تزايد توتير العنف ببلادنا في الآونة الأخيرة،إلى درجة استرعت انتباه الجميع،حيث لم تعد المدرسة في أحايين كثيرة مكانا وفضاء جميلا ومريحا لمرتاديها،بل أصبحت « تجليا قبيحا « لكل مظاهرالعنف .فهل تراجع دور المدرسة في إنتاج قيم جديدة وزرع بذورالمعرفة؟هل مايحدث الآن يمكن اعتباره اختراقا للمدرسة من قبل الشارع بمعناه القدحي والعامي؟ وهل من آليات للحد من خطورة هذه الظاهرة؟وأين وصل مشروعنا المجتمعي بشتى مطارحاته الفكرية التصحيحة لإصلاح منظومتنا التربوية؟
كيف نزح العنف من أمكنته المعتادة إلى المدارس؟
لم تعد المدرسة علامة مضيئة في تاريخ مد نيتنا،بل نقطة سوداء داخل جغرافيا مدنيتنا،فإذا كانت سابقا تخترق المجتمع،وتتسرب إلى شوارعه لإ نتاج القيم النبيلة والسامية،ولزرع كل أشكال المعرفة والثقافة،فإنها اليوم وبدون مبالغة قريبة إلى الاستسلام لقبول كل أشكال التردي والانحراف التي تنقل إليها من محيطها،وعلى رأسه هذه الأشكال العنف المدرسي / التربوي.
ولكي تكون المدرسة فضاء للتعلم والمعرفة،يجب أن تكون فضاء لنفي العنف،وذلك رهين بتأصيل أسس الحـــوار وفن الإنصات،وإشاعة ثقافة استخدام العقل،فكل لجوء إلى العنف هو تعبيرعن فشل الحوار وعن خلل في تعلم لغة العقل والانفتاح والنقد .
فإذا كان العنف المدرسي ظاهرة كونية اليوم،فإن المغرب في غير معزل عن هذا التحول في قيم العلاقات بين المدرسين والتلاميذ،وبين أطراف العملية التربوية برمتها داخل المدرسة. إلا أن ما يثير القلق أكثر ، هونزوح مظاهر العنـف عـن أماكنها المعتادة،لتنتقل إلى المدرسة التي تحولت من فضاء التربية والتكوين إلى مكان لكل أشكال العنف،ومــــــن بيــــن عوامل العنف المدرسي ،الفشل المدرسي،والعبث الذي يميز بعض التصرفات الأسرية بسبب جهل الآبـــاء والأمهـات والأولياء بضرورة توجيه التربية لتلبية حاجات المتعلم وميولاته،إضافة إلى تراجع الدور التأطيري للمدرسة ،مما يستدعـي مراجعة البرامج والمناهج الدراسية كي تتماشى مع الحراك الذي يعرفه المجتمع المغربي .هذا،إضافة إلى عوامل اجتماعية واقتصادية كالفقر والأمية والبطالة التي ترزح تحت نيرها فئات عديدة من المجتمع ،الأمر الذي يقتضي نهج مقاربة شمولية وتشاركية إشراكية، عكس باقي المقاربات السوسيولوجية الأخرى التي لم تزد الوضع سوى ترديا؛ مثل المقاربة الوظيفية القائمة على الاصطفاء ( الترتيب الهرمي ) والقائمة على تهيئ الناشئة لأخذ مراتب اجتماعية متفاوتة في المستقبل،شأنها في ذلك شأن المقاربة الصراعية التي تنتقي ماهو أكثر مطابقة وأكثرمسايرة لتمثلات وتوقعات الفئة التي تملك السلطة وضبط النظام التعليمي .إذن،كيف يمكن للمدرسة كمؤسسة للتربية والتعليم أن تتحول إلى آلة لإنتاج العنف وساحة لممارسته؟
يمكن ذلك، نظرا لزحف عنف الشوارع، والأحياء الشعبية خاصة،إلى المدارس،التي تتخذ فيها هذه الظاهرة أشكالا مختلفة: ( عنف بين التلاميذ والأساتذة،عنف بين التلاميذ فيما بينهم،عنف بين الأساتذة فيما بينهم …..) وأمام هذه الوضعية ترتفع أصوات الآباء والمدرسين والسوسولوجيين والمختصين لانتقاد ما تبثه وسائل الإعلام من مشاهد عنف تؤثر سلبا على المراهقين،وللدعوة إلى فتح حوار هادئ ورصين من أجل الحد من هذه الظاهرة التي يرجع بعض الباحثين أسبابها إلى المدرسة ذاتها،وإلى النسق التعليمي نفسه،باعتباره عنف رمزي او سلطة تمارس على المتعلمين،عن طريق كثرة القوانين التي تحد من حرية كثرة التحرك وسلطة الإداريين والمدرسين وطبيعة المناهج والمقررات الدراسية والاكتظاظ داخل الفصول الدراسية. .. إن هذا العنف المدرسي الرمزيي ولد رد فعل عنيف لدى العديد من التلاميذ. لهذا يبقى التساؤل مطروحا: هل تقوم المدرسة بوظيفتها التربوية؟ ألاي عتبر النسق التربوي نسقا كلاسيكيا متجاوزا؟
تؤكد النظريات الاجتماعية والنفسية المفسرة للعنف على :
– أن العنف يتم تعلمه من داخل الأسرة والمدرسة ومن وسائل لإعلام – أن العديد من الأفعال الأبوية أو التي يقوم بها المعلمون والتي تستخدم العقاب بهدف التربية قد تولد العنف – أن إساءة معاملة الطفل(ة) يِؤدي إلى سلوك عدواني – أن الطرف الأقوى لفرض الهيمنة على الطرف الأضعف يزيد من دائرة العنف…..
ويجمع العديد من الممارسين البيداغوجيين على كون ظواهر الاكتظاظ وإعادة بعض التلاميذ المطرودين غير المبالين بالدراسة والنظرة السلبية تجاه المدرسة والمدرسين،وتزايد آفة الدروس الخصوصية وانتعاشها على حساب المدرسة العمومية،إضافة إلى عنف الخريطة المدرسية التي تفرغ الحجرات بالانتقال/ التنقيل التعسفي وعنف انتشار المخدرات وتعاطيهاب شكل سافر بمحيط المؤسسات،كما أن المذكرات الوزارية التي حدت من سلطات الأستاذ(ة) داخل الفصل ا لدراسي،ساهمت بشكل كبير في استفحال ظاهرةالتسيب والعبث والتعنيف اللفظي والبدني الممارس من قبل بعض التلاميذ على المدرسين والمدرسات .
العنف لايولد غيرالعنف
حين نرفض العنف بكل أشكاله كفكرة أومبدأ،فإننا نراهن على ترسيخ ثقافة التسامح واحترام الآخر،لأن مواجهة العنف بالعنف أمر طبيعي،كما نراهن على احترام الاختلاف،إذ ثمة للأسف الشديد من لازال لايميز بين الاختلاف والخلاف،أويعمد إلى الخلط بينهما قصدا، (فالاختلاف رحمة،والاختلاف لايفسد في الود قضية ) ،فحين لايستطيع البعض مواجهة الفكر المختلف ومحاورته،يلجأ إلى تشويه صورة الذين يختلف معهم،بل وترويج الكذب عنه يشكل حقائق لمحاولة تدميره ….هذا هو العنف الناجم عن الاستعمال السئ للحق في الاختلاف
إن العمق الاستراتيجي لحل هذه القضية لايكمن في الحد من عنف التلاميذ تجاه المدرس(ة) ،وفق مقاربة أمنية أوبخطة تطمينية تشريعية،بل عبرمعالجة سوسيو – سيكو- تربوية،قائمة على تشخيص ورصد كل أشكال العنــــــــف،ولايجب الكلا مفقط عن عنف التلميذعلى المدرس،بل هناكعنف آخر في نامي مستمر وهوعنف أستاذ – أستاذوعنف داري – أستاذوهلم جرا . من أصناف العنف لتي تنخرالجسد التعليمي،الذي تحولت مدارسه للأسف الشديد إلى مايشبه « مجازر « لذبح رجال ونساء التعليم،وأمكنة للصراع والعنف والإقصاء والتحرش وفقدان هيبة وحرمة المدرسة ،جراء تجدد حوادثا لعنف المدرسي،مماجعل سلامة أطراف العملية التربوية على المحك،فالمشكلة ليست فقط في غياب الأمن في مؤسساتنا التعليمية،بل في هوية هذه المؤسسات التي تنتج تلاميذ لا يجدون أية مشكلة في الاعتداء على مدرسيهم،وكذافي غياب عنصر الجاذبية في الحياة المدرسية . وهوواقع يجعل حضورالتلاميذ- بل حتى المدرسين – إلى المؤسسات التعليمية أشبه بالحضورإلى مايسميه بعض علماء التربية بالسجون المحروسة مؤقتا.
