تقتضي سنة التغيير ابتداع أشكال تعبيرية تناسب تطور المرحلة، ولعل من أكثر الأجناس الأدبية حداثة في الفترة المعاصرة ذلك الجنس الذي يطلق عليه القصة القصيرة جدا، والذي غدا يراكم نتاجا دون أن يلتفت إليه النقاد بالنقد والدراسة- خاصة الجيل المسكون بالمؤلفات الموسومة بأمهات الكتب- اليوم وبعد رحلة طويلة في متون الرواية، وبتشجيع من إدارة مهرجان ابزو السياحي والثقافي التي التمست مني تقديم قراءة فيمجموعة (ليالي الأعشى) لعبد اللطيف هدار، وجدتني أركب مغامرة قراءة هذه الكتابات الجديدة المسماة قصة قصيرة جدا، لأول مرة أقدم قراءة في مجموعة قصصية كاملة رغم ما أتابعه يوميا من تغريدات قصيرة على شبكات التواصل الاجتماعي، ورغم الحرص على مواكبة كل جديد في الإبداع الأدبي، وعلى الرغم من توصلي بعدد من الإصدارات من المغرب وخارجه، فقد ظل في الأعماق تردد يحول بيني وبين مقاربة هذه الكتابة المجهرية الزئبقية المنفلتة من المعيارية المدرسية والتي يكاد يكون الاتفاق حول ما يفردها من خصائص تتلخص في قصر الحجم ، والإيحاء، التكثيف، والنزعة السردية الموجزة، الرمزية المباشرة وغير المباشرة مع اعتماد التلميح بدل التصريح و السعي إلى تجريب قول كل في شيء جمل قصيرة موسومة بحركية غايتها توتير المواقف، وتأزيم الأحداث في كتابة مبنية على الحذف والاختزال عبر بلاغة الانزياح والخرق الجمالي. وهو ما يجعل منها كتابة نعرفها ولا نستطيع أن نعرّفها، بل ما زلنا نختلف حول تسميتها وتجنيسها بين من يطلق عليها اللوحة، الومضة، المشهد، الخاطرة، المقطع ، الشذرة…
إنها كتابة أشبه ما تكون بهايكو سردي، فرضه زمن السرعة ، ليتماشى وزمن السندويش وال SMS ويقدم للقارئ وجبة سريعة مكونة من سطر أو جملة سردية ، وقصة أحيانا أقصر من عنوانها فتجد عنوانا مشحونا بالدلالات والإيحاءات التي لا تنتهي وتحته قصة قزمية مكونة من جملