يعود الورد إلى حقله، والبذور إلى أنسابها الترابية، بعد أن تضوعت في أبهائهما مثارات الزمان وتحولاته، ليصير البرعم المتنطع عودا لمركز الضوء وآفاقه المتجددة.
هكذا يرتقي قلم أستاذ العلوم القانونية ادريس لكريني، ليسند وطنه المتفرد بذات طفولية مستعادة، باسترجاعات متوقدة، يفاجئ بها قارئه المعتاد وطلبته المتحلقين، لتصير سفرا مغايرا لكينونة منطلقة ومنفتحة على أوثاق التجريب والإحالة على الذاكرة، متوشحة بدلالات سحرية غاية في الدهشة والذهول.
يأتي مؤلف الدكتور ادريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي في كلية الحقوق بجامعة القاضي عياض في مراكش «طفولة بلا مطر» ليزيح بعضا من ستار الكينونة، بما هي وجود وإدراك، يفوق الواقع وحركة السير الزمني والسيرورة، حيث تستعيد النوسطالجيا زخمها الذاتي والوجداني، لتسجل (وبدون قيد)، أشياءها الجوانية وعوالمها المطمورة، فاغرة فاها لتقضم مختلف جوانب الحياة المستعادة، عبر أدوات استقصائية تقوم على التفكير والتكلم والعمل والاختيار والشعور.
يشاغب لكريني في كراسته السيرية تلك، متاهة الإنصات للذات، مأهولة بإحداثيات ثاوية، تضج خفة ومرحا، وتستدعي حوارات داخلية يصيخ من خلالها إلى العناوين الكبرى التي ازدحمت بترديدات مليئة بآثار الماضي وتواريخه المتشعبة.
يجول الطفل والشاب ادريس، في أتون هذه الأوراد والانزياحات البلاغية المستقاة من روح ووجدان الحيوات والمتاهات والدروب، ماثلة إلى التوصيف والاستفاضة والانكشاف على زوايا فطنة ودقيقة، تتماهى وأسرار العيش، بأفراحه وأتراحه، اندفاعاته واصطداماته، آثاره في النفس وندوبه بعد حين..
ويقرأ الباحث عن كل هذه المتاهات الحيرى، التذكرات والالتفافات المطبوعة على خطوط الجبهة والوجه، لجائلة مركبة غير مستقرة، تنقاد سلسة وحذرة من أن يطالها الصدأ والعزوف عن النبض، فيأوي بغير قليل من السعادة التي تكاد تنط من سعف النص ومخياله، محدثا خرائط في أوج تشكيل حيز السرد وإيغاله في ما يشبه العوم تحت أصيص الزرع في جغرافيا شاسعة لا مرئية.
تتضمن مذكرات «طفولة بلا مطر» والتي تقع في 150 صفحة من الحجم المتوسط، 18 مشهدا مختارا من كتاب حياة تدور أحداثها في إحدى قرى بني عمار، مسقط رأس المؤلف، تستحضر مفازات طفولة تشاغب أحلاما دافئة وتجاسرا موعودا، يقتنص منياته من صراع العبور والاستقبال، يتوقف فيها سؤال الصيرورة واحتدام الرؤية، إلى منافذ تطل منها عيون خضراء وثورة عقل مفتون بالتجريب والمغامرة.
في أول مشهد «موعد مع الحياة»:
يواعد المؤلف شكل الكتابة، مفتاح ولوج القارئ إلى عتباتها، بالاقتراب من سقف الحياة، كما هي منسابة ومهيبة الجانب، حيث يسكن وجدان الطفل إدريس، منقادا عن طوعية ورغبة جامحة،ومتلفعا بأدوار انعقدت في مجتمع معلوم الهوية والانتماء، فلا يجد أقرب إلى هذا المناط، وتلك التورية، أجمل من أن توطن يد الفخر والاعتزاز، الوقوف على مجهر الفضاءات القوية في سماء القرية، من المنزل العائلي، إلى «الحانوت»، ومن «الجامع» إلى المدرسة، ومن فضاءات الطبيعة المفتونة الفاتنة، أصوات النساء النائحات على مقربة مقبرة سوداء.
في «أحضان المدرسة»:
تبدأ علاقة الطفل إدريس بالعالم الخارجي، الأكثر اعتمالا وتجلية لواقع الناس وارتهاناتهم.
تجسد مرحلة انتقال الوعي العام بالمحيط، إلى فضاء مفتوح، وهو المدرسة، مناطا متغيرا للاحتفاء بالوجود والحياة. يتقابل سحر الاكتشاف بالتماهي في استقصاء متاهات الطفولة، تلك التي تحدد فرادة توهج الإحساس بالعالم والكائنات المتجاسرة، وطرقها في تصريف الأفعال والسلوكيات.
يصف الحاكي، شعوره النوسطالجي، ببيت الجد وساحة الحي وضجيج الأطفال، والعمة مليكة، وصولا إلى مكتب السيد مدير المدرسة، والزميلة «الفتاة الجميلة ذات الضفيرة الشقراء»، و»المطعم المدرسي» والمعلم المربي …
كونية منسجمة مع مساحة مضيئة من كل الأحياز الموشومة في ذاكرة الكاتب، يجوس من خلال آفاقها، مبضعا من آصرة المجتمع السالف، وقيمه المائجة بين العقل الجمعي والوجدان ..
من الهجرة
إلى العطش:
لم يكن لهذا المحضن المتناقض أن يتفاعل مما تجيش به عوالم الاسترجاع والذكرى، لو لم يكن لوقعهما أثر بالغ في نفسية الكاتب. ولم يتأت ذلك، في غياب توتير هذه المدارة المضنية الحانية. إذ إنها تجمع بين العطاء المفقود والرغبة في الإصغاء إلى العالم الآخر، المليء بالغموض والارتيابات.
فالهجرة، تمثلها «سفر الأب إلى المهجر»، وهو التقاء قدري ببداية التفكير في المآل والتعويل على الذات والإقرار بحدوث أشياء خارج التوقعات باعتبار أساسية رب المنزل وركيزته.
أما العطش، الذي هو توصيف استعاري للجفاف والعدم، فيحيل إلى الضمور والاختفاء.. لكن ذلك لا يمنع من تمكين القارئ من تحويل البصيرة إلى الإشارة الروحية «حلول شهر رمضان»، مع ما تحمله لحظة استقباله والفرح بوجبات الإطار والسحور، من مباهج وأنوار وتجليات ..
معابر الموت:
عندما يتكسر قلب الأطفال، يستعر الخوف وتنجلي الحتوف والخيالات. هكذا، وصف ماركيز عوالم العزلة بما يشبه نمط القص ومتعة اقتناصه الطفولي. لكنه، استعار الموت كواجهة لاستعادة طعم الحياة.
يجابه لكريني هذه المتاهة، عند أول اختبار وهو يلامس شراسة الرحيل أو الغياب، من قبل الجد:» في الصباح الموالي، تبعت موكب الجنازة، أودع جدي الوداع الأخير. كانت الكثير من الصور تمر أمامي كشريط، طلته عبر السور على البيت ومناداتي، ومروره بالسويقة متكأ على عكازه وابتساماته الخاطفة وهو يتابع ارتجال عمتي .. وفي المساء أسرت لي أمي وعيناها تدمعان: بفقدان سيدي أنا أيضا أشعر باليتم» ـ ص 44 ـ
والوقت المنداح بين اللقاء والافتراق، يصعد بنا في وحشة القادم المجهول، كما هو الوعي بالغامض المنتظر، دون التجرد من الإحساس القاسي بصرامة ثقيلة على قلب طفل في معترك الطريق ..
البحث عن الماء .. الطريق إلى العين:
الماء وطن متجاور مع الكاتب، لا تكاد أي وحدة ضمن السيرة تخلو من الماء. حتى صار أيقونة للمفكر فيه، وضابطا لإيقاع يتداول كل متعالقاته، من تراب وهواء وأشجار وعيون رقراقة، وطيور وتلال ..إلخ.
ففي «الطريق إلى العين»، يأتي الكاتب على ذكر الماء مبحوثا عنه، ومتداولا للشرب والامتلاء.
وفي الأجواء المتاخمة، تنوجد السعوف الأخرى، من «الطقس» و»الغمام» ووقت الصيف» و»الوحل»، مع ما يرافق ذلك كله، من توصيفات مجهرية، تراكمها تعابير دقيقة ومستلهمة، ك»صبيب الماء» و»الغرق» و»السقي» و»ملء القنينات» و» اللهو بمعجون الطين» و»سقي الزهور والأشجار» ..إلخ.
لكن الأجمل في كل هذه التجاورات الفاتنة، هو الإغاضة في تحويل كل هذه الخلفيات السردية، من مجرد تذكرات تنبني على شكل معمار مثخن بالقلق الأنطولوجي، إلى كتلة من الانثيالات المواكبة والموثقة لأحداث تاريخية وجالية بليغة. وهنا يمكن التمثيل بمشكلات نقل الماء وقساوته، ومظاهر جولات الفرقة الحمدوشية بالقرية في نهاية الموسم الفلاحي.
على أن الانتقال من هذا الوصل الإفراغي المتعالي، إلى تأثيث الحيز الزمني إياه بأحداث واقعة ك»الحصار الإسرائيلي لبيروت» الشهير، ومغادرة ياسر عرفات و»مجزرة صبرا وشاتيلا» و»قوة صدام حسين» في مواجهة إيران، عام 1985، سيوظف جزءا من هذه السرديات المطيعة والأليفة، إلى ما يشبه الإصغاء إلى آذان المرحلة وتداعياتها على الطفل. وهي أبعاد تحيل بالقراءة والعبرة إلى المصير والنتيجة والاختيار.
سيرورة متدفقة:
تتواشج الأحداث وتتواتر، وتبلغ زخما لا يلين على صخر الأيام وتبدلاتها. وفي كل فصل من فصول هذه التجاذبات والامتدادات، يتجذر الطفل السارد، ويمتلئ واضعا كل شواهده ومشاهد عبوره نحو الأبهاء والسواكن والانتماءات، مستبطنا قطوفاته السخية والواعدة، من قوابل الفصل الدراسي، إلى إجادة التعبير عن فروقات مواضعاتية، كالثقافة والحرية والاعتداد بالنفس وإدراك مفهوم الصنمية، وتمثل نزعة الإحساس بالأنا والحرمان، دون أن يشيح هذا التجاذب المستلذ مطاوي الإبهار بالنص الفلسطيني تنظيرا وقضية وانشغالا أفقيا.
ويبدو أن الكاتب، إنما يحفز قارئه، من منطلق وعيه العروبي بهذا الشعور الثائر المهموم بقضايا الوحدة والتقدمية والإبداع المعرفي الواعي باللحظة والزمن. ف»موسم الزيتون» يقتطع هذا السند من أتون حقيقة لا تحتاج لتأويل. و»الحنين» يبتدر إلى استفراد الحضور النوعي للفضاء «القرية» ومرتفعها الصخري المتهاوي على هبوب الأرياح ومتاهة «الجسد النحيل النحيف»؟. و»مغامرة في الجبل» نهاية سعيدة «لامتداد ثلاث دورات دراسية»، يوازيها فرح وانتشاء واغتباط غير مسبوق ..
ما بين «دار الشباب» و«الحرم الجامعي» :
يفلح الكاتب في نقلنا بشكل سلس وسهولة ماتعة، إلى رحلته الجديدة، نحو القسم الداخلي، بإعدادية أخرى، ومن خلال ذلك، إلى «دار الشباب»، دون أن يبتعد عن مدينته الخالدة «زرهون».
وتظهر في خضم هذه المحاور اللافتة، حيث يستدرجنا إليها بتشويق وسلاسة، متأهبا بنا لمعانقة بعض مفازات نضوب حسه وإرواء مخزونه بما يشي بانجذاب خاص لبعض تمظهرات الحياة والمحيط، فيصف علاقاته الأولى ب»آلة التسجيل والتلفاز»، و»المذياع» و»كرة القدم» و»منبهات السيارات والحافلات» ..
وتفيض هذه الانثيالات وتتوسع شيئا فشيئا، لتعم كل أطياف تلك الطفولة، المدبوغة بوهج الاقتبال، والمجاهرة بوسامتها التلقائية وروحها الخفيفة. فيبلغ الشأو ترقوته، ويتجافى حديث الجمال بوسم «الأنيق في الفصل»، وارتهان انشداده لأفق «السكن الجديد» أيام الثانوية، ..
وبين هذا وذاك، يجد الكاتب ادريس لكريني نفسه، منخرطا في تغزل فريد بالمدينة العتيقة، وب»عظمة تاريخها» وفضاءاتها وإنسانها: «كنت أجد متعة كبيرة وأنا أتجول في دروب المدينة القديمة في آخر الأسبوع، في كل ركن وجانب تشعر بعظمة التاريخ، تروقني حركية ونشاط الحرفيين والباعة. كنت أتوقف أمام سقاية النجارين لروي طمئي بقليل الماء، ثم أتوجه نحو حي العشابين، قبل الوصول إلى ساحة الصفارين…» ـ ص 118 ـ
وفي «ضيافة الحرم الجامعي»، ستستنير مشاتل الشاب لكريني باستنهاضات حركية متسارعة، تستعر فيها شروط الأمكنة والأشخاص الجدد في الطريق الطويلة. بدءا من محيط جامعة محمد بن عبد الله بظهر المهراز، التي كانت ملاذ الطموحات الثاوية والأحلام الواجمة، «عروض للفنانين باز وبزيز» و»حلقيات الطلبة» و»الأرصفة العارضة لآخر أعمال مارسيل خليفة وناس الغيوان وسعيد المغربي…». ثم بعد ذلك الزيارة التاريخية للحرم الجامعي، وأول سفر عبر القطار نحو «مكناسة الزيتونة» والسعيدية عبر الحافلة ..
ويتناهى مشوار البوح ليرتقي بمناقيره الحرى، حتى تبلغ مدارة الباكالوريا، ومصادفتها للإضراب العام الذي شهده المغرب عام 1990، خلال عملية احتجاج العمال والطبقة الشغيلة.
«خارج المدينة» وأحلام على مشارفها:
لا تخرج الكتابة عند ادريس لكريني، عن طبيعة تكوينها وتجليها، فهي فاغرة مليئة بالحماس والاستظهار الواعي بتبدلات الزمان وتغيراته.
يروي لكريني وبعناوين ومقدمات قولية مثيرة، بلغة بسيطة وكاشفة للكنه والجوهر، مرائي طفولة مستعادة، طوتها متاهات الوجود وحوادث العالم وأوجاعه وأحافيره. فلا يجد غضاضة في تحويل كل تلك السوالف المحكيات، إلى مقامات فريدة ومشعة، دلالة واعتدالا وميلا في شيء منها، للطرفة والمستحدث العجيب والتندر بميزاب الخفة وآدابها المليئة بالغبطة والفرح.
وفي كل فصل من فصول الكتاب، لا يكاد القارئ يستلب وجدا مهراقا وتابعة ملتابة من تلكم المناصبة المحفورة في تلابيب السرد وهو ينساب كنهر رقراق، لا يحدوه عتب أو قيد أو ثقل.
لكن الكاتب وهو يستعيد هذه الدربة اللافتة، خلال حكيه وحكائيته، يعيدنا قبل نهاية القراءة، لمبضع قشيب من حيوات وأفاعيل، إلى قصب السبق المرجى، وقاصمة الوصل الواعي بأسباب النزول والتنزيل. كأنه يريد أن يودعنا على أثر كل ما سبق، لاستقبال الوجه الجديد الذي سيؤسس عليه روايته القادمة.
فالعنوانان الأخيران في الأضمومة، والموسومان ب»خارج المدينة» و»أحلام على مشارف المدينة»، يسبران وجع الأحلام ويسترفدان قدوم ما يستذكي حرصا إضافيا على المواجهة والصبر والتحدي.
لكن الأسفار ستنحت تجارب الشاب المتأهب للعبور نحو الضفة الأخرى، قبل أن يمر على مدينتي فاس وطنجة في اتجاه الجزيرة الخضراء ثم فرنسا. وما وصف الحياة المعيشية اليومية لمغاربة «سان لومبير»، سوى فتات مما لا يمكن أن تغفله نباهة كاتب يحفر قويا في أعفار الاغتراب ونذوبه العاتية.
على أعتاب الجامعة، الحياة الجديدة المقامة في مخيال القادم إليها، الحاضن لتغريباتها وباعثها، يستعد الكاتب لإرواء جسر مهيب من التدبر وتحميل الجهد، ولعل عبارة «.. على امتداد الرحلة كانت الشمس تظهر برهة ثم تختفي بين السحب العابرة»، تكاد تلخص هذا المنتظر الأنطولوجي المتساكن، على أهبة لاستقبال أيام أخرى وآجام غير الآجام، واختيارات طافية بما يناسب الوطن المرجى، إذ تعلو في سماء فاسن إطلالة بمذاق واشتياق، مسترجعا أفق هذا الوعي السادر بإمكانياته والتماعاته، «بدأت الكثير من الصور والذكريات تمر أمامي تباعا منذ زيارتي الأولى لمدينة فاس» ـ ص 150 ـ
وبين هذا التجلي الإحالي والفيض الوجداني، يتعالى صوت المستقبل في ذاكرة الراوي، منسابا ومتوترا، طافيا إلى أقصى درجات الغموض والارتياب .. هو الإحساس ، كما قال الكاتب، «بالمسؤولية والبلوغ وخوض تجربة جديدة مغرية، مدقوقة بنياط الفساحة والفكر والاحتفاء بالكينونة، مبارزة تجاويف الصبر والمثابرة والصمود.
«طفولة بلا مطر» إدريس لكريني، ط 1 ـ 2023 المطبعة الوطنية مراكش