استدعيت القبيلة في المغرب إلى مختبر التحليل السوسيولوجي والأنثروبولوجي كمقولة في البداية، وفي مرحلة ثانية كميكانيزم انتظمت حوله جُل إنتاجات الدراسات الاجتماعية. وبين المُقتربين، وقفت القبيلة المغربية عائقا موضوعيا في وجه مهندسي العملية الاستعمارية، سواء في محاولات التسرب، أو في محاولة فرض ما اصطلح عليه بعملية التهدئة.
اقتضى الأمر لمواجهة الوضع، التسلح العِلمي بأدوات ومفاهيم ومناهج تُوظف من أجل القيام بعمليات التشريح المجهري لآليات اشتغال النسق القبلي. وبالمناسبة، كانت هذه الدعوة الاستعمارية في عُمقها استجابة لنداء المقيم العام هوبير ليوطي التي حفزت على ولادة سلسلة بحوث ميدانية وتقارير استخباراتية حول النسيج القبلي المغربي، من حيث التنظيم، العلاقات والامتدادات، وأيضا من حيث البحث عن مواضع الضعف والقوة…
في حقيقة الأمر، شكلت هذه الرؤية الإبستيم العام الذي سارت عليه المدرسة الإثنوغرافية الفرنسية في محاولة الاقتراب من حقيقة التحولات الاجتماعية في المجتمع المغربي، وعوامل التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي طرأت عليها جراء الرَّجَّة الاستعمارية. فكيف قُدمت القبيلة إذن؟
القبيلة عند ميشو بليير
شيَّد ميشو بليير تصوراته للقبيلة المغربية على منطق ثنائي متعارض. بليير أخضع البناء الاجتماعي المغاربي إلى تقسيم تعارضي. فمقابل النظام توجد السيبة، ومقابل السهل يوجد الجبل، ومقابل الشرع يوجد العُرف، ومقابل الإسلام الرسمي يوجد الإسلام الشعبي…لا نستغرب بعد بُعد المسافة عن سياق التأليف أن يقوم تصوره على هذا المنطق، لأننا نفترض أن هاجس البحث كان ينشد إلى قواعد عامة تحكم تصورات مهندسي إدارة الحماية الفرنسية.
يدقق بليير في علاقة القبيلة المغربية بالمخزن، ويُمعن النظر في تحليل أشكال العلاقات السائدة بينهما؛ فهي تعترف بسلطته الدينية وسيادته الروحية دون أن تعترف بسلطته السياسية وبجهاز ه الإداري المتسلط. وهنا، تظهر المفارقة.
عندما نتعمق في البناء النظري الذي اقترحه بليير، نكاد نعثر على نموذج القبيلة السائبة الذي توهمه مهندسو الحماية الفرنسية على المغرب، وهي بالتدقيق قبائل جبلية تعيش حالة الانغلاق السياسي عن المخزن وتنظيماته، واستطاعت أن تبتدع نظاما خاصا يشتمل على نمط اقتصادي وموروث ثقافي وطقوس موروثة..وقد نُساير بليير إلى حد ما في تحليله للقبيلة المغربية، لكننا قد لا نعتبره قد أوصل التحليل الأنثربولوجي إلى مداه، حين غيَّب الرؤية النسقية التي بمقدورها أن تظهر التفاعل والترابط بين مكونات النسق القبلي، وأن تنظر إلى القبيلة في إطار نسق متكامل عوض جزء مفكك…
كل الاعتراضات التي نصادفها بشأن ما كتبه دوتي تقف عند هذه الجزئية، وتعتبره تحليلا غير مكتمل لأنه لم يُظهر الأبعاد النسقية لمكونات الحياة القبلية، ولم يدقق في عناصر التفاعل والترابط. الحاصل، استند دوتي في تعريفه للقبيلة المغربية على مرجعية المدرسة الإثنولوجية الجزائرية من حيث كونها وحدة اجتماعية تتأسس على الامتلاك الجماعي لنفس الحاجيات والمصالح والأهداف والوسائل، وتقتسم نفس الرموز الثقافية من أعراف وعادات ومعتقدات…والحق، أننا بصدد تعريف دقيق ومتقدم جدا، إذا ما تم استحضار مسألتي المشترك والتملك الجماعي.
إرنست كلنير: من دولة الأمغار إلى دولة الإغرامن
دخلت الأنثربولوجيا الأنجلوساكسونية على الخط ابتداء من منتصف خمسينات القرن الماضي، مُدشنة اقتحامها للمجال المغربي بدراسة موضوعات تغلب عيها نفحة سياسية، وقد كانت تميل وقتها إلى فحص واختبار بعض الفرضيات الأنثربولوجية، انطلاقا من أسئلة دقيقة وشبكة مفاهيم محددة تهم بالأساس بِنية الهيكل السياسي في القبائل المغربية، وآليات الانتقال من بنيات المجتمع التقليدي نحو بنيات المجتمع العصري.
إرنست كلنير عرَّاب هذا التوجه من داخل الخطاب الأنجلوساكسوني بامتياز. أنجز كلنير بحثا مهما حول صلحاء الأطلس الكبير حاول من خلاله اختبار إجرائية الفرضية الانقسامية في قبائل أيت عطا. أيت عطا نموذج لقبيلة مغربية تقع في منطقة عبور بين السهل والجبل، وتقع روحيا في دائرة نفوذ زاوية تحنصالت. يُقر كلنير على أن النسق القبلي في أيت عطا عديم الصلة بالكتاب المقدس نظرا لأمية العطاويين، وعجزهم عن رعاية طبقة العلماء…
حينما نُسلم بمشروعية هذه الفكرة نقتنع بأن كلنير يعمد إلى استدراجنا نحو القبول بفكرة أن مشروعية الكِتاب والإجماع هي المهيمنة على الحواضر، بينما مشروعية الوراثة فمهيمنة على البوادي.
يُشدد كلنير كثيرا على عمق التعارض بين الحواضر والبوادي من حيث التأويل الديني، فالتصوف في الحواضر يشكل بديلا لإسلام الفقهاء، الذي ينعت بالتشدد، بينما التصوف في البوادي يقوم مقامه. ففي الحالة الأولى، يبحث عند الصوفية عما لا يوجد عند الفقهاء من الإشباع الروحي الكامل، وفي اللحظة الثانية، يتبع الصلحاء لأن التصور الحرفي الذي يحمله فقهاء المدن غير قابل للتطبيق. ولعل هذه الوضعية الدينية هي التي جعلت عامة قبائل الأطلس الكبير حسب كلنير يقومون بتبجيل بعض البيوتات الشريفة، لحاجتها إلى بناء خطاب ديني يحافظ على استمرارية النسق القبلي، في وسط يعجز عن توظيف العلماء بسبب افتقاره إلى المكتوب، وإلى كل مظاهر نمط العيش الحضري. فإذا كان لوجود الصلحاء في القبائل من معنى، فهو في الطريقة التي يعملون بها لضمان استمرار هذا الوضع.
تحليل إرنست كلنير للظاهرة الدينية داخل كونفدرالية أيت عطا جعله يُقر بطابعها الانقسامي. ويعني ذلك أن كل قبيلة تنقسم إلى فروع، التي تنقسم بدورها إلى أجزاء إلى أن تصل إلى مستوى الوحدات العائلية، وتتعادل الأجزاء في كل مستوى من مستويات الانقسام، في شكل تتماثل فيه بنية القبيلة مع بنية الشجرة، مما ينفي عنها وجود أي تمظهر لتقسيم للعمل ذي طبيعة اقتصادية أو سياسية وتمركز للسلطة. وبقدر ما جعل كلنير هذه القبائل مفتقدة لعلاقات سلطوية، بقدر ما أكد على طابع الاستقرار الذي يضمن في نظره التعارض القائم بين مكونات القبيلة، إلى درجة الكمال والإتقان، انطلاقا من مبدأ التناوب والتكامل في السلطة. وهو بالتالي، يجعل من هذه القبيلة النموذج المثالي لتطبيق الفرضية الانقسامية.
لقد ساعد هذا النظام الداخلي الذي تبنته قبائل أيت عطا في الأطلس الكبير على تفادي السقوط في قبضة الاستبداد والاستفراد بالسلطة. وهنا يأتي تميز أطروحة كلنير من خلال إثارة الانتباه إلى فاعلية الصلحاء في النسق الاجتماعي. أي اعتبار لهؤلاء في نسق قبلي مطبوع بالانقسام؟ الصلحاء عند كلنير هم من يضمنون الاستمرارية التاريخية للنسق القبلي، لأنهم يحوزون ضمانات أخلاقية من أجل الإشراف على الانتخابات، ويمتلكون مختلف وسائل الإقناع الأخلاقية وعناصر الوساطة التي تنتهي إلى نتائج يقبلها الجميع، وهم أيضا حجز الزاوية في نظام الأعراف المحلية من حيث تعيين الحدود، وضمان الاستقرار والإشراف على توزيع الموارد المائية، وأيضا في ضمان استمرارية الذاكرة التاريخية للقبيلة.
يتعمق كلنير كثيرا في تحليل صفات الصلحاء، التي تتميز بالمسالمة والسخاء، وكرم الضيافة والسعة، وهي التي تجعل الاختيار من طرف العامة يتجسد وكأنه اصطفاء رباني. فحضور الأولياء داخل النسق القبلي تحكمه غاية روحية، من خلال دمج المجتمع المحلي داخل النسق الإسلامي العام من جهة، وغاية سياسية من خلال حماية الحدود، مما يجعل منهم سادة الحدود بامتياز.
يقدم كلنير رؤساء القبائل/ الأمغاريين كمالكين لسلطة واهية، مقابل حضور سلطة حقيقية للصلحاء/ الإگرامن، فمهمة الحنصاليين حسب كلنير تتمثل في ضمان سير النسق الاجتماعي، عبر القيام بمهمة التحكيم والوساطات، والتي هي مهمات سلمية.
يُظهر إذن كلنير صلحاء الأطلس كفاعلين مركزيين في إدارة شؤون القبيلة، بعيدا عن السلطة المركزية، ويتشفع في هذا الاستنتاج باستقراء الروايات والأساطير القبلية التي تشكل ذاكرة جماعية متوارثة، فالصلحاء هم ضامنو التوازن، والمؤتمنون على استمرارية ثقافة القبيلة وذاكرتها الجماعية.
يبدو جليا أن كلنير يعيد تدوير فرضية اللَّف التي صاغها روبير مونتاني في أطروحته حول المخزن والبربر، في فضاء جغرافي يقع في منطقة عبور بين السهل والجبل، ويشهد ترحالا مستمرا للسكان، الذي يخلق لها صراعات عديدة بين مكوناتها، ومن ثم حاجة هذه القبيلة الدائمة إلى فئة الصلحاء في تجسيد دور الوساطة والتحكيم، وإبرام الاتفاقيات ومراقبة سير مفعولها، ومراقبة توزيع أوقات الاستفادة من عمليات السقي والمراعي الخصبة..لقد استنتج كلنير من داخل قبيلة أيت عطا أن الوظائف الاجتماعية تتباين داخل المجتمع الانقسامي، حيث تنطلق من الأسفل نحو الأعلى
1- مؤسسة الأسرة: تقوم بتدبير واستغلال الميراث العائلي؛
2- مؤسسة العائلة: تتكفل بالمشاكل المتعلقة بتوزيع الماء والأرض؛
3- مؤسسة القبيلة: تتكلف بالعلاقات الخارجية المرتبطة بتنظيم السوق والمراعي والحدود
يُحسب لكلنير أنه أحدث نقلة نوعية في الخطاب الأنثربولوجي، فمن دولة الأمغار القبلي إلى دولة إگرامن الإصلاحي. تصير قبائل أيت عطا نموذجا من نماذج التنظيم الانقسامي، لا تعترف بالتراتب السياسي والاجتماعي، وينتفي داخلها تقسيم العمل الاجتماعي وبنيات الزعامة…مجتمع قبلي مطبوع بالمساواة يحول دون قيام زعامات قوية، ويسمح ببروز مؤسسات مختصة تحافظ على النظام ومزاولة العنف المشروع. الحاصل، بنيات انقسامية تتفادى تركيز السلط.
عودة إلى نقطة الانطلاق، ينطلق كلنير في دراسته لقبائل الأطلس الكبير من أولية أساسية حكمت توجهه النظري والمنهجي، تقوم أساسا على اعتبار التجمعات القبلية البربرية في الأطلس ذات نَسب أبوي تنعكس أبعاده وعلاقاته القرابية على المجال الجغرافي، بحيث أن لكل قبيلة مجالها المحدد، فهو يجسد تنظيمها القبلي، على غرار ما طرحه افنس برتشارد في قبائل النوير في السودان، في شكل دوائر متحدة المركز تُعبر عن تداخل مستويات الحياة القبلية، إذ تنشطر القَسمات في ما بينها بفعل التعارض، وتشوب بينها نزاعات قد تتطور فتصبح دموية حسب الظروف، كما أنها تنصهر في ما بينها عند ظهور مستجدات معينة. وبالرغم من غياب أي تراتب اجتماعي، فإنه يُقر بوجود أعيان يقومون بالتحكيم في أوقات النزاعات ويشرفون على الانتخابات التي تنبني بدورها على مبدأ التناوب والتكامل، عن طريق صلحاء أو إگرامن يتسمون بالبركة، حيث يلجأ القتلة إليهم لطلب الوساطة والعفو، كما يتكلمون بضمان أمن الحدود، ويشرفون على الانتخابات والأسواق والمواسم.
بناء على ذلك، تظهر القبيلة في متن تحاليل كلنير ذات سمات بنيوية، متكاملة ومتجانسة في آن واحد.
إنها أنظومة من القَسمات التي يكون لها نظامها الخاص إلا أنها تتميز بالهامشية ، نظرا لتطلعها إلى الاستقلال الثقافي والسياسي عن الحكم المركزي والإدارة المخزنية ومستلزماتها الأخلاقية والروحية من جهة، ونظرا لميلها الطبيعي إلى تحقيق الديمقراطية من جهة ثانية.
إن عناصر التنظيم القبلي عند كلنير ترجع في نهاية المطاف إلى مُحددات جينيالوجية، حيث رابطة الدم تلعب دورا حاسما في ضبط العلاقات بين قَسمات المجتمع. فكل الأصول تنتهي إلى جد مشترك يتحدد على ضوء انتساب القبيلة، وتلك خاصية من خصائص المجتمع الانقسامي، التي تنطبق ميكانيكيا على قبائل الأطلس الكبير في رأي كلنير، حيث جميع الأوصاف التي ثبتت صحتها بالنسبة لمجتمعات متشابهة تنطبق إلى حد ما على هذه القبائل.
من جهة أخرى، ركز دافيد هارت على المبادلات التجارية في دراسته لقبيلة ريفية في بني ورياغل، وقد اهتم في دراسته بنظام القبيلة السياسي والاقتصادي والعلاقات التي تربط بين مختلف مستوياتها، غير أنه لا يحيد بدوره عن التحليل الانقسامي.
على هذا الأساس، لم يتوصل الأنثروبولوجيين إلى اتفاق تام حول تحديد محدد وعام للقبيلة، إلا أنه يمكن التمييز في هذا الإطار، بين ثلاثة مفاهيم أساسية يتم تداولها حول القبيلة:
أولا: فهي أداة للدلالة على التجمعات السكانية المنتشرة في بقعة جغرافية معينة، خلال الفترة الماقبل كولونيالية؛
ثانيا: كيان ذو هوية ثقافية معينة، يملك أسطورة رمزية، يتداول لغة محددة، ونظاما معينا من الرموز والمعاني يجعله في حالة تصادم مع الدولة، التي تمثل الشرعية الثقافية والمشروعية السياسية؛
ثالثا: كيان سياسي، يكتسب خصوصيته المتمثلة في امتلاكه نوعا من النظام السياسي، ولو في شكله البدائي أو العفوي، لأنه كما تقول كرون «…ليس من شأن المقاييس الموضوعية أن تُنظم السلوك من تلقاء نفسها.. «.
إجمال ذلك، القبيلة كيان اجتماعي وثقافي وسياسي يكتسب خصوصيته من خلال امتلاكه حدودا إقليمية وميكانيزمات تنظيمية قادرة على احتواء النزاعات الداخلية والخارجية، والعمل على إقافها مؤقتا، ريثما تتجدد عناصر اللعبة الانقسامية من جديد، إنها تلك التجمعات التي يقوم فيها نسق الضبط الاجتماعي على بناء قبلي، والتي تعيش في ظروف إيكولوجية معينة تفرض عليها التلاحم والتضامن من أجل الإجابة عن سؤال البقاء.