«الغريبة» لانتصار حدية:صرخة من أجل العدالة الاجتماعية

 

الكتابة وتَمَوُّجَات المعنى:

لن تغدو الكتابة فِعْلاً ألِقاً ومتوهِّجاً إلا إذا انْوَسَمَتْ بخصوبة في التفكير، وتميزت باستراتيجيتها في تَطَارح القضايا، وجِدَّة منظوراتها في طرقها ومناولتها.نفهم من هذا الكلام أن الكتابة نمط تفكيك، وموقف فكري قُصُودُه النَّبش في اللاَّمَقول، وتقليبه في كل أوجهه هَدَفاً إلى تقديمه أمام القارئ انفعالاً للنظر.(الخطيبي: النقد..ص. 189) ذلك أن الكتابة، فضلا عن كونها نشاطا مفتوحا داخل قبيلة الكلمات، هي التزام مع الذات، وميثاق بين صاحب النص وقارئه. ميثاق لا يكون المتلقي بمقتضاه منفعلا، منصاعا لمحمول النص (ح.بركات: ص: 153) وإنما متفاعلا معه إلى أبعد الحدود عبر اختراقه بالاستفهامات الحَيَوِيَّة المُحَرِّكة لأوتاره الدَّفينة الحَاحِبَة للمعضلات الكبرى التي يَمُورُ بها المجتمع (الخطيبي: المغرب.. ص: 122)
ولعل هذا، في ما أُقَدِّر، هوالرهان الذي تنتظم حوله حَرَكِيَة الكتابة الأدبية عند الأستاذة « انتصار حدية «، وتحديدا عملها الروائي المنشور تحت عنوان « الغريبة ».

من العنوان إلى النص :

« الغريبة » هو ما اقترحه الأستاذ« أحمد جوهري » تعريبا للنص الأصلي ‘L›Inconnue’
يتضمن نص «الغريبة» 190 صفحة مُوَزَّعة على 28 فصلا تَتَصدَّرها ديباجة نقدية هي من إنجاز الترجمان نفسه فضلا عن الخاتمة.
نَنْبَرِي بدءا للعنوان من خلال القاموس فنقرأ: من الجذر العربي:غ . ر. ب. اشتق الغريب / الغريبة: الرجل والمرأة البعيد « ة » عن الأهل. والغريب / الغريبة البعيد عن الفهم والوضوح، والغامض واللامألوف. وهو أيضا من ليس من القوم، ومن لايمُتُّ إلى الحارة، والأسرة، والبلد بأية صلة. إنه المجهول وغير الجَلِيٍّ.( القاموس المحيط +المنجد) وهو الخَفِي كذلك واللَّامُحَدَّد الذي يُطْمِرُ أسراراً يَستلزم الأمر سبْرُ أغوارِها، والحفر في بَوَاطِنِها ( قاموس روبير الفرنسي.)
نُحَصِّلُ إذن من هذه التدقيقات اللغوية أن»الغريبة» هي المُبْهَمة، وغير الجَلِية التي ستظل على مدار معادلة الرواية نَظِيرَ ظِلِّنا الذي كلما طاردناه سابقنا دون أن نُمْسِك بأي من تلابيبه.
تتحَرَّك رواية «الغريبة» ضمن فضاء زمني يمتد من سنة 1978 إلى مطالع الألفية الثالثة؛ (حدية.ص: 21) وتدور أحداثها بين مدينتين: آسفي مسقط رأس « ليلى» ومَهْوَى روحها، وشجن حنينها واشتياقها إلى رفيقاتها؛ وإلى «إيفون» صديقة عمرها على وجه الخصوص حيث « توثقت عرى صداقتهما، واقتسمتا أحداث حياتهما الصغرى والكبرى، الحلوة والمرة «؛ ( نفسه. ص: 24) ومدينة الرباط التي ظلت» ليلى « تشعر، رغم مقامها الطويل بها ، بأنها «غريبة أكثر مما كانت عليه عندما حلت بها أول مرة ! وعي لاتزال تتذكر تماما ذلك اليوم البعيد بِحَرِّهِ الخانق حين رحلت غير نادمة وبحماس المراهقة عن آسفي، المدينة التي رأت فيها النور، لتعيش بجوار زوجها في المدينة الكبرى. «(ص: 19)
لم تدم سعادة « ليلى» الزوجية سوى سنوات معدودات حيث ستتعرض لرجتين نفسيتين قلبتا حياتها رأسا على عقب:
– تَرمُّلُها المفاجئ على إثر وفاة زوجها في حادثة سير.
– وَرَجَّة « قانون تقسيم الإرث» «غير المتكافئ والمنافي للعقل تماما «في التشريع الإسلامي (ص:73). فلما كانت» ليلى «بلا ذرية بسبب عقم زوجها، سيظهر « فؤاد « شقيق بعلها الذي لايزال على قيد الحياة مطالبا بحصته في ميراث أخيه المتوفي حيث سيخرجها من دَارَتِها التي» بنتها وجددتها مع زوجها بذوق رفيع» صائحا في وجه زوجة أخيه: «هذا هوالقانون ! لدي الحق…»(ص: 18) ولتعيش بما فَضُلَ لها من النَّزر اليسير من القسمة مُسْتَوْحِدة داخل شقة وسط حارة شعبية تغمرها الضوضاء؛ وتملأها الأوساخ، ويغرقها الظلام في غَسَق الليل؛ تَجْتَرُّ أحزانها، وتُسَائِل حظها التَّعِس الذي كاد أن يُطَوِّحَ بها في ليل الجنون. فبهكذا عبارات بين ثنايا الاقتباس التالي، تصف الكاتبة «انتصار حدية» المآل القاتم الذي آلت إليه ليلى،وتُعَبِّرُ طَيَّهُ عن الحَسْرة النفسية التي ترتبت على ذلك المصير: «فقد انقض الزمان تماما على لحظة واحدة بعينها، مثل طلقة بندقية أو انفجار قنبلة حطمت حياة امرئ ومزقتها أشلاء. وقد عاشت زمنا طويلا في أمان، واتسمت حياتها السابقة بالهدوء البهي والرائع الجمال. أسرة، وزوج، وحب، ومال، وبيت جميل، ووعود بالسعادة مع نسيم كل صبح. أما الآن فالفراغ. أيامها الكئيبة تسير رتيبة على إيقاع صوت مؤذن بمسجد قريب لاتراه، وخطواتها، وهي تَذْرَعُ تلك الشقة ذهابا وجيئة كذبابة وقعت في شَرك، هي أهم ماكانت تتفعل في يومها.»(ص: 17) إلى حد أنها كانت كلما تأملت صورة زوجها الراحل الموضوعة على منضدة السرير ناجته بِأَسىً :»كان العمر كله أمامك، فهل كان لازما على ذلك السائق الملعون أن يخطفك مني؟ آه ربي! كم كان ظالما! وما أشد وحدتي الآن… وأينما كنت أرجو أن لا تراني. فلو عَلِمْتَ ما شربتُ من مرارة كأس الدنيا لتألَّمْتَ لِمَا أصابني بَعْدَك « (ص: 16)
وفي لُجَّةِ هذه الفَجْعَةِ والغُمَّة التي جعلت «ليلى» منطوية على نفسها « معزولة في جزيرتها عن العالم» إذ لم تكن» تسمع حسا ولا تبصر شيئا « (ص: 35) ستعثر يوما؛ وهي قافلة لتَوِّهَا من عملية التبَضُّع، ستعثر بالصدفة على رضيعة ملفوفة بعناية برداء من الصوف الأبيض داخل كيس. وبعد لَأٰيٍ ومَشَقَّة ستتبنى « ليلى «هذه الرضيعة التي اختارت لها اسم «فرح». لقد غمرت هذه الصبية حياة « ليلى» سعادة فجعلتها « تقبل على الاستمتاع بالحياة من جديد… وتَشْحَذُ رغبتها في الصمود ومواصلة ركوب المغامرة »( ص: 54) في تَبَنِّي طفلة وهي الرغبة التي ظلت مطمورة في لاوعيها جراء الرفض البَات لزوجها أن تحضن طفلة تعوضها أمومتها المفقودة (ص: 45)

تفكيك فني للمجتمع:

