القدس في زمن الحرب والميلاد (يومية)

 

زقزقة العصافير المختبئة في ثنايا أغصان الأشجار مع النسائم العليلة، تنعش روحي الراقدة تحت الدمار ورائحة الموت المنبعثة من الجنوب. أصغي وأسير بالسرعة التي أقدر عليها لأستطلع المتاح والظاهر من البيوت من خلف تشابك أغصان النباتات المتسلقة والأشجار، أتبيّن ما فاتني من جماليات البناء، وألتقط صورًا سريعة، متظاهرة أنّي سائحة مندهشة، كلّما شعرت بنظرات بعض المارين المستغربين كأنّي أسرق أو أقوم بفعل ممنوع عليّ. أسير وأقتنص الفرص كي أحتفظ بهذا الجمال لنفسي وللتاريخ ربّما، فقد علمتني التجربة والتاريخ أنّ لا شيء مضمون في هذا الوطن، ويمكن للمدن أن ترحل أيضًا وليس سكانها فقط.
ومع كلّ خطوة تنبعث دهشة إمّا بفنيّة المعمار، أو حرفية الحديد، أو شكل الشرفات والنوافذ والأبواب، ونحت الحجارة. إلى تناغم مداخل البيوت مع الحدائق،الزهور في فخار قديم، وتعداد أنواع الأشجار، من زيتون ورمان ونخيل وإكدنيا وتين،ثمّ إطلالة ثمرة ليمون متمردة من فوق جدار، تلقي عليّ السلام.فيما ياسمينة أو المجنونة تتشابك أذرعها حول بعض البيوت، لتجعل القلب يذوب في جمالية المشهد ويسارع محاولا التقاط صورة تشبه ما ترى عيناه، سعيدًا أنّ يجد وسط هذا الجمال ما يشبهه ويمثّل تاريخًا غنيًا لمدينته. تستمر النشوة حتّى يُفتح بابٌ أو تُشرّع نافذة فجأة، فكأنّما يتلقى صفعة على وجهه تعيده إلى واقعه، وهو يرى وجهًا غريبًا لا يشبهه، يطلّ مستنكرًا، فيلملم أوجاعه ويسير.
يتكرر المشهد طيلة الأسابيع الأخيرة وأنا أستطلع أبنية حيّ القطمون وحي الألمانية، واليونانية والبقعة في القدس الغربية. هي جولات استطلاعية قصيرة في وقت استراحتي،خلال دوامي في مركز عمل مؤقت في القطمون.
أكرّر السؤال في كلّ مرّة: هل أعود بعد هذه الجولات براحة نفسية أم بعذاب من طعم آخر؟ لا أجد إجابة سوى أنّي يجب أن أستغل الوقت المتاح لبناء ذاكرة مع المكان، الذي سكنه عدد من مثقفي المدينة وأطبائها ومحاميها، ومن أبناء الجاليات، والقنصليات. كان علم العراق ولبنان يرفرف ذات يوم على مباني قنصلياتهم في القطمون، أمّا اليوم فعلم واحد يرفرف وينتشر بطريقة هستيرية، في كلّ مكان حيثما اتجهت بنظري.
فما أن أنتشل نظراتي عن جمالية زجاج ملون لنافذة، حتّى تصطدم بعلم، أو ببندقية أحد المارة.كم يبدو مشهد أب يحتضن طفلته سائرا، فيما بندقية تتدلى على ظهره وهو بلباس مدني، فيه الكثير من التناقض؟! كأنّما أصبح التسلح وباءً ينتشر بينهم، ومن يحيا دون سلاح ليس طبيعيا. أستمر في طريقي مارّة بأشجار كينا على الرصيف، مستذكرة تحذيرات أصدقائي من التجوّل في طرقات القدس الغربية، تُرى هل أستخف بالخطر؟ وأغامر بحياتي وأنا أقوم بمسيرة المشي هذه في هذا الوقت المتوتر جدا من الحرب؟
فيما أقترب من موقع عملي، أتخيّله سائرًا إلى بيته القريب في الزقاق المحاذي، تُرى ماذا كان ليقول لو رافقني في جولتي ورأى ما أرى، هل تصوّر أن يصل الحال إلى ما وصل إليه؟ هل سيحمد الله أنّه رحل قبل أن يعيش مطولا ليدرك كلّ هذا؟
في أمسيات الليالي السابقة عدت إلى يومياته الشهيرة الصادرة في 8 أجزاء، لأنبش في ذاكرته بعض تفاصيل حياته في القطمون، كي أُكسب جولاتي روحا وبُعدا رابعًا بتخيّل تاريخها. فتارة أغبطه على أسفاره المستحيلة اليوم، كأن يقضي عطلة نهاية الأسبوعفي بيروت فيسافر يوم الجمعة ويعود السبت إلى القدس، أو سفره بالسيارة إلى غزة ومن هناك اتخاذ القطار الى القاهرة. وأبتسم للأمسيات العامرة في بيته الجزيرة،ثمّ أقلق معه وهو يقول عن 13/4/1948 «انطلقت ثلاث قنابل ثقيلة الواحدة بعد الأخرى، وقعت الأولى على الطريق أمام دار جول البينا، والثانية أمام قنصلية العراق، والثالثة على دار جارنا اسلحيت، لقد أحسن جارنا بالانتقال إلى بيت جالا… كان العرب واليهود منذ نشبت الحرب بينهم يتراشقون برصاص البنادق، وأما اليوم فقد تطورت الحالة وأصبح التراشق بالرصاص زيًّا قديمًا، وحلّ محلّه التراشق بقنابل المدافع. الله يستر من الأعظم». قد جاء الأعظم يا أستاذنا خليل السكاكيني…
بعد العصر إذ انتهى دوام عملي، جاء موعد زيارتي الأسبوعية إلى البلدة القديمة، شاركتني فيها صديقتي، وككلّ زيارة منذ بدء الحرب حين نطلّ على باب العمود، نجد مدرجه خاليًا من أيٍّ من سكان المدينة بعدما كان يعجّ في السابق بالشباب والصبايا، فيما الجنود متواجدون في حواجزهم الثلاثة حول المدرج والباب. تسألني صديقتي: هل بالفعل هناك قرار، يمنعنا من الجلوس على الأدراج أم أنّ الناس تُفضل عدم الجلوس اختصارا للمشاكل؟
لستُ أدري، لكن هناك الكثير من الشبان في الأسر، وكثرة الحواجز داخل القدس القديمة تجعل الكثيرين من سكان الأحياء حولها يفضلون عدم الحضور. يرتفع صوت آذان المغرب، ونحن ننزل الأدراج، تقترح أن أجلس على المدرج لأختبر الأمر فيما تذهب هي للصلاة في مسجد الشيخ لولو القريب، فقلت:
ـ وماذا إن كان ممنوعا. فهل تريدينني أن أواجه الجنود الذين سيأتون وحدي؟ أفضّل أن نكون معًا، وإن كان من موت فليكن هناك من يؤنسني بموتي.
ترتفع ضحكاتنا وسخريتنا من حالنا، إذ صار الموت أكثر حدث منطقي وواقعي يلوح في أحاديثنا اليومية. أتركها للصلاة، وأتفقد حال سوق باب خان الزيت، الذي بقيت قلّة من محاله مشرّعة الأبواب، أسأل بعض الأصدقاء من التُجار، فيبلغوني أنّ الوضع على حاله من الشلل الاقتصادي منذ بداية الحرب. فنسبة السياحة تكاد تكون صفرًا، وعدد المتسوقين من المدينة قليل جدا، خصوصًا مع منع الصلاة في المسجد الأقصى إلا لعدد قليل من المصلين.
أعود لألتقي صديقتي ونسلك طريق الحبشة إلى حارة النصارى، كي نستطلع حالها في عيد الميلاد. نتجول في تيه الأزقة، زقاق يحملنا إلى زقاق حتّى نصل باب الجديد، ونجدها كلّها في صمت. لا زينة عيد، لا أنوار، ولا شجرة عند مدرسة الفرير، الحزن ذاته الذي يخيّم على قلوبنا، يزداد مع شلل وغياب الحركة في المدينة، والصمت يرافق برودة الشتاء. عرّجنا على كنيسة القيامة، لنجدها على حالها من ندرة المصلين منذ مطلع الحرب، وقد كانت في مثل هذه الأيام من عشية الأعياد في ازدحام، بحيث لا نجد لنا فيها موطئ قدم.
نغادرها ومن سوق باب خان الزيت نتجه شرقًا إلى درب آلام المسيح الفلسطيني التي لم تنته، في تعرج دربه المتقاطعة مع طريق الواد (الممتد من الشمال الى الجنوب)يواجهنا حاجز الجنود المعتاد، لكنّه قد تمدد كثيرًا بسواتره الحديدية بحيث لم يبق إلا مسلك لشخصين.
تسألني صديقتي: ألا يجدر أن نخرج كفينا من جيوب معاطفنا؟
هي الوصيّة المحذّرة ذاتها التي اعتدناها منذ هبة عام 2015، لأنّ اليد في الجيب في هذه المدينة تثير الشكوك، واحتمال الاستجواب، قلتُ لها: لا… الدنيا برد.
مررنا مستمرتين بمحادثتنا، عيونهم تتبعنا حتّى انعطفنا شرقا، في استمرارية درب الآلام وطريق المجاهدين. وإذا ما وصلنا قوس «إكوهومو– هذا الرجل» استدرتُ لأشهد المنظر الذي يثير دهشتي دومًا، بظهور برج كنيسة سان سافيور على مرتفع قريب من باب الجديد في الزاوية الشمالية الغربية من المدينة حيث كنا، يؤطره القوس، ثمّ نمتّع العيون بأدراج وأقواس وشبابيك عقبة الراهبات ونستمر شرقًا.الطريق خالية من المارة تمامًا، حتّى إذا ما وصلنا أدراج عقبة القادسية، عن يسارنا المفضية إلى مخرج من البلدة في السور الشمالي، اقترحتُ أن نستمر ونصل وجهتنا حيث باب الساهرة من حيّ باب حطة. توافق صديقتي غير معترضة، على ميمنتنا نمرّ بباب الملك فيصل أحد أبواب المسجد الأقصى نجده معتمًا ومغلقًا.حين نصل مفترق طريق باب حطة، نشهد بعض المارة، ننظر يمينًا فنجد أنّ هذا الباب من أبواب المسجد مفتوح، ينشرح صدرنا، فكثيرًا ما ندخل المسجد من هذا الباب في رمضان، لاشتهاره بزينته وزينة الحيّ المميزة علاوة على باقي أحياء المدينة. باب المسجد مفتوح، لكنّنا نعرف أنّه ليس مفتوحًا لنا، نتجه يسارًا إلى طريق الحيّ المؤدية إلى باب الساهرة، ولكن ما إن نسير بضع خطوات حتّى يرتفع آذان العشاء، تتوقف صديقتي، وتستدير لتنظر إلى الخلف وتقول: أليس ظُلمًا أن نكون بجانب الأقصى ويُمنع علينا دخوله؟
قلتُ لها أنّ سيدة تخصّني في الستين من عمرها، حضرت قبل أيام قليلة لصلاة المغرب ومنعوها، فإن كانت من هي في الستين تُمنع، هل سيُسمح لمن هنّ في أعمارنا الشابة بالدخول؟ ليس أمامنا إلا الصبر والانتظار إلى ما ستؤول إليه الأحوال.
نغادر البلدة القديمة وحين لا نجد جنودًا عند حاجز باب الساهرة، نستغرب، كأنّ وجودهم صار الطبيعي في أذهاننا.
أستقل مركبتي، وأشغل المذياع لأفحص ما فاتني من ألم الأخبار، أمرّ قرب بيت الأديب محمد إسعاف النشاشيبي في حيّ الشيخ جراح، وهو اليوم مركزٌ ثقافيٌ مهم في المدينة تجمعني به علاقة ثقافية وطيدة. ظهر قربي ظلّ خليل السكاكيني وقال: هل تعلمين أنّي كنت أعتبر إسعاف ابنا لي وأخا أصغر، وأنّي حزنت جدًا على رحيله ونعوته في 22/1/1948. رحل قبل ازدياد شدّة المعارك على القدس، وارتاح من همّ وجعها، أمّا أنا فرغم كلّ ما بذلته في سبيل حراسة بيتي ومحلتي في القطمون لم أفلح، واضطررتُ للنزوح وأن أكتب كلمة الوداع يا دارنا! يا بيت الأمة، يا ملتقى أقطاب السياسة ورجال الصحافة، وكلّ المدعوين الى محطة الإذاعة من كبار الخطباء والفنانين من مصر ولبنان وسوريا والعراق، كأني أنا الداعي، وكأنّ داري دار الإذاعة، الوداع يا دارنا! يا مستقر القيادة، يا مستوصف الجرحى يا ملاذ اللاجئين.
تنحدر دمعة من عينه وهو يرثي مكتبته: الوداع يا مكتبتي! يا دار الحكمة، يا رواق الفلسفة، يا معهد العلم، يا ندوة الأدب!
قلتُ له: الموقع الذي تتواجد فيه في زمن الحرب، يُشكّل حكما مصيريا يمثل قدر مستقبلك، لا يمكنك في كثير من الأحيان التحكم فيه أو تغييره. لم تدّخر جهدًا لا أنت ولا عجاج نويهض ولا عدّة أمثالكم، لكنّ كان مصير بيوتكم ومكتباتكم مقترنا بمصير القطمون والبقعة وغيرها من أحياء القدس الغربية رغم ما بذلتم. وها اليوم يعيد التاريخ نفسه، فكم من مكتبات ومراكز ثقافية دُمرت، وكم من كُتاب وشعراء وفنانين و…يتمّ نعيهم يوميًا هناك في الجنوب، نطلّ على كلّ هذا وقلوبنا تُدمى في عجز، مثلما وقفت السيدة مريم قرب ابنها على الصليب.
أتوقف في موقع مشرف على المدينة، تمرّ نسمة باردة، أسمع أجراس الكنائس من جبل الزيتون، أهمس: عيد ميلاد مجيد يا عم خليل. نحن نحاول أن نكون بخير.

*خليل السكاكيني : (1878-1953م) أديب وأستاذ فلسطيني مقدسي في الأدب العربي، من رواد التربية الحديثة وكان عضوًا في مجمع اللغة العربية في القاهرة.


الكاتب : نسب أديب حسين ( فلسطين)

  

بتاريخ : 19/01/2024