الغرب والقرآن 16- نقل النص لم يكن نقلاً شفويًّا

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا؛ فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.

 

[11]

حاول لوكسنبرغ، مستعملاً منهجه الفقهي اللغوي، توثيق السياق التاريخي للقرآن بغية التوصل إلى مقاربة منهجية لحلِّ المشكلات النقدية النصِّية. وكان مرجعه الأساسي في هذا هو الإصدار المعترف به للقرآن المنشور في القاهرة (1923-1924) الذي طُبِعَ بدون شَكْل.
وتكمن ميزة هذا الإصدار، قياسًا إلى ما سبقه، في سعيه إلى إسناد قراءاته إلى المقارنة بين المفسِّرين العرب الأوائل. وأهم ما يميِّز هذا العمل هو أن محرِّريه حاولوا تثبيت التنقيط الذي يفرِّق بين القراءات المختلفة لحرف واحد. وقد نقَّح لوكسنبرغ هذه النقط في حالات عديدة، لكنه فعل هذا باتِّباعه منهجًا واضحًا ومفصَّلاً: فعندما كان مخيَّرًا بوضوح بين قراءتين مختلفتين رجَّح القراءة الأصعب؛ وفقط عندما كان تعبير معيَّن غير واضح بشكل جليٍّ، وعندما يعدم المفسِّرون العرب تفسيرًا معقولاً لذلك، كان لوكسنبرغ يستكشف حلاً يتطلَّب تغيير واحدة أو أكثر من النقط في الطبعة القاهرية.

[12]
يسلِّط لوكسنبرغ الضوء على منهجه الاستدلالي. ومنهجه، انطلاقًا من تلك المقاطع التي أشكلت على المفسِّرين الغربيين، يجري كما يلي: في البدء كان يتحقق من وجود تفسير معقول في الطبري جاز عنه المفسِّرون الغربيون؛ فإنْ لم يجده تراه يدقق فيما إذا كان اللسان يتضمن معنى لم يعرفه الطبري أو مصادره الأسبق. فإذا لم يتفتق الأمر عن شيء، كان يتحقق ضمن السياق إن كان لتلك العبارة العربية جذرٌ آرامي يشابهها لفظًا ويخالفها معنى وينطبق على السياق. وقد وجد لوكسنبرغ، في حالات عديدة، أن الكلمة السريانية بمعناها كانت أكثر منطقية – مع الإشارة هنا إلى أن هذه الخطوات الأولى للاستدلال لم تمس النص الخالي من الحركات للطبعة القاهرية للقرآن.

[13]
فإذا لم تسفر هذه الخطوات عن شيء، كان يتأكد من أن تبديل واحدة أو أكثر من النقط يؤدي إلى جعل العبارة العربية أكثر منطقية. وقد وجد لوكسنبرغ أن المشكلة في العديد من الحالات عبارة عن التباس حرف ساكن بآخر. فإن لم يسفر هذا عن شيء كان يعمد إلى تغيير نقطة أو أكثر ومن بعدُ التحقق من وجود جذر سرياني مشابه لفظًا معقول المعنى.

[14]
فإذا لم يحصل بعد هذا كلِّه على حلٍّ، يتحقق مما إذا كانت الكلمة العربية نسخة من تعبير سرياني. وللنُّسَخ هنا معنيان: صرفي ودلالي. النسخة الصرفية هي استعارة تحافظ على بنيان الكلمة الأصلية، لكنْ باستعمال كُلَيْمَات اللغة الهدف. على سبيل المثال، فإن كلمة Fernsehen الألمانية مؤلَّفة من كُلَيْمتَيْ tele visio والمكوِّنتين لكلمة television الإنكليزية، مترجَمتين إلى مرادفتيهما الألمانيتين. أما النسخة الدلالية فهي تنسب المعنى المستعار إلى كلمة لم تكن تحمله سابقًا، لكنه على كلِّ حال مترادف مع الكلمة الأصلية.

[15]
يعرض لوكسنبرغ في الباب الرابع لتطور الكتابة العربية ولأهميته المحورية في سيرة نقل القرآن، فيبيِّن أنه كانت ثمة في الأصل ستة حروف للتمييز بين نحو ستة وعشرين صوتاً. وقد جرى من بعدُ تدريجيًا التمييز بين هذه الحروف عن طريق نقط تُكتَب فوق كل حرف أو تحته. وقد بدأت الأبجدية العربية المستعملة في القرآن كفنِّ اختزال أو كأداة تذكير ليس المقصود منها أن تكون مفتاحًا كاملاً لأصوات اللغة. ويستنتج لوكسنبرغ أن نقل النص عن محمد لم يكن على الأرجح نقلاً شفويًّا عن طريق الذاكرة، وذلك خلافًا للرأي السائد والمعتمَد في الموروث الإسلامي.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 13/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *