لا ترضخ القصة «التجريبية» لدى أنيس، ولا يمكنها ذلك، لأي بوليس قصصي (أو فكري) مفترض، لأنها حققت نوعا من الاتفاق مع نفسها، مع جملها، مع معجمها، مع بنائها، مع أسواق تبضعها. وهذا ما نلاحظه في كل أعماله تقريبا، بدءا من «أشياء تمر دون أن تحدث فعلا» (2002)، وصولا إلى «سيرك الحيوانات المتوهمة» (2023).
في أعمال أنيس الرافعي، لا يبدو العراك قويا مع المرجعيات. إنه يجعلها غالبا مرئية نكاية في «النقد الكسول»، أي النقد الذي يبني دفاعاته وقياساته على النظريات، ليتدارك بكل تأكيد ما فاته. وأنا أتصور أن لقاء النقاد بقصص أنيس أشبه بقمة حرب. كما يخيل إليّ أن هؤلاء يحتاجون إلى تدريبات عسكرية متواصلة للنفاد إلى عمق نصوصه وأصلها وفصلها. أعني الأصل المطموس أو الأصل المنسوخ. وهنا يصعب الفصل بين الأصلي والمنسوخ أو التمييز بينهما. نص أنيس يصبح هو الأصل لأنه يخلق تشابكاته الخاصة، لغة ومجازا.
بإمكان أنيس أن يتأمل القصة من الداخل، وبإمكانه التعليق عليها، بل بوسعه أيضا تقييم حدود هذا الموقف السردي ومزاياه. وأجازف بالقول إن كتاباته مشروع بحثي يرقى إلى كشف شامل ومنهجي وفقا لمعايير نقدية وميتاسردية عامة. وأزعم أيضا أن أغلب أفكاره القصصية تتمحور حول موضوع التجريب، سواء على مستوى البنية الموضوعاتية أو اللغوية (النحوية والتركيبية)، أم على مستوى الاستطرادات الذاتية. غير أن هذا المستوى من الفكر يظهر أساسا، وبشكل صريح ومتعمد، في مقالاته النقدية والتأملية، والتي يستخدم فيها أنيس المكر نفسه الذي نواجهه في أعماله القصصية.
خلفية أنيس معروفة جدا، ومعلنة، ولا تشوبها شائبة. ألم يفته أن يكون كاتبا أرجنتينيا؟ ألا يعترف بقرابته التي لا غبار عليها لخوليو كورتثار وبورخيس وأندريس نيومان وألبرتو مانغويل؟
ففي قصصه يتقدم الصوت الناقد المنشق عن النظريات، العائم حتى النخاع فيها، الخائض بلا كلل ولا ملل في طمسها، لأنه فطن إلى وجود أخطار أوسع وأعمق تخفيها كل قصة، كما لو أنه يريد معالجة معظم المشاكل القصصية بتوسيع إدراك القارئ لها. لكن أي قارئ؟
التوسيع يتم في اشكال كلامية متعددة. وهنا ألوذ بنظرية أفعال الكلام لأقول إن التهكم مستودع كبير للأجواء القصصية عند أنيس (الريباخا، التبرمل، الهسامسة.. إلخ). فعلى العكس، من أبناء جيله، اختار أنيس ورشة جمالية خاصة. فهو ليس صانع حكايات بالمفهوم التقليدي للحكاية، بل خالق مواقف سردية، كأن حكاياته مكتوبة للدفاع عن هذه المواقف. هذه هي الإيديولوجيا القصصية التي يتبناها أنيس، ويدافع عنها بتبصر واهتمام، بل أزعم أن كل قراءاته المتنوعة تصب فيها. هي الكل التي يوجه الكل ويخترقه ويزدهر فيه. وعليه، فإن ما يحدد فعله الكلامي، وهذا ما يجب الإقرار به، هو النشاط الممكن إنجازه بتلفظنا بنوع من الكلمات والجمل والمقتبسات.
يكتب أنيس بدون دعاية أو تبشير. فالورشة القصصية، في أكثر أشكالها كشفا، هي الماتريكس الذي لا يفشل أبدا في الإحاطة بكل القصص. أفكر هنا في القرابة العائلية بين أنيس وبورخيس.
ينسب لكاتب الإضبارة نوع من الاستبصار التجريبي والانحياز إلى شكل فني يمثل المتاهة البورخيسية، غير أن أنيس يلعب هنا دور الملك مينوس، ولكن أيضا أدوار المتاهة والمينوتور وثيسيوس، دون أي نسخة نهائية للمتاهة. دعونا نفكر هنا في أن أنيس يفخخ نصوصه بأخطاء وثيقة الصلة بالتفكير التجريبي. والمقصود هنا أن أنيس يخوض في القصة من خلال تفكير نسبي وتهكمي، ذي نهاية مفتوحة تتصل ببعضها لتخلق لنا المتاهة.
أنيس يضع دائما أمام قارئه حزمة من الفخاخ، أو «مبطلات الفهم»، لأنه ليس معنيا بالإفهام، ولا بتبرير السلوك القصصي:
الإيهام بعدم الترابط. هذا الموقف هو الذي يحدد «إرادة الهيمنة» التي يوجهها الشكل نحو المضمون في نوع من الذكاء المعملي (المختبري) الذي يسعى إلى تجنب أي حكم نهائي على أعماله التي لا تتوافق في جوهرها وكليتها مع الترابط. كيف يمكن الحديث عن الترابط إذا كان التركيب هو الحل الشافي للموضوع القصصي؟
القصة لا تحتكر شكلا معينا: فما يجعل القصة قصة ليس شكلها بالضرورة، ولا رغبتها في الانتماء لهذا الشكل (القصدية والتجنيس)، بل ما يجعلها كذلك، البلاغة السردية والعناد التجريبي.
القصة تقاوم جميع الأجناس الأدبية والتعبيرية الأخرى. ويتم فعل المقاومة بتحويل تلك الأجناس إلى إمكانات داعمة للقصة، ولهويتها المتحركة والمتغيرة في كل مرحلة من المراحل، وفي كل كتاب من الكتب، بل في كل نص من النصوص. كل الأشكال يمكنها أن تتجاور في قصص أنيس، لكنها تحتل وقعا ثانويا يخدم التوجه التجريبي الراسخ للكاتب.
حشد الصور والحكايات والأخبار والمرويات والأحاديث والمقتبسات، وصهرها إلى درجة أنها تتغلب على حقيقتها، فتتحول بموجب ذلك إلى مجرد مادة مسخرة لخدمة الموقف القصصي العام لأنيس.
من المثير للاهتمام أن نص أنيس ليس طبقة واحدة. فالنص التراثي القديم مثلا (كتب الأذكار والسحر والتعاويذ والمغازي والسير.. إلخ) تسافر، وهذا شرط أساسي، نحو الإحساس القصصي المعاصر، ويمكن قراءتها، لا في ضوء العبر وأسباب النزول، بل في ضوء الاشتباكات التي يصنعها أنيس، طبقة طبقة، إلى أن تتمرد التضاريس على الجيولوجيا.
لا يمكن الحكم على نصوص أنيس من الخارج. إذ تحتوي هذه النصوص على جرعة معتبرة من النقد والتأمل، وهو موقف متماسك لا يرضخ إلى الشؤون النقدية العليا، ولا إلى النظريات البحثية الكبرى. موقف ماكر يجعلنا في مواجهة مباشرة مع التلبيس الذي دأب أنيس على استعماله كاستراتيجية كتابية. والسؤال هو: ألا يسعى أنيس إلى تحصين نصه ضد التعليقات النقدية التي لا تفهمه؟
لا يشير أنيس إلى أي «بدائل» قصصية. فهو يتبنى بوعي تام «انفتاح النص القصصي» بما يجعل كل نص مقيدا بشروطه الخاصة، بل أحيانا بقرائه الخاصين. والقصة كلها أن أنيس أدرك مبكرا أن الشيء القصصي مجرد «حافز سردي» لتركيب عدد لا يحصى من القصص.
التحيز التام للشكل: يثمن أنيس الشكل القصصي على حساب المضمون القصصي. وبعبارة أخرى إن كل الأشكال التي يستعملها أنيس، وكل الإيقاعات والتصاوير والجداول، تلفت الانتباه إلى حالتها القصصية، وهو ما يساهم في تدعيم حيوية النص، وتركيز الدافع القصصي، وتكثير مشتقاته وتنويعها.
لا يحترم أنيس فكرة الأصلي. وهنا أجازف بالقول إن هذا ما يصنع «أصالة أنيس كقاص كبير ومتفرد». الانتهاك عقيدة القاص، ولا حرمة لأي شيء. وعلينا ألا نفهم من هذا الكلام أن وحشية الانتهاك عفوية وغير خاضعة للموقف القصصي العام. ذلك أن أنيس يدرك أن القصصية لا توجد في «الأصلي» بل في انتهاكه وتحويله واختراقه، والتمرد عليه وقلبه وتصريفه لخدمة «النظام القصصي» الخاص. يقول: «الكاتب قد يخلق لنفسه معاييره الخاصة، لكن من الضروري لطريقة الكتابة في كل مرة أن تنتهي إلى تشكيل خطر على هذه المعايير، وتحاول نسفها وإلا تحولت إلى نوع من «الأصولية التجريبية»..».
من المؤكد أن أنيس طور أسلوبا متماسكا ومترابطا وساخرا بشكل كبير. ولهذا اهتدى بالمكر اللازم إلى فكرة الانتماء الشامل والنهائي للقصة، ولا شيء غير القصة. والسؤال هو: لماذا القصة؟
الجواب هو: لقد منح أنيس القصة حياة جديدة على النحو الذي يجعل منها «رواية» أو «قصيدة» أو «فيلما».. إلخ. إذ يمكنه سرده المتسلسل والمتنقل من الوصول إلى حبكات متصلة وشخصيات مترابطة قد تهزم المسافة بين القصة والرواية على سبيل المثال. وتبعا لذلك، فأنيس لم يطرق باب الرواية أو القصيدة، لأنه، وببساطة شديدة، ليس بحاجة إلى ذلك. فهو يكتب كل الأجناس ويخترقها على طريقته، وبوعيه الحاد بممكنات القصة التي تتحقق في مشغله الخاص، أي تلك القصة المرتبة داخل نظام متنوع من الحبكات.
ألم يقل في كتابه مقبرة الخرذوات: «إن الطريقة المتسكعة التي أكتب بها تجعلني لائذا ولاجئا في صحاري الأجناس الأدبية وفيافي الأشكال العابرة للأنواع والأصناف، موزع الدماء والأطراف والأشلاء بين قبائلها ومواقدها. أتمادى في ضلالي حد التيه ولست مستعدا للاهتداء إلى وجهة معينة أو نهائية» (ص93)؟ وهو لهذا السبب بالذات يدعو إلى «تمزيق الخرائط» التي يعتبرها «وعدا بالوصول». وعليه، فإن أنيس، يمارس علنا وبوضوح تام، وبنوع كبير من الدهاء، «التقافز الأكروباتي» بين الأجناس في نصوصه، حتى وهو يعلن اعتناق القصة كـ»عقيدة منبوذة» أو «ديانة بالغة السرية»، بحسب تعبيره.
أنيس الرافعي، كاتب مثير للقلق. والسبب هو تلك الطريقة البارعة التي يخلط بها المادة القصصية، ذلك أنه بقدر ما هو قاص «تشذيري»، فهو أيضا، وبدرجة كبيرة من الفنية، سارد استطرادات، على درجة كبيرة من ملاحقة التنويع. إذ ينطلق من فكرة ما، أو من شيء ما، أو من حالة ما، ليطورها ويحولها وينظم لها علاقات ديبلوماسية مع الفلسفة والتاريخ والأنثربولوجيا والعلوم البيولوجية والجيولوجية والفيزيائية والرياضيات والسحر والخيمياء، وعلم الإشارات والرموز. وهذا ما يجعلنا أمام نصوص ممتلئة بالمرح والخفة واللامبالاة، وأيضا بمعرفة أخرى يوهمنا أنها من كتب السابقين، بينما هي، وبقدر كبير من التهكم، معمدة في كتابه السري الخاص، وموجودة في فكره وتفكيره على سبيل الافتراض.
لدى أنيس شيء استثنائي مراوغ يرتفع عما يمكن أن نسميه «الإخفاق القصصي». القصة ليست مجرد حكاية وحبكة وصراع ولحظة تنوير.. إلخ. إنها شأن آخر يشبه كونا يخلقه الكاتب باستمرار، وعلى وجوه لا نهائية متشابهة ومتطاردة. وعلى ذلك، فإن نصه القصصي يقطع الطريق عن تقليد كل ما سبق، من خلال إصراره على التركيب، أو «المونتاج المتعدد الأبعاد والفائق الدقة»، أو ما يمكن أن نسميه أيضا «تضامن الأجساد المتنافرة».
يخبرنا أنيس من خلال نصوصه أن القصة تحتاج إلى معرفة جديدة، خاصة أن اهتداءه إلى تقنية «الإضبارة»، كمجمع سري لـ»الأشياء القصصية»، مكنه من إدراك أن القصة تصنعها الاستعمالات أكثر من القواعد والمعايير، كما أدرك أن القصة لا جنس لها. ليست جنسا صرفا، ولا تكتب من جهة ماضيها الآمن، بل من جهة الافتقار إلى هوية أصلية. وهذا معناه أن القصة تكتب، طولا وعرضا، بالشك وفقدان السيطرة وبـ»صراع الهويات». إن التحكم مجرد خيال أدبي، كما أن القصة لا توجد في كتب الأدب والنقد، بل توجد في كل شيء.
ينظر أنيس إلى القصة، كما انتهى إليها هو، دون أي تحفظ فكري أو التزام أخلاقي، ذلك أنه لا يعزلها، مثلما يفعل بعض المنظرين، عن لحظة الاشتغال. بل أجازف بالقول إنه غير مهتم بالتحقق قدر اهتمامه بالمشغل الذي ينطوي لديه على قيمة فريدة. لا يهتم بالاكتمال قدر اهتمامه بالصور الممكنة في المتلاشيات. لا شيء يحدث بشكل عرضي غير المادة، أما الصورة فهو سيدها، تخييلا وسردا ومقاما. ولهذا فسنده الداعم هو المشغل القصصي، أي الخطوة التي تبحث دائما عن قدم، أما الطريق فهي أرض السرد الواسعة.
كل شيء في قصص أنيس يثير الريبة. والسؤال هو: كيف تقرؤها دون ارتياب، ودون قدرة على حل مغالقها، ودون أن تتجنب الوقوع في السهولة. إنها قصص لا تمنح نفسها على أوجه كثيرة، كما تغير معالمها بما تحويه من ميتاسرد وتعليق تأمل. ليس هناك أي قصة أحادية المعنى، ما دام هذا المعنى نفسه ينتمي بشكل عميق إلى ما يمكن أن نسميه «التقويض ما بعد الحداثي» قصص سائلة تتهرب باستمرار، وبوعي جمالي مكثف، من التأثير النقدي العام، بل تتخلى بمرح عن كل ما يجعلها وثيقة الصلة بالأجناس الصلبة.
هل معنى ذلك أن أنيس ماكنة «طروس مطموسة الأصل»؟
إطلاقا. فأنيس يفكر في القصة وبها، ولا يتوقف عن فعل ذلك، بدوافع فكرية ومنطقية وجمالية واضحة ومعلنة وغير متعجرفة.إن القصة هنا حالة وجودية وإيديولوجية في الوقت نفسه، ولا شيء يقع خارجها. نوع من الإيديولوجيا الشمولية التي تمتص بلا هوادة كل شيء قابل للقصصية، وتخترقه وتحوله. القصة فضاء للتحويل وصنع التوترات والدهشة. والقاص عامل بناء معني بتشييد «عوالم أليفة أو فانطاسية، واقعية أو حلمية، جذابة أو منفرة، ملتبسة الوضوح أو ناصعة السرية، بالغة الرومانسية أو شديدة القسوة، ولكنها في محصلة التحليل والتخييل، انسيابية وإنسانية في العمق»، كما يقول في مقالة تأملية بعنوان «سيناريو مستقبلي لكونية القصص القصيرة».
إن مغامرة أنيس الجمالية والفكرية تراهن على حماسة التواء الدليل (الدال والمدلول)، وعلى كثافة اللانهائي ودائريتِه، وأيضا على الأفكار التي لا تعرف للاستقرار مستقرا. لُجٌّ فوّار من الشكوك والانقلابات، يقف أنيس في قلبه، مثل ساحر ذي سيقان طويلة ومتعددة، ينشغل لا بإدهاش الجمهور، ولكن بإدارة المصائر على ساعة يد يتدفق منها كل شيء نحو كل شيء. غير أن أنيس ليس ساحرا بـ»المعنى العجيب». وبعبارة أخرى ليس هو ذاك «الشامان» الذي تحط كل أرواح الأسلاف في جوفه، وليس ذاك الذي يستدعي «مانيتو» ليتلاعب بالأقدار والأشياء والكلمات. بل إنه ساحر بمعنى المُلَبِّس، أي «لاعب الخفة» الذي يتقن الاختفاءات والدخول في جميع الهيآت. ومع ذلك، فإنه كاتب غير مسلٍّ، إذ أن أشكاله تشكل أمام «الجمهور الواسع»، جدرانا عالية لا يمكن تسلقها.
لقد شكلت تجارب أنيس القصصية والتأملية وعيا كبيرا بالتشظي الذي يختلف في السطح فقط، لكنه يختبر كل الأفكار والعوالم التي يجعلها تتسع وتختلف في لحظة ضيقة محصورة. لحظة يستمر فيها العزف حتى نهاية الغرق.
إن أنيس، رغم أنه ينتقل بحرية تامة بين الوثيقة والسيرة الذاتية والفانتازيا والتاريخ، نموذجي جدا في تشظيه. فهو ملتزم بتعدد أصناف المادة، واختلاف تمظهراتها الشكلية واللغوية. وهذا ما يجعلها متشظية، في سروده وتأملاته وحواراته وقراءاته الغيرية، دون أي إرهاق داخلي. كتابة مزدحمة بنفسها، ترتفع حرفيا ومجازيا عن كل ما يعترض نموها أو يعرقل دخولها في اشتباكات أخرى توجد داخلها.
يعقد أنيس شراكة مع «الأخطاء» بوصفها دعامةً لهيأة الأركان العامة التي يترأسها. (الخطأ هنا بمعنى القطيعة). جنرال قصصي لا أتباع له. يخوض حربا لا يعرف الطريق إليها سواه. ذلك أنه يقلص المسافة بينه وبين الفن المتوهج، بأخلاط سحرية يعز على الآخرين فك تركيباتها. وتبعا لذلك يحق لنا أن نتساءل: ما هي العلاقة التي تربط أنيس بـ»الكيتش»؟ وهل هذا «الكيتش» هو ما يمنحنا وضوح الرؤية حين نقرأ أعماله، وحين يختلط أمامنا الحابل بالنابل. الطوفان اللغوي بالشائع. النظام بالفوضى. التاريخ بالفانتازيا. البوليفونيا بالدرجة الصفر من الأصوات. الخلاب بالمبتذل؟
إن «الكيتش» هو الفكرة الجمالية التي تتأسس عليها كتابة أنيس. ذلك أن تيارات متعددة تعيش داخل هذه الكتابة، يمحو بعضها بعضا، ويخلق بعضها بعضا، في انسجام دكتاتوري لا تنفد طاقته. كما يعني التحرر التام أمام العوالق والبقايا، واستعمالها ودسها وتفخيخ الجملة القصصية بها. أليس هذا جزءا من عمل الخيميائي؟
يؤمن أنيس أن اللغة التي ننتج بها كتابا قصصيا ما، يجب أن تحمل في رحمها قواعد هدم هذه اللغة ذاتها، وأن تشكل باستمرار خطرا جسيما عليها. وهكذا، يظل المشغل القصصي المفتوح نهبا للمغايرة والتجاوز والحذف واللايقين.
هذا، إجمالا، هو الفكر القصصي المتقد الذي يؤدي أنيس، من خلاله، وفي أعماله، دور الإله، خاصة أنه يشتغل بدون عقيدة قصصية «صفائية» أو معيارية فعلية، ولذلك فهو في منتهى الإبداعية، لأن جملته وأشياءه يترادفان بأشكال مختلفة من النقر الآلي الذي يأتي من هذا الفكر المركب والاستثنائي، ليصل إلى ما يمكن أن نسميه «النص الفائق»، بتعبير إيطالو كالفينو.