الفنان عبدالله بلعباس في عمله الأخير «فعل الزمن»

 

رؤية تصويرية

كنت هناك ورأيت، في منتصف ليل مفتوح على السماء وامتداد البادية الواسعة، في منطقة دكالة المرحبة. ما الذي رأيته ؟ رؤية تصويرية مرتبطة بحضور يٌفضي إلى ذوق نادر تجاه الفن، شعور المرء بوجود عمل إبداعي مثير بما يحمله/يتحمله.
لقد شاهدت آخر أعمال الفنان عبد الله بلعباس. مبهرة ومعبرة كما يمكن أن تعلن عنه الالتماعات الفالتة في مكان غارق في التاريخ الفردي والحنين الشخصي للفنان. كل هذا الذي يدفع الفنان لخلق اشتغال ذاتي، عندما يرى أين يتواجد لحظتها، وما هو عليه من فورة في اليد والقريحة، أي هذه الأصالة التي تنعكس فيما بعد لدى الآخر، وتثير فيه انعكاسات كثيرة تتعلق بالفن.
تُوقفنا بثبات هذه الأعمال حول إثارة التساؤل عن افتتاننا بما نتأثر به ونحن نتملاها، أي عواطفنا. تلك التي تضع البصر بين الليل الذي يفترض أنه يخفي ما هو مليء به، لكنه لا يظهر، والنهار الذي من المفترض أن يُظهر، ولكنه في هذه الحالة الخاصة، يماثل الليل، لا يدع أي شيء «يُرى». هناك ذهاب إلى ما هو تحتي، أسود غالبًا، أسود متقاطع مع «شوائب» متعمدة، لأنه لا يوجد شيء مطلق في واقعه المرئي، كما هو معروف. هناك عودة/ صعود تذهب حتمًا نحو المركز لتقليل الانطباع الأول الذي يتركه الأسفل المستَشْعَر في البداية.
وهناك، تمسنا الأشكال بحضور يقدم لنا التأثيرات الأولى للحوافي، التي يعطيها اتجاهات معنونة مرتبطة بأجساد أو مظاهر أجسام. إنها لوحة حرة تم التفكير فيها بالفعل وحتما، قبل الانتقال إلى الابداع.

سجود الجسم:

هو وجود، ويبدو هنا جاسدا، محنطا في ثلاثة أرباع الجسد. يطالعنا أول ما يطالعنا الرأس كما لو كان مغطىً، أو مخفيًا إلى حد ما، بفتحة / فجوة بسبب اللون الأبيض المنتشر. وهو لون يجعل الضوء المسقط عليه ملطخًا باللون الرمادي بالكاد، ثم ما يلبث يتقاطع في المنتصف مع اللون الوردي اللحمي المُمْحَى. مباشرة يتم الانتقال إلى سلسلة جد متقنة من الرمادي في الجزء الخلفي من الجذع الذي يحد من «الضمادات»، ومن ثم يقع توضيح «الفوضى» في الأعلى. هي فكرة تفكك الجسد / العقل في ضباب الزمن. نشعر داخلها بعمق، فنسجن أنفسنا داخله.

غطاء / جسم

الأسود في الخلفية، أي الليل كقطعة من الزمن، يعيدنا إلى لوحة ثانية، حيث الوجود يأخذ شكلا يشبه جلدا منتشرا لكائن (حيواني مثل ذبيحة) كما لو كان معلقًا ومشدودا من ثلاثة من أطرافه. تصبح هنا النظرة خارجية. تم الاعتناء جيدًا باللون الأبيض الملطخ باللون الرمادي، لكنه يجد تنافسا من طرف لون أصفر مخضر أو ​​العكس، مَمْحِي وخفيف، إلا أن له تأثيرا قويا. نلاحظ أن فراغ الجسد هو الذي يحظى باهتمام ما قد يطفر من جدل فكري إزاءه. الجسد الذي هو مجرد قطعة من الغطاء (مثل ملاية) منتشر وممدود في فراغ محدد من الفضاء، متأثرًا بمرور الزمن في نسخته الحافلة بالأحداث والفاعلة. شفرات على شكل موجات تجزئ الجسد، بلا شعور ما، تاركة العفن يتجدد فيه.

الريح كشكل

نفس الخصائص تشتغل في اللوحة التي تظهر وجودًا تجريديًا نظيفًا، والذي يبدو أنه موجود لذاته. الشكل المركزي يسيطر على الخلفية السوداء لضباب الزمن. يمكنك قراءة أي شيء تريده هنا. ولكن حتى لو لم يكن مميزًا بدقة، فهو جسم خاضع لتأثير الريح، بضربات الطلاء المُعطاة، والخطوط المرسومة، والتدحرج الملحوظ. يمكن القول إن الجسد يشكل جسما واحدا مع الريح، مما يجعله يحوم حول حفرة كهف مظلمة. هنا أيضًا، يتم كسر اللون الأبيض المضيء في الجزء المخصص له بواسطة النور فيمحو اصفراره، ثم بهيمنة الأسود الرمادي والوردي اللحمي في النصف السفلي. العفن واللحمي متحالفان مع ما لا يبقى، والذي يتحرك داخل ذاته، حول وجوده المميز.

وجوه / صرخات كرب

لوحة قماشية يختلط فيها الأبيض والأسود والوردي وتتحدث مع بعضها البعض بطريقة غريبة. يهيمن الأسود في المثلث الذي يشكل النصف السفلي. اللون الأبيض غير موجود في كل مكان بفعل هجوم من اللون الوردي الفعال. يظهر هذا الخليط من هذه الألوان ويخلق أشكالًا بشرية ، عددًا قليلاً من الوجوه التي يمكن تعرفها بشكل أو بآخر، بأفواه مفتوحة أو عيون منتفخة. هنا صراخ بصوت عالٍ من الداخل، اهتياج تمامًا. نحن نواجه انقسامًا بين أسود الزمن الذي أصبح غيابًا في الأسفل، انجذابًا قسريًا نحو الاختفاء، والوردي لبشرَة الجسد في مواجهة بشرة أجساد مجاورة مما يشكل كتلًا غائمة في أعلى، هنا وهناك داخل مساحة اللوحة، ينخلق مثلث حياة يحاول بشكل محموم أن يديم الاستمرارية. إنه عالم داخلي ينحسر في الكثرة، وتتحد فيه مشاعر الالتفاف في المجموعة البشرية المختارة.
يعرف عن الفنان عبد الله بلعباس تميزه بالبورتريهات الشهيرة لكتاب كبار، وبلوحات المناظر الطبيعية والعديد من التجارب الأخرى وأنواع صباغية متنوعة، وفي سجلات فنية مختلفة، لكنه هنا يبدغ أعمالًا بجماليات تتحدث بلغة البحث الرصين. إنه يلتقط ويحفز الفهم. لا يمكننا فصل أنفسنا عنها، هي تحرك الحواس كثيرًا. هو حسن التنفيذ كإبداع، من الناحية الفنية. وذاك ما حدث لكاتب هذه السطور.


الكاتب : مبارك حسني

  

بتاريخ : 30/12/2022