القارئ التفاعلي ودوره مدوِّناً

 

يحتلً القارئ اليوم مكاناً مميزاً في النظرية النقدية كانعكاسٍ منطقي للتحولات الثقافية الكبرى التي طرأتْ على عالم الفكر والإبداع والمتمثلة في الانفتاح والتحاور والتداخل وغيرها من تمثلات مرحلتنا العولمية وما بعد الكولونيالية
وما تتسم به من مواضعات وما يتبع ذلك من تحولات واستبدالات شملت مناحي الحياة كافة ومنها النقد الأدبي، فطرأت على وظيفة الناقد تغيرات جوهرية أفقدته المركزية وفي مقابل ذلك أعلت شأن القارئ الذي هو مطلب الحاضنة الثقافية التي ما عادت قادرة على ضمان أبويتها؛ بل هي تحاول أن تحافظ على بعض سلطتها كي تقدر على مواكبة العصر ومتطلبات التماشي معه بحذر وتوجس كبيرين. فهذا العصر ليس عصر القارئ كما تنبأ به رولان بارت حسب؛ وإنما عصر التعدديات في الهوية والثقافة والمعرفة باتجاه الاندماج الاجتماعي والتحاور عبر الثقافي فينقلب الفرد على نفسه مسائلا أو مشككا أو نافيا معيدا إنتاج ذاته.
وإذا كانت النظرية الأدبية الحداثية قد استبدلت التاريخ الأدبي بالشعرية، فإن النظرية الأدبية ما بعد الحداثية تستبدل الناقد بالقارئ، ليصير هذا القارئ مركزيا بعد أن كان خاضعا لاشتراطات الناقد وتوجهاته. وإذا كانت نظريات القراءة والتلقي ومدرسة نقد استجابة القارئ قد أدت دورا مهما في تأكيد مكانة القراء وإعلاء شأنهم، فلأنهم هم الذين يصنعون المعنى وهم أولوا الحق في إضفاء أية دلالة تستلزمها حاجاتهم النفسية على نص معين وليس النظام بل الفوضى هي التي تحتل موقع الامتياز في هذه النظرة. ولكن هل انتفت حقا وظيفة الناقد ولم يعد من أساسيات وظيفته أن يساعد القارئ في فهم النصوص وكشف جماليتها؟
إن من المعلوم أن غاية الناقد من الأدب هي المشاركة إكمالا للمعادلة بأطرافها الثلاثة وهو ما عبّر عنه الفكر النقدي منذ أفلاطون وأرسطو وهوراس ولونجينوس إلى ريتشاردز واليوت وروجر وبروكس وويمزات وستانلي هايمن وآخرين لكن هذا الأمر اختلف مع قبول الناقد أن يمارس دور القارئ ليضيف إلى النص متجاوزا الاستهلاك إلى الإنتاج والى إعادة الإنتاج من خلال المغالطة والتصارع والتفكيك وبما يجعل النص نصا آخر والقارئ قارئا مختلفا بدون أدنى مركزية أو تهميش وبفاعلية امتلاك كل من النص والقارئ لذاته الخاصة التي لا تعمل إلا بوجود الذات الأخرى حيث لا أبوية ولا حاكمية.
ولعل من أسباب هذا الوضع هو التحول الفكري الذي حتّمته التطورات المتسارعة في تكنولوجيات التواصل الرقمي التي قلبتْ العائدية القرائية من الناقد إلى القارئ. فبزغت قيمة القارئ الذي ما عاد مفروضا عليه الخضوع لسلطة الناقد بل غدا قادرا على أن يتدخل في عمل الناقد والمنشئ معا.
ولا غرو أن التسارع المعرفي أسهم أيضا في أن يفقد الناقد مركزيته في الإنتاج النقدي، وفي الوقت نفسه صار واجبا عليه أن يواجه هذا التسارع ويواكبه، مضحيا بالتخصصية النقدية، التي قد يأنف منها قارئ اليوم بعد أن أتاحت له وسائط التواصل الحصول على المعلومة بيسر، يختزل الجهد والوقت مستعيضا بها عن مساعدة الناقد، لا سيما أن أغلب تلك الوسائط متداولة بيسر في حياتنا ويمكننا توظيفها والعمل عليها متى ما شئنا كتبعة كوزموبولتية من تبعات التعولم والتدويل، وكاستجابة طوعية لمقتضيات تفاعل والسيرورة والاندماج والتعدد في الانتماء والثقافة والعمل، فضلا عن ضرورات التواصل ورهاناته التي جعلت فضاءنا الإنساني فضاء عموميا بتعبير يورغن هابرماس.
وليس وراء إثبات الهوية القرائية سوى رغبة متدارية لنقض المعادلة النقدية المعروفة بأطرافها الثلاثة عبر سلب الناقد سلطته كحاكم ووصي على القارئ وجعله راضخا رضوخا طوعيا لسلطة القارئ مما يترتب على ذلك اجتماع الناقد بالقارئ في هوية قرائية ليست استعلائية ولا تمييزية كاقتناع مبدئي بالتشارك واعتراف واع بالتساوي.
وينتج عن هذا النقض للمعادلة النقدية التقليدية معادلة نقدية أخرى، طرفاها النص والقارئ وبطاقة قرائية تؤمن بفاعلية القارئ ودوره في إتمام العمل الأدبي وإكماله. وتتجسد هذه المعادلة القرائية الجديدة في أبهى صورها في النص الأدبي الرقمي كما تتمظهر في أدق أشكالها القرائية في القارئ التفاعلي الذي هو معادل موضوعي للقارئ الحقيقي للنص الأدبي الورقي، وفيها تتجلى بوضوح الحدود الإجرائية والأطر النظرية لفاعلية النقد ما بعد الحداثي مستوعبة معظم طروحاته وسماته اللاتقليدية.
وإذا كانت المعادلة النقدية بمفهومها التقليدي تواترية تتابعية بمعنى أن كل طرف له حده الذي يتبع الطرف الذي قبله ويؤثر في الطرف الذي بعده، وبعائدية قد تحقق للمعادلة تكاملها الذي سيكون ناقصا لو تخلى أحد الأطراف عن أداء دوره فيها، فإن المعادلة النقدية ما بعد الحداثية تختزل نفسها إلى طرفين ليست بينهما عائدية أو تتابعية لأن كل طرف هو تام في ذاته مالك لهويته التي يمكن للآخر أن يمتلكها ومع ذلك يظل مشاركا ومتفاعلا.
إن النص الأدبي الرقمي كيان إبداعي افتراضي قائم بنفسه، حاضنته آلة الحاسوب في حين القارئ التفاعلي كيان إنساني يتجسد واقعيا خارج آلة الحاسوب، لكنه وبسبب ما يمتلكه من مستوى ثقافي متوسط وخبرة رقمية ناتجة عن معرفة أولية أو معقدة بالبرمجيات وكيفيات التعامل مع تطبيقاتها المتداولة، قادر على التماهي مع الطرف الآخر الافتراضي ليقبع معه ضمن الحاضنة نفسها لا كفاعل وتابع، وإنما كذات مستقلة ضمن سياق ثقافي قائم على التحاور والتفاعل حيث لا مصادرة لأشكال التلقي الشفاهية والكتابية التي تظل فاعلة أيضا ضمن المجال الافتراضي للحاسوب الآلي مستوعبة له أيضا.
وبنية هذين الطرفين مكتملة ومستقلة، لذلك لا حاجة إلى وسيط نصي لأن الوسيط نفسه هو الطرف المتفاعل، بمعنى إننا إذا كنا قد سلّمنا أن الورق هو الوسيط الطباعي الذي يجمع المؤلف بالناقد ويمكنهما من أداء دورهما بوصف الأول منتجا وبوصف الثاني متلقيا استهلاكيا أو إنتاجيا اذ لا أداء لهذا الدور من دون وجود الورق، فإن النص في المعادلة النقدية ما بعد الحداثية سيكون هو نفسه الوسيط الرقمي الذي سيتفاعل معه قارئ، أما خصوصيته فتتمثل في أنه تفاعلي يجمع الواقعية بالافتراضية وعنهما تتبلور صيغة جمالية ما.
ويذهب بعض النقاد إلى اعتبار الحاسوب هو الوسيط الالكتروني الذي يجمع القارئ بالنص الأدبي الرقمي. وما هذا التصور في رأينا إلا من تراكمات الحداثة النقدية واعتباراتها المعرفية الدغماطية التي ما عادت تؤتي أكلها في ظل مرحلة ما بعد الحداثة التي تتسم بالتكنو ثقافية التي تعضدها اركيولوجيات ميشيل فوكو وتفكيكيات جاك دريدا وتناصيات رولان بارت ونسويات جوليا كرستيفيا. ولعل الوقوف عند غائية الطروحات الفلسفية وأدبياتها النقدية ما بعد الحداثية قد يجعل المسألة أكثر إقناعا، وهو ما يتضح بدرجة أعمق مع القارئ التفاعلي الذي ينظر الى النص لا مجرد وسيلة لتحقيق التفاعل الاجتماعي والإصلاح الأخلاقي وإنما هو غاية ما ورائية تسهم في إحراز قدرة أدبية باتجاه حيازة معرفة جديدة تعمق ثقافة هذا القارئ وتبصره بإمكانياته.
وليس مكان النقد التفاعلي الذي طرفاه النص الافتراضي والقارئ التفاعلي سوى النقد الثقافي وما يتصل به من نقود أخرى كالنقد النسوي ونقد الآخر ونقد الهوية ونقد المركز والهامش ونقد ما بعد التفكيك وغيرها.
ويتميز النقد التفاعلي عن سائر أنواع الأدب الأخرى كالأدب الإنشائي والأدب الوصفي والأدب النقدي، أن عمله يقوم على الرقمنة والبرمجة والحوسبة، ومادته نص إبداعي(مدونة أدبية رقمية) ضمن عالم افتراضي أيا كان مواضعاته وطوابعه، وعادة ما يكون للمدونين متابعون يبدون إعجابهم أو مؤاخذاتهم وتعليقاتهم وبشكل لا نعدم فيه تأثيرات تنعكس على مجتمع المتلقين لاسيما اولئك الذين يتابعهم جمهور عريض ويتفاعل معهم تحريضا أو توجيها أو تحذيرا وتنبيها، ولا يخفى ما في مفردة(مدونة) من دلالة وصفية تجمع الحرف بالضوء والصوت بالحركة واللوغارتم بالداتا وهذه كلها تصب في صلب اشتغالات الرقمنة وهندستها البرمجية المعقدة، علمًا أن نقاد التفاعلية مالوا إلى مفاهيم ذات توصيفات مقاربة مثل النص الرقمي والنص التفاعلي والأدب الرقمي التفاعلي والوسيط الإعلامي وغيرها من التوصيفات التي هي أما معلومة ضمنا ومن ثم يغدو استعمالها زائدا كما في (النص التفاعلي / الأدب الرقمي التفاعلي /الوسيط الإعلامي) وأما أنها تفتقر إلى التخصيص كونها لا تتقصد استعمال(الأدبية) تمييزا للنص الأدبي عن سائر النصوص الرقمية الأخرى كما في (النص الرقمي / النص التفاعلي).


الكاتب : د. نادية هناوي

  

بتاريخ : 11/03/2024