كتب الشاعر الفرنسي «لوي أراغون»مايلي: «الأدب، بالنسبة لأي بلاد، قضية جدية، إذ أنه وجهه في آخر المطاف.»(ب.حميش.ص: 113) وجِدِّيَةُ الأدب، في تقديري، تُرَدُّ إلى رهانين اثنين:
– رهان البحث بالكلمة الجميلة عن معاني الحياة ودلالاتها.
– ورهان الاتصال بالواقع لإثارة مختلف المعضلات الاجتماعية وقضايا الإنسان.(غ. شكري:ص: 36) على اعتبار أن الأديب كإنسان – فنان هو جماع تاريخي، واجتماعي، وبشري لفترة زمنية بعينها.(غ. شكري: ص: 42 )
واستتباعاً، تضحى الأشكال الأدبية عموما، والإنتاج الروائي تخصيصا نظرة فنية إلى الوجود العيني من جهة؛ وتشريحا جماليا بمبضع الإبداع لأدق تفاصيل المجتمع، ونبض السياسة، ولطبيعة العلاقات السائدة من جهة ثانية؛ فتركيبا ثم إعادة تركيب واعية للواقع الاجتماعي عبر رسم ملامح الشخوص، وأساليب السرد وبناء الحوار من جهة ثالثة.
إن هذه الملاحظات، وعليها قِسْ كثيرا، تصدق إلى حد كبير على رواية «الغريبة». فإلى جانب معمارها الفني والتقني الذي سلَّط التُّرجمان عليه أضواء ساطعة (حدية.ص: 7-10) نُلْفِي العمل يثير بِحِسِّ الأديبة الملتزمة وجُرأَة الفاعلة الثقافية سلسلة من المسأليات في منتهى الأهمية لارتهانها بالتشريع الإسلامي، والاجتهاد الفقي، ولارتباطها بالعدالة الاجتماعية، وبالتالي بجملة من المطالب الحقوقية. ومن ذلك:
– وضعية الأرامل داخل مجتمع أبوي- ذكوري تمثلاته تنهض على التَّوَجُس من النساء وثقافته الشعبية تتمحور حول الغَيْبَة، واخْتلاق القصص من لَدُن قَالَةِ السُّوء وما أكثرهم!(ص:185)
– محنة الأطفال المُتَخَلَّى عنهم بحسبان أن ظروف البؤس الاجتماعي والنفسي لذويهم لاتحول فحسب دون استمتاعهم بمرحلة عمرية من الأهمية بمكان؛ وإنما تُحرمهم من حقوقهم الأساسية كأطفال في التربية والتكوين، والرعاية الصحية، والاجتماعية، ولتقذف بهم في نهاية المطاف في جحيم الاستغلال حيث، يتم تسخيرهم، دون رحمة، في أشغال تفوق طاقاتهم، وتتجاوز إمكاناتهم وقدراتهم البدنية والذهنية…(حالة الطفلة «فتيحة »)
( ص: 117) أو يَتِم التربُّص بهم للاعتداء عليهم من قبل من تتملكهم مشاعر العدوان، ونزوات التدمير(ص:130) مثل« كريم » المضطرب نفسانيا (ص: 122-123) الذي استشعرت « ليلى» خطره على الطفلتين « فرح » و « فتيحة » ذات زيارة خاطفة لخالتها بآسفي. تكتب « انتصار حدية »: « والشوكة الوحيدة التي قضَّتْ مضجعها خلال مقامها (= بآسفي )هي تلك اللقاءات القصيرة مع ابن خالتها (= كريم )،على مائدة الغداء أو حين يشاركهن أحيانا شاي المساء أوالعشاء. فلم يكن فظُاً في موقفه فقط، بل كان هناك شيء آخر جعلها تضطرب منه. وقد ظنت أول الأمر أنه امتداد للكراهية التي تحملها تجاهه، لكن لم يكن بإمكانها الشك ولا إيجاد أي تفسير ممكن. كانت نظراته المُغْوِيَة والمنْحَرِفَة تتجول في جسد ابنتها (= فرح ).. كانت عيناه الفاسقتان فوق طاقتها، لذلك قررت اختصار مقامها ضد رغبة خالتها العجوز التي لم تر شيئا، وحتى لو رأته كانت ستنفي أي همز يمس سلامة ذريتها. فقد كانت تعبده لدرجة تعميها عن رؤية أخطائه.»(ص: 125)
وإلى مأساة اعتصار الأطفال المتخلى عنهم، تنصاف مواجع أُخَر أشدُّ وقْعاً على نفوسهم من الاستغلال والتسخير. ففي خضم مجتمع مُخَثَّرٍ في الأعراف؛ وَمُنْغَرِزٍ في اللاَّعقلانية يتم النظر إلى الأطفال المتخلى عنهم بوصفهم « إثما» و «عارا»، و»لُقَطَاء» و»أبناء سِفاح» لمجرد أنهم وُلِدوا خارج مؤسسة الزواج على إثر نزوة مأجورة تمقتها الأخلاق البطريركية المتأصلة من المنظومة القبلية (ص: 132-137-155) لتظل تلك النعوت « تغرز الخنجر أكثر في الجرح الغائر الذي لن يندمل…بأي دواء.»(ص: 137) وهذا هو الجرح الذي اصْطَبَرَتْه «فرح» دون شكوى وهي بصدد إعداد امتحاناتها لنيل شهادة الباكالوريا حين كانت نوال ، ابنة «فؤاد»، تصعقها بلسان سليطٍ مدفوعة بنار الغيرة لأن «فرح» كانت بإصرارها على المثابرة والاجتهاد تحصد أعلى النقط داخل فصلها. وهنا نسأل: أَلَيْسَتْ «نوال»هاته النظير الأنثوي الذي يُضَارع بمنزعه التدميري، ونزواته الهَدَّامَة شخصية «فؤاد» والدها الذي زَمْجَرَ يوما، ودون غَضاضة، في وجه « ليلى » زوجة أخيه!! قائلا: «هذا هو القانون! لديَّ الحق…»(ص:18) وكَأَيِّ انتهازي صِرْف، لاَيُسْتَبْعدُ أن يكون (= فؤاد) قد رَدَّدَ في دَخِيلة نفسه مَزْهُوّاً وهو يُقْبِلُ على صَنِيعِه البَغِيضِ: هذه فرصةَ عمري لأُتَخَلَّصَ من فَاقَتِي، وأُوَدِّعَ عِوَزِي وإن بانْكِسَارِ أَرْمَلَة؟!!
– رصد لبعض مظاهر التحول الذي يشهدها المجتمع المغربي منذ مطالع عقد ثمانيات القرن المنصرم (= زمن الرواية) على صعيد المسلكيات؛ والعلاقات الاجتماعية ومنظومة القيم…(ص: 14-15). إنها التحولات التي فرضتها الإِرْغَامَات الاقتصادية، ومستجدات الوضع الجيو-سياسي الإقليمي، ومتغيرات دولية كان من مُتَرَتِّبَاتِها خضوع المغرب لإشراطات المؤسسات المالية العالمية في أفق ضبط توازناته الماكرو- اقتصادية على حساب القطاعات الاجتماعية المنتجة للفرد- المواطن؛ وهو النهج السياسي الذي أفرز كيانات مشوهة، كَسِيحَة فكريا، مُتَقشِّفَة أخلاقيا، ومَنْخُورَة نفسانيا؛ وتَخَلقَتْ منه كائنات على قدر كبير من الفتور والسلبية.(ص: 48) وآية ذلك «نادية»مديرة «دار الأيتام»(ص: 40)
التي كلما واجهها مُسْتَجَد أوَكَلَتْ للصُّدَف أو للأقدار حله. إنها نموذج المسؤول غير المسؤول، ومثال للموظف عديم الحِس المهني، المُفْتقِر للمواصفات الضرورية، والمؤهلات المطلوبة. ويناظر»نادية» في مسلك الاستخفاف بروح المسؤولية موظف المحكمة «الناقِم»
والمغلوب على أمره (ص: 57) الذي كلما خاطب مواطنا فَاضَ» لسانه مثل خُرُاجٍ امتلأ صَدِيدًا…بكلمات لاذعة تكشف عن واقع بيته «حيث الفوضى العارمة وصخب الأطفال. (ص: 48)

