوق إنسان على إنسان في طريقة استعمالها، فالمادة واحدة ودرجات العقل تتفاوت.
ليسَ للمادة الحكائية كبير قيمة، إنما الأهم هو طريقة تقديمها. وهنا نستحضر قولة الجاحظ الشهيرة «المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي.»وهكذا يكون العنوان وجها آخر لعبارة (الخطاب السّردي) لكن الباحث لم يستعملها لأنها عبارة مستهلكة.
هذا مجرّد تأويل وافتراض للمقصود بالعقل الحكائي. وهناك قراءة أخرى:
يمكن القول إن الباحث يحفر في جينالوجيا الفكر السّردي العربي؛ فالباحث حسام الدين لم يختر عنواناً اعتباطيا تسويقيا، بل عنوانه ينمّ عن جذور معرفية ومنهجية متغلغلة في نسق بحثه. كما لا يخلو العنوان من تعالق حواري، تحديداً مع كتاب المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري «تكوين العقل العربي».ويمكن من هنا أن نخمن أن الباحث يبحث في جذور تشكل العقل السردي العربي منذ الإسلام إلى يومنا هذا لما ظهرت القصة القصيرة مرتبطة بالمدينة ومسلطة الضوء على هموم الإنسان الحديث والمعاصر.
وبعد تصفح سريعٍ للكتاب، نجد أن العنوان الرئيس متعلق بالشق النظري منه أما العنوان الفرعي فيتعلّق بقراءات لقصص قصيرة من المغرب.
أهل القصة أدرى بشعابها:
أصدر الباحث قبل هذا العمل النقديّ مجموعة قصصيّة تحت عنوان «الطيف لا يشبه أحداً»، ومن خلال قصصها أثبت أن القاصّ حسام الدين نوالي أنه لا يشبه أحداً، من حيثُ مادة الحكاية ومن حيثُ طريقة الحياكة وتطريز النص بالمفهوم الغربي للنص Texture، ومن حيث وجهه الآخر الخطاب Discourus (الجري هنا وهناك) كنوع من اللعب السّردي. لذا فالاشتغال على هذه النصوص جاء عن طريق ابن البيت، العارف بدهاليزه وبالنصوص القصصية المغربية، والمحيط بالمشهد إحاطة بانورامية حيث يتموقع في موقع رؤية/ رؤيا يجعله يرى ما لا نرى نحن القراء العاديين.
تكوين العقل الحكائي العربي:
إنّ العقل الحكائي العربي وليد سيرورة تاريخية طويلة، شكّلته محطات تاريخية متعددة؛ قد انتقل «من الشفاهي إلى الكتابي، ومن البداوة إلى المدنية»، فهو ليس فُجائيا أو وليد لحظة فردية، لكنه رهينٌ بتراكمات قصصية متجذرة في التاريخ العربيّ ومنفتحة على العالم الإنساني. إنه نتاجٌ جمعي، وسيرورة، تتحكم في أنساقه، وتطبعه على نحو ظاهر وخفيّ.
صحيح أنّ السرّد كانَ مقصياً في الثقافة الإسلامية، نظراً لمشكلة متعلقة بالنضر بن الحارث وأساطيره التي كان يشوش بها على القصص القرآني، واستمرّ السّرد يعاني من هذه المشكلة طويلاً في الثقافة العربية الإسلامية.
وإذا كان الشعر ديوان العرب وكانت له الهيمنة على بقية الأشكال الإبداعية، فإنه كان يعتمد أساسا على السّرد كما يلاحظ الباحث؛ فالشعر، قصائد المعلقات مثلاً، كان يتم تلقيها في إطار قصة تستهلك من خلالها، فالقصة التي تصاحب القصيدة هي التي تضمن لها الذيوع والانتشار وتيسّر تلقيها.
إنّ غربلة النصوص السردية واجتثاث القصص السالفة وتعويضها ما هو إلا بناء حضاري جديد من قبل الإسلام وتشكيل جديد للعقل السردي، والقطيعة مع النصوص السابقة (المحرمة) ما هو إلا قطيعة مع فكر قديم.
إن المرحلة السابقة هي فترة الشفاهي أو البداوة، تلتها مرحلة الكتابي أو المدنية. والقصة المدنية لها خصائصها التي تشبه هذا المتغير المكاني الزماني من حيث اللغة والتشكيل والخطاب، فدخلت القصة إلى مدار الركض والمتناقضات والقسوة والتشظي، تتسم صورها بالتوتر والتهميش والقسوة. لقد فتنت القصة المدنية بالنحافة، إنه ميكرو إنتاج استغرق وقتا طويلا ليختلف تماما عن الميكرو إنتاج مع الملاحم والسير الشعبية والحكايات الشعبية ليصل إلى القصة القصيرة جداً والومضة والنصوص الشذرية.
لا يمكن اختزال هذا المنجز النقدي الكبير قيمةً في سطور قليلة، إنما كانَ هذا عرضا لأفكار متناثرة هنا وهناك تراودُ العتبات، وتحاورُ شقّاً نظريا يحفز على تحريك العقل النقدي العربي المعاصر لتفكيك العقل السردي العربي.