لذا أضحى الشأن التربوي – بما في ذلك معالجة ظاهرة العنف المدرسي- همًا مجتمعيا،يلزم كل واحد منا تحمل مسؤوليته لإصلاحه .
وهذا الإصلاح لن ينجح عن طريق مقاربة المشكلة /الآفة التي نحن بصدد الحديث عنها،وفق مقاربة ترتكزعلى المصاحبة والتتبع النفسي للمدرس (ة) والتلميذ (ة) في المدارس،وكذا بنوع من الاتزان والتوازن،إيمانا بالمقولة الشهيرة « مايدرك بالرفق،لايدرك بالعنف «
رهان مناهضة العنف المدرسي :قراريتوخى بناء « الإنسان « !:
يعتبر العنف تحديا لابد للمدرسة من التصدي له،وإرساء السلوك المدني رهان لابد من ربحه،وبما أن العنف (عدو) المجتمع برمته،فإنه لابد من فتح نقاش وطني هادئ حول إطار تعاقدي للسلوك المدني،وتحديد الإجراءات الكفيلة بالتصدي لكل المظاهر المنافية له،وعلى رأسها العنف الذي يتنامى بشكل ملفت عبرمظاهر مشينة كالغش والإخلال بالواجب،وسوء المعاملة،وتقديم القوة على الحوار كأسلوب لتدبيرالخلاف،وتحقيق المكاسب
وتأسيسا على ما سبق،علينا ألا نفقد الثقة والأمل في إيجاد حلول ناجعة للحد من هذه الظاهرة،فكما قال « المهاتماغاندي « : « يجب ألاتفقد ثقتك بالبشرية،البشرية كالمحيط،وإذا كانت بضع قطرات منه وسخة،فالمحيط لايصبح وسخا «
وعليه،فأنسنة المدارس وتخليقهاعن طريق احتواء ومعالجة محيطها قد تكون من أبرز الوسائل الأولى الممكن الاعتماد عليها،لمقاربة هذه الظاهرةعبر مقاربات شمولية : ( المقاربات الوقائية،المقاربات العلاجية،المقاربات التصحيحية …) ولن يتأتى ذلك إلا بالتربية والصبر كما قال المفكر « إدواردسعيد « « إن جذور الرعب والظلم والبؤس،هي اليوم مرئية وقابلة للعلاج،ولتحقيق ذلك نحتاج إلى الصبر والتربية « ،إضافة إلى ضرورة مساءلة جميع المتدخلين في الحياة المدرسية،بدءا بالأسرة،مرورا بالإدارة التربوية وصولا إلى المدرس (ة) ،لأن هذه الآفة تؤدي إلى نتائج سلبية على مستوى التحصيل وعلى نفسية وصحة الأطراف التي طالها ويطالها العنف،هذا الأخير لايمكن التصدي له بحملات التحسيس فقط،بل يجب التفكير في نهج سياسة مؤسساتية لإدخال المتابعة النفسية والاجتماعية في صلب الحياة المدرسية،إذ « ينبغي أن نعمل على الوقاية من الشر قبل حدوثه، كماعلينا ألانتسرع في اتخاذ الأحكام بشأن التلميذ (ة) المشاغب (ة) وإنماأن نفتح معه حوارا رأسا لرأس،مما سيخلق بالضرورة جوا إيجابيا،يحس من خلاله التلميذ (ة) بأن المدرس يتفهمه،وأنه لايحاكمه .
فرغم اعتماد الوزارة الوصية خطة من أجل محاربة العنف المدرسي،ورغم تأكيد الفصل 19 من النظام الأساسي للوظيفة العمومية على حماية الموظفين من التهديدات والاعتداءات والتشنيع …،فإن مناهضة العنف تتطلب ترسيخ تواصل حقيقي بين جميع أطراف العملية التعليمية – التعلمية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام .
فتفعيل آليات التواصل والإنصات بين كل هذه الأطراف والتسييرالجماعي والتدبيرالتتشاركي،هوالسبيل الأمثل لتحقيق مفهوم « الشراكة الإستراتيجية « الهادفة إلى « بناءالإنسان « بكل ماتحمله الكلمة من دلالات وأبعاد.
* باحث تربوي