مُخْتَتَم:

مما مَرَّ معنا يتبين أن نص»الغريبة» للأستاذة انتصار حدية رواية اجتماعية بامتياز تندرج ضمن مشروع فكري متكامل يَمْتَح من خلفية نظرية محكمة تتوسل بها الكاتبة الوقوف عند أدواء مجتمع في محك التحول. إنه، بلا غرو، مشروع طموح بإثارته لأبرز التساؤلات الاستفهامية حُرْقَة حول مظاهرهذا التغير ومآله المحتملة، ووقعه على الثقافة، ومنظومة القيم، وتأثيراته على التنشئة، والأدوار، فمستويات التفاعل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات…
زِدْ على ذلك أن «الغريبة» تشكل في أحد أبعادها الأساسية صرخة جيل من الشباب جديد، يَتَّقِدُ حماسةً، وتَحْذوه جَذْوَةُ شوقٍ عارمٌ لإرساء بنيات استقبال التغيير التجاوزي المَنْشُود في المستقبل المنظور. أَعْنِي مجتمعا مدنيا حقيقيا متعاضدا، داخل وطن يَسَعُ الجميع. أَفَلاَ يُشَكِّل هذا المَطْمَح المِهْمَاز الذي جَنَحَ ب»فرح» صوب دراسة الطب كَ «خيار حياة» (ص: 189) فالتخصص في طب الأطفال في ما بعد؟ أَلاَ تعتبر الثقافة الحقوقية، والإيمان بالإنسان مبتدأ ومنتهى التنمية الشاملة الباعثين الموضوعيين اللذين جعلاَ الأديبة- الطبيبة انتصار حدية تُوثِرُ الرواية الاجتماعية هُجُوعاً عن»الرواية المضادة» التي لاتقيم وَزْناً لنبض التاريخ فضلا عن المواقف والصراع الطبقي؟


الكاتب : د. ناصر السوسي

  

بتاريخ : 26/05/2023