«الفورْيان»

 

خلف باب حديدي ضخم وجدنا نفسينا مضطرتين إلى الجلوس على كرسيين مختلفين في اللون والشكل، لكنهما حققا لنا نفس الراحة، راحة جسدينا وقد أنهكهما قلق الانتظار، انتظار لم نخطط لسيناريوهاته ولم نشغل به مكانا بأجندتنا، التي تضمنت القيام بجولة خفيفة ببوتيكات الأحباس في حي المسيرة لنُتَوِّجَها بعد ذلك بتناول «الطنجية» كوجبة عشاء بمطعم «فركوس «. والتعب يداهمنا، الجوع أيضا أخذ منا نصيبا، لذلك قررنا التوجه نحو الباركينغ.
عند وصولنا إلى عين المكان، بحركة أتوماتيكية أخرجت مفتاح سيارتي من الحقيبة اليدوية، وأنا أرفع رأسي للاقتراب من السيارة، إذا بي أصعق بعدم تواجد ها بالمكان الذي تركتها به، بسرعة يحكمها الغضب، وينتعلها وقع المفاجأة الصادمة، وكشلال منهمر، أتدفق رفقة صديقتي في البحث عنها بين صفوف السيارات، بصوت مرتفع أنادي الكارديان، لا صدى لمن أنادي..
عجيب أمر هؤلاء الكارْديانات، لا نراهم إلا عند الإقلاع لمغادرة الباركينغ، لأخذ ثمن حراستهم الناقصة..
لم أكد أنهي ما أقول حتى رمقته يتوجه نحونا مهرولا وهو يقول : « واش كتقلبو على « آلْطو بيْضا؟»
بلسان واحد نجيب : نعم ..نعم
وَراهم داوْها للْفوريان..
وكأني لا أعرف صاحب الفِعلة، أقاطعه قائلة:
!شكووون؟
ديبَّاناج ..واش ما شفتيش الخط لحْمر وأنت كَتَسْتاسْيوني
ماذا؟! ..
ولكن أوقفت سيارتي وسط صف كامل من السيارات، وبالتالي من أجاز لأولئك إيقاف السايارات هناك، يجيزه لي.
يظهر جليا أن هذا الكارديان، قناص، يصطاد في الماء العكر، يتعمد عدم تواجده في الوقت والمكان المناسبين للقيام بواجبه..
الساعة تشير إلى العاشرة والنصف ليلا.. نسارع إلى العبور نحو الشارع الرئيسي، الذي لا يبتعد إلا بمسافة قصيرة عن الباركينغ..
تاكسي…تاكسي
بُحَّ صوتنا ونحن نحاول إيقاف واحدة من عشرات سيارات الأجرة اللواتي يمررن من أمامنا بسرعة فائقة..
– انظري هناك من ينزل من تلك التاكسي، إنها شاغرة، وأخيرا ..
– الفوريان عافاكْ
بنبرة ساخرة يعقب السائق ونحن نمتطي العربة:
– الفوريان ولا الفوريان؟
بابتسامة لا طعم لها أجيبه:
– فوريان ذوات المحرك وليس فوريان أصحاب القلب والمعدة..
– وجهان لموت واحد تقاطعني صديقتي وصوت ضحكتها يملأ أرجاء الطاكسي
وهو يقلع بنا نحو المكان المنشود، لا يتردد السائق في التعبير بصوت الواثق من نفسه، عن تعاطفه معنا، وأننا سنكون من المحظوظات إذا التقينا هناك بالمشرف على نقل السيارة، إذ أن الأمر سيقصر من مدة سير إجراءات الاسترجاع، ويقلل أيضا من تكاليف تحقيق ذلك..
بعد عشر دقائق وصلنا إلى عين المكان، أدينا نصف تكلفة الغرامة، أما النصف الآخر فَطُلِبَ منا الانتظار لنؤديه للشرطي الذي أشرف على نقل السيارة إلى الفوريان عند عودته
وإلى ذلك الحين علينا التمسك بحبل الصبر الجميل، وتقبل ما يقع بدم بارد وغضب خامد، والاستسلام لما ستأتي به رياح لا تبالي بمزاج الأشرعة..
« اللامبالاة هي أيضا شكل من أشكال القوة « على حد قول نيتشه
وأنا بحاجة لأن أصدق هذا القول وأعمل به، بل أعيشه…
ملتصقتين بالمقعدين، نلقي بنظراتنا المتفحصة على المكان بشكل بانورامي، الضوء خافت به، يستعين
بأضواء مصابيح الشارع المطلة عليه، الساعة تشير إلى الحادية عشرة ليلا
هدوء رديء يملأ المكان، أصفه بذلك، لأنه يولد بي صخبا وحيرة تلطمني أمواجها وتلقي بي بعيدا عن بر الشعور بالأمان..
يُطْرَقُ البابُ الحديدي الضخم ، نُفاجأ بخروج الموظف الذي سلمني وصل نصف الغرامة مسرعا مستجيبا للطارق، حريصا في ذلك على تفادي الطرقة الثانية ..يفتح الباب ويفسح الطريق لتقدم شاحنة تجر خلفها سيارة سوداء فاخرة فارغة..
– شوفي جار ومجرور ههه، وكأني أشاهد فيلم من أفلام «كاو بوي»، حين يعاقبون عدوهم يربطون رجله بسرج الحصان، ويتركون بقية جسده يتدلى فيُجَرُّ بسرعة قصوى مسافات طويلة حتى يلقى حتفه
واااو ألم تلاحظي ..Jaguar I-Pace.
matricule
ديال الشمال ..بقات فيا مسكينة حتى هي تْلَّا بها زْمان ورْمى بها فْهذْ تيرّا ههههه
أوشوش صديقتي ساخرة
بانتباه يحركه الفضول، نظراتنا تتعلق بالسيارة الفاخرة وهي تُساق مجرورة، إلى مكان واسع ومترب من الفوريان، لتنضم إلى مثيلاتها في الماركة وما دونها أيضا، كسيارتي مثلا، وكأني – وأنا أتأمل الصمت الرهيب المخيم عليها – بحضرة مقبرة، تُذكر المقيمين فيها بعدالة الموت رغم قسوته، ورغم يده الطويلة التي تفوق في طولها أعناق التوقعات….
لكني سرعان ما أنفض رأسي من وأنا أبتسم حين أرى تلك السيارات بألوانها وأحجامها وماركاتها، رهائن، بشوق تنتظر من أصحابها أداء الفدية للإفراج عنها..
صمت يكسوه القلق يتملكنا، خاصة والساعة تشرف على حلول منتصف الليل ..
هذه المرة، يقف الموظف بمحاذاة الباب الضخم ، يلصق ظهره به وهو يرتشف دخان سيجارته الثالثة..
-احذر.. ذلك القط الصغير يطل من تحت الباب، وكأنه يحاول الخروج ، من فضلك لا تدعه يفعل، سيهلك قبل عبور الطريق إذا فعل، أكيد.
بقوة يضرب الأرض برجله لجعل القط يغير وجهته..
يظهر أنه جائع. تضيف صديقتي قائلة
– إنه يقتات على ما يجود به المكان من حشرات وقوارض، وأيضا على بقايا الطعام، إنه قط محظوظ، إخوته لقوا حتفهم تحت عجلات سيارة الديباناج، يجيب الرجل وهو يدفع برفق القط الصغير بعيدا عن الباب مستعملا في ذلك رجله ..
إلى جانب رائحة شهية، متصاعدة لطاجين من غرفة تبدو صغيرة بالجوار، صوت جيل جيلالة يتصاعد أيضا من مذياع الموظف الحارس، ويملأ ما يراودنا من وحشة المكان ليضفي علينا دفءا غريبا :
لله يا سْفينة فينْ غادا بنا …وحْنا فيك رْهينة …
من الجدبة التي تحدثها بي الأغنية، يخرجني صوت قداحة الرجل وهو يشعل بها سيجارته الرابعة ..
– غريب عملكم هذا ، تأخذون عزيزا من الناس لتعيدوه إليه مقابل المال..
وهو ينفث سحابة كثيفة من دخان سيجارته يكسر بألسنتها الضوء الخافت المنتشر بالمكان ..يرد بابتسامة باهتة : حتى حفار لقْبور، كل صباح يقول: يا فتاح، يا عليم ، يا رزاق يا كريم..
راجيا أن يرى طلائع جنازة، تحمل إليه على كف الموت قوت أولاده، أو ثمن فاتورة الماء والكهرباء..
لازال صدى أغنية «جيل جلالة» يكسو المكان ..
طاحـــــــــــــــــــــــو لكتاف
صعـــــــــــــــــــاب التقداف
على لمغامرة ما بقينا قدينا
فين غاديا بينا هاد السفينة
فجأة، باب الفوريان الضخم الآيل للسقوط، يُفتح في وجه سيارة «الدِّبَّباناج « وهي تحمل الشرطي المُنْتظر والذي سيحرر سيارتي من منفاها .. بعد أداء ما تبقى من الغرامة للشرطي طبعا..


الكاتب : سعيدة لقراري

  

بتاريخ : 03/09/2021