القراءة ومسالك المعنى

قراءة في كتاب «رسالية الشعر الرمزي وبدائع الاستبطان البلاغي» (1)

 

مِهَادٌ:

نعتقد أنّ النقد ممارسة تأويلية للنص المنقود، تروم الغورَ والعمق لاستكشاف المطمور في طبقاته، التي تستدعي الحفْرَ في جغرافياته الممتدة في متاهات تُبقي الممكن القرائي غير حاصلِ، بفعل سمة الانفلات المميّزة للنص الإبداعي، وما يطبعه من احتمالات على المستوى الدلالي، ويحقّق النص كينونته ووجوده بواسطة القراءة المنتجة، مما يعني أن القارئ المؤول يعيد الحياة إلى النص بواسطة التعدّد القرائي، أي لا وجود لقراءة واحدة وإنما لتأويلات أخرى على أساس أنه عالمٌ من العلامات والرموز والإشارات التي لا يتمّ رفع الحجاب عنها إلا باستعمال الذخائر المعرفية الممتلَكة. ولعلّ هذا ما يمكن ملامسته، ونحن في حضرة هذا الكتاب، من قدرة الناقد محمد جمال على التأويل الانعكاسي إن صحّ القول. ونقصد به طريقة حوارية لا تقف عند حدود المقول، بقدر ما تتجاوزه إلى نسقه الداخلي بإعمال المنهج الوصفي والبنيوي لكشف خبايا وأسرار المتن المدروس.

(1) القراءة ومسالك المعنى:

إن قراءة متمعنة في ما يطرحه هذا الكتاب من إضاءات نقدية في حق تجربة الأديبة والشاعرة حنان فاروق العجمي الشعرية، تقود القارئ إلى معطى أساسٍ يتمثّل في كون الناقد ينهج طريقة في التناول تختلف عما عهدناه في الممارسة النقدية، إذ يفتح حواراً عميقاً مع المتن المنقود، برؤية تزاوج بين الحفر في تلافيفه لاستكناه الدلالات المتوارية في كوامن النصوص الإبداعية، واعتماد البوح والتداعي ، وذلك في تناغم واتساق بين العمليتين، وهذا ما عبّر عنه بقوله:”هذه حزمة من القراءات الأدبية الماتعة التي زاوجتُ فيها بين نمط استبطان المعاني المختبئة في ثنايا السطور الماثلة ونمط انسياب الخاطرة”، (2) ولا غرو في ذلك فالناقد يمتلك القدرة على المزج بين هذين النمطين وفق تصوّر مقصديته الكشف عما تزخر به تجربة الشاعرة من تيمات وجماليات باعتماد لغة شعرية نهرية، مستعيراً ملاحظة فندريل الذي شبّه الكلام بالنهر أنت يا سيدي لا تستطيع إلا أن تغطس في النهر ..وإما أن تبقى على ضفة النهر، لا تستطيع أن تقف في النهر… لا تستطيع أن تتكلم عن السباحة وأنت لست في الماء (3)، وهذا – في ما نعتقد- ما قام به الناقد محمد جمال إذ عمل على الغوص في أعماق المتون الشعرية مبحراً في نهرها الدائم التجدّد والتحوّل، مجدّفا بمجاذيف التصوير البلاغي تارة، وتارة أخرى بالسخرية الأدبية المخاتلة، محلّلا وواصفا، مفكّكاً ومؤوّلاً، جامعا الحسنيين، الأولى بالاتكّاء على الترسانة البلاغية/ الداخل النصي، والثانية بالعودة إلى الخارج النصي، ذلك أنّ المتن الشعري عند الشاعرة مصاغٌ في سبيكة نصية منسوجة بإبرة الوعي الجمالي والفني وإبدالات الواقع، فجاء عبارة عن ” رسائل تنبيه وتأنيب ووعظ وتذكير.. لكونها تتطرق إلى مختلف المظاهر الإنسانية المعتملة في المجتمع العربي والإسلامي ” (4) ،بمعنى أن تجربة الشاعرة تتطلب استبطانا تنويريّاً يضيء عتمات الخطاب الشعري الزاخر بمدونة تربوية إصلاحية، (5) مُعتبراً إيّاها مرجعاً في الشعر الرمزي الدرامي بنكهة واقعية هازلة وروح صوفية متعالية، (6) واستنطاق المتن لم يتم بشكل اعتباطي بقدر ما تحقق وفق آلية الوصف والتشريح، من خلال ما قام به من وضع النص المنقود على مشرحة النقد مفسّراً ومحلّلاً ومؤوّلاً، وهنا مكمن الجدّة في الكتاب، حيث لم يعمد إلى التطبيق الحرفي للمشارط النقدية الصارمة، بقدر ما يتيح الفرصة للقارئ لارتياد مغامرة الإبحار في لجج النصوص المضطربة والمضطرمة بأمواج النفس وبنيرانها الداخلية المتّقدة بفعل الرغبة في التعبير عن كوامن الروح، وتسليط الضوء على تلك الدهاليز المنسية والملتبسة، وامتلاكٍ للأدوات التعبيرية والنقدية التي تقومبتقريب المتن الشعري للقارئ العادي والنموذجي، وتطعيم اللغة وشحنها بطاقة التجديد لتوسيع المعنى.

(2) متاهات النص
وردم الفجوات:

إن الوعي المنهجي المعتمد يسّر للناقد مسالك المتن الصعبة والمليئة بالمنعطفات والارتجاجات وبالمتاهات النصية، الأمر الذي فرض على الناقد ردم الفجوات عبر آلية التأويل خصوصاً وأن متن الشاعرة المدروس يجمع بين العِبرة الدنيوية والعبارة ذات الحمولة الصوفية، فجاء نسيجاً تتفاعل فيه مكونات النص لخلق خطابٍ محمّلٍ -حسب الناقد- بشفرات طافحة بالمعاني والدلالات القابلة لاحتمالات تأويلية يحدّدها السياق النصيّ، ” ولا تنفصل هذه المظاهر الخطابية عن النسق اللغوي الناقل للنصوص الشعرية. وهي لغة تتصف بشفافيتها من جهة، وباقتراب بعض وحداتها المعجمية وتراكيبها من نصوص الصوفية، من جهة أخرى” (7)، مما يعكس الرؤية النقدية العميقة التي تمكّن الناقد من رسم ملامحها عبر آلية التأويل، وقراءة المتن على أساس أنه بنية لاتقف داخل وجودها النصي، وإنما تنفتح على الذاكرة والتاريخ والتراث الشعري والصوفي، والجوانب المعرفية المرتبطة والمتعلقة بمشروع الناقد المتجلّي في مصاحبة المتن المنقود والإصغاء إليه بعين القلب وقلب العقل، فنتج عن هذه الآلية الاقتراب منه والكشف عمّا يميّزه عن باقي التجارب الشعرية التي اطّلع عليها الناقد قراءة ونقداً، مؤسسا بذلك تصورا نقدياً منطلقه الرؤية للعالم كما طرحها لوسيان غولدمان في كتابه (الإله المخفي) باعتبارها ” التعبير النفسي عن العلاقة القائمة بين المجموعات الإنسانية ووسطها الاجتماعي والطبيعي”، (8) وهذا الحكم لم يكن اعتباطيا بقدر ما ينسجم مع ما طرحته قراءة الناقد في كتابه هذا، إذ حاول تقديم حوارٍ مصغٍ للمقول النصي بالعقل والقلب معاً، خصوصا وأن الناقد كما عَنّ لنا له ارتباط وجودي وإبداعي ضارب في الكوامن والدواخل الباطنية، بعبارة أخرى فالطابع الانعكاسي حاضر بقوة، إذ عمد د. محمد جمال إلى سلك مسلك المؤالفة بدل المخالفة، كيف؟ فهو يضع النص المنقود أولا معلنا هويته كشكل شعري يندرج ضمن شعر التفعيلة، ثم بعد ذلك يفتح حواراً سمته التداعي، لنغنم من درره النقدية المتوارية خلف الملفوظ، – نجد السيولة التفسيرية والتأويلية بدلالتها الإيجابية، – تجذبنا إلى البنيات النصية؛ وهي تنحبك بلغة نقدية متجذرة في التراث النقدي العربي، تكشف عن الوعي النقدي لديه في مقاربة متن الشاعرة وأديبة الإسكندرية حنان فاروق العجمي، وعي يجمع بين اللغة الواصفة واللغة النقدية. واللافت في هذا الكتاب قدرة الناقد على الابتعاد عن الأحكام الجاهزة والاقتراب من المتن المدروس بمنهجية تأويلية تختلف عن المألوف في الممارسة النقدية، مما يتطلب من قارئ الكتاب أن يكون حذراً من الوقوع في فخ النفور بعبارة أبي حامد الغزالي الذي يقول: ” إن الفطام عن المألوف شديد والنفوس عن الغريب نافرة”، فكلّ طرحٍ جديد إلا وقوبلَ بالممانعة لأنه يقوّض السائد في الذائقة النقدية، ويشرَع الأبواب لممارسة نقدية مختلفة.

(3) النص والعبور
إلى تخوم الخطاب:

يعبر القارئ، في هذا السِّفْر، من بنية الخطاب السطحية إلى مستوى البنية العميقة، أي الانتقال من المقول الظاهر إلى المقول الباطن، أي العبور إلى الخفيّ، المطمور. فالجمع بين الرسالة برموزها وعلاماتها والاستبطان البلاغي وتفكيك شفراته بأبعاده اللامحدودة، لا تقوم له قائمة إلا بامتلاك ترسانة قرائية وبلاغية تسعف على مجاورة ومحاورة الخطاب الشعري. بعبارة ثانية إن المنهجية التأويلية تبتغي بيان ما يخفيه الخطاب المنقود من منظومة دلالية. بل تجعل النص المنقود متحرّراً ومستقلّاً عن المؤلف/ الشاعرة ليلج متاهة جديدة من الفهم والتحليل والتشريح والتفكيك ف” النص يبدأ في التحرر والاستقلال عن مؤلفه من خلال التأويل. وعندما يبدأ النص في الاستقلال عن مبدعه، يبدأ رحلة جديدة من البحث عن من يبدعه ويمنحه قدرة بها يحيا ويتجدّد (9) “. فالناقد استطاع تحرير المتن الشعري للشاعرة من الدلالة السطحية إلى أفق تأويلي مشرعٍ على قراءات متعدّدة تثري الخطاب وتخصّب دلالاته وتجدّد أنساغه بنَفَسٍ آخر، وتمنح للنص حياة جديدة. وفي هذا السياق يرى بول ريكور” أن النص يتبدّى في صراع تأويلاته وتنافر دلالاته، فالأمر لا يتعلق بتفاضل أو نفي أو إلغاء، بقدر ما يتعلق بصراع مؤسَّس، ويتبدّى في القراءات المتنوعة. وعن طريق هذه القراءة المتنوعة ثم تصوّر العالم على شكل كتاب كبير علاماته ورموزه الأشياء والظواهر، ما جعل مفهوم النص لا يصدّق نظرياً على النص اللغوي المكتوب؛ بل يتعدّاه إلى اعتبار العالم واقعاً نصيّاً هو أيضا في اهتمام التأويل”، (10) هذا الأمر ظاهر جليّ في هذا الكتاب ، حيث سعى إلى تصيير المتن المدروس منفتحاً على عوالم تأويلية تسهم في تثوير الخطاب الشعري. فإنتاج الفهم يحتاج إلى فعل قرائي يقوم على أساس تحليليّ وتأويليّ، من هذا المنطلق اعتمد الناقد على مرجعيات بلاغية من خلال توظيف بلاغة القبض والبسط التي ميّزت تجربة الشاعرة الشعرية، وهي آلية من آليات تقديم الأفكار والمعاني تجمع الإيجاز والتكثيف وتوسيع الأفكار بطريقة فيها الكثير من التفصيل. ومرجعيات معرفية متعلّقة بالتناص داخل المتن الشعري (قصة يوسف / قصة قابيل وهابيل) وبلاغة التعريض بما تتميّز به من الاتكاء على التلميح بدل التصريح، دون نسيان الخلفية الفلسفية المحال إليه بالفكر الوجودي حيث الاغتراب والتمزق والتشظي من معالمه الواضحة في شعر الشاعرة، والانفتاح على التراث الغني بألف نص ونص يثري الخطاب الشعري. فهذه الخلفيات المعرفية والفكرية والبلاغية تبرز حقيقة مفادها أن الناقد ذو دربة ومراسٍ في مصاحبة ومحاورة النص الإبداعي النقد وفي امتلاك الآليات الكفيلةبالكشف عن خباياه وأسراره. بل إن ” فعل القراءة والكتابة يمثلان أهمية خاصة في التحاور مع النص، فالنص يبوح بأسراره عن طريق القراءة والكتابة والتأويل”، (11) ويعتبران مدخلا من المداخل الأساس لملء الفجوات من لدن القارئ، وهنا مكمن التأويل الذي يقوم بعملية الردم لتوسيع المعنى والدلالات النصية.

على سبيل الختم:

إن كتاب ” رسالية الرمز الشعري وبدائع الاستنباط البلاغي” يحتاج إلى أكثر من قراءة للتنقيب عما يزخر به من طرح نقدي يستلهم جدّته من طريقة تدارس متن شعري لافت، من وجهة نظر الناقد، إذ نهج أسلوب التدرج في بسط تصوره وتأويله وفق آلية بلاغية، فحقق غايتين، الغاية الإقناعية بجدوى تجسير الصلة بالشعر، والغاية الإمتاعية التي تحمل القارئ إلى عوالم متخيّلة توضع على مشرحة النقد بلغة انسيابية عمادها البوح والتأويل. لهذا ف” القراءة ليست تحديداً لمعنى سابقٍ، إنها استثارة أيضاً لمعانٍ موجودة عند الذي يقرأ. يتعلق الأمر بتجارب جديدة تُبنى على هامش النص وعلى هامش الحياة الفعلية، وقد يكون ذلك ضدّاً عليها في أحيان كثيرة” (12).
نخلص من هذه الرحلة القرائية في كتاب ” رسالية الشعر الرمزي وبدائع الاستبطان البلاغي (انسيابات في رمزيات أديبة الإسكندرية حنان فاروق العجمي) الى ما يأتي:
– النص تجربة إنسانية محمّلة برؤية خاصة للعالم تحتاج إلى فعل القراءة.
– فعل النص يكمن في القدرة على بناء العلاقات القائمة بين العناصر اللغوية داخل النسيج النصي.
– الفاعلية النصية إنتاجية تعتمد على الامتصاص النصي أو التعالق النصي، حيث يتم التفاعل بين النص الحاضر والآخر الغائب وفق تركيبة دينامية تمنح النص دلالات لا نهائية.
– تجربة الشاعرة تجربة مفتوحة على روافد ثقافية ومعرفية (تراثية وفلسفية ودينية) مكنتها من بناء خطاب شعريّ متجدّد ومتحوّل.
وعليه استطاع الناقد د. محمد جمال خلق حيوية القراءة الفاعلة والمتفاعلة داخل المتن المنقود، باستثمار المرجعيات النقدية القديمة جامعا بين النص كخطابٍ له سماته الجمالية والفنية، والنقد بأدواته المنهجية لتنوير عتمات هذا الخطاب المدروس، فالطابع الانطباعي حاضرٌ على مستوى التحليل والطابع النقدي قائم على مستوى التأويل.

الهوامش:

1- – د. محمد جمال وذ. حنان فاروق العجمي: رسالية الشعر الرمزي وبدائع الاستبطان البلاغي (انسيابات في رمزيات أديبة الإسكندرية فاروق العجمي، مركز أطلس للطباعة والنشر والتوزيع، بني ملال، المغرب، ط1، 2023.
2- د. محمد جمال وذ. حنان فاروق العجمي: رسالية الشعر الرمزي وبدائع الاستبطان البلاغي (انسيابات في رمزيات أديبة الإسكندرية فاروق العجمي، مركز أطلس للطباعة والنشر والتوزيع، بني ملال، المغرب، ط1، 2023، ص3.
3- نقلا عن كتاب الشعر العربي الحديث، أعمال الندوة الرئيسة لمهرجان القرين الثقافي الثاني عشر، 10-12 ديسمبر 2005م، الجزء الأول، سلسلة عالم المعرفة، ع 317، سبتمبر 2009، ص141.
4- د. محمد جمال وذ. حنان فاروق العجمي: مرجع مذكور، ص3.
5- نفسه، ص 3.
6- نفسه، ص4.
7- الطائع الحداوي: النص والمفهوم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2010، 190.
8- L. Goldman: Le dieu caché. éd : Gallimard .1959. p 21.
9- عماد الدين إبراهيم عبد الرازق: من الدلالة الهرمينوطيقية للنص إلى السردية التاريخية، دراسة في فلسفة بول ريكور، مجلة تأويليات، ع 2، خريف 2018، ص63.
10- أيان ماكلين: التأويل والقراءة، ترجمة خالدة حامد، مجلة الملتقى، مراكش، العدد 5/ 6، 2000، ص81.
11- عماد إبراهيم عبد الرزاق: من الدلالة الهرمينوطيقية إلى السردية التاريخية، مرجع مذكور، ص 72.
12- سعيد بنكراد: التأويل وتجربة المعنى، المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع، ط1، 2023، ص44.


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 07/06/2024