الغراب

ليس من السهل العيش في عش الغراب دون أن تكون من فصيلته، أن تتحمل قسوته وغلظته، والأسوأ هو أن تنال بعضا من سمعة نحسه وشؤمه، ومهما حاولت أن تقلده سيظل ريشها أبيض، ومخالبها هشة وصوتها ضعيفا، وسوف تنتفض في مكانها كلما سمعت نعيقه، وسواده الذي يسبق الليل ويكدر صفو النهار، غراب معتد بذكائه كونه أول شاهد على أول جريمة ارتكبها الإنسان في حق إنسان آخر، وأول من علم الإنسان الدفن، عدا أنه فنان كبير، فعشه مبني بهندسة بديعة ومزخرف بالألوان؛ لكن بالرغم من كل هذه الخصائص كانت تراه غرابا غبيا وفظا وأسود، ولم يكن جميل المحيا والصوت عدا أنه ضعيف أمام البوم والصقور، كما أنه جبان ولا يبرح التجمعات الكبيرة مع بني جنسه.
ولم تسمح له بأن يمرر عليها ريشته لتصبح بلونه، ولا أن يعلمها كيفية الصياح بصوت مقلق، لهذا رحلت من وسط جوقته المزعجة، لتنعم بالسكون بعيدا ولتقف وحيدة على غصن ناعم تزينه قطرات الندى..
عليها أن تكون بمنأى عن الخوف، لا نية لها في الافتراس ولا في التحول إلى فريسة، تكتفي بما تجده على الأرض قليلا كان أو كثيرا؛ فالمهم هو أن تحفظ بقاءها وأن تحقق سلامها مع كل المخلوقات على الأرض، وهذا ما لم يكن يفهمه، فمن حق أي طائر النفور كما من حقه الطيران، والطائر ولد حرا ومنح حق ممارسة حريته في السماء والأرض، يهاجر ويعود، وحيدا أو في سرب.
وما لم يفهمه الغراب أيضا أنه ما كان عليه الاستغراب من طائر يحب العزلة ليكتب القصص على الأشجار، لا يلتزم بالأغصان ولا تغريه الأعشاش الرحبة، ولا يغريه الدفء المزعوم، ولا يخاف من الموت باردا ووحيدا، أكان هذا الطائر ملزما بقبول دعوة الغراب إلى عش الغربان الأغراب؟
عشرون عاما من النعيق لن تكفيه ليقنعها بأنها من ذريته؛ لأنها ليست منها على كل حال، وعليه الإبقاء على حداده ما استطاع، فلن يحيا أمواته من جديد على الأرض نفسها، كلهم دفنوا أمامه بالطريقة نفسها مع اختلاف الأسباب، توارت سوءاتهم كأنها لم تكن يوما، عادت إلى ترابها كما شيءَ لها أن تعود، وهؤلاء الذين حُرقوا وتحولوا رمادا أو غرقوا وأكلهم الحوت في قعور البحار، تحدوا التراب في العودة وسلموا أرواحهم بطرق أخرى، وكان ذلك الطائر الصغير المتمرد على علم بأن هناك قدرة تفوق قدرته وقدرة الغراب وقدرة جميع المخلوقات الأخرى، إنها القدرة العظيمة لخالق الكون الذي منحها الأرواح لتحيا كما تشاء الى أن يعيدها إلى سمائه متى يشاء.. لذلك، لم تعد تهتم لأمر ذلك الغراب غريب الأطوار، منذ أعلنت استقلال شجرتها عن غابة الأحياء.


الكاتب : غادة الصنهاجي

  

بتاريخ : 23/09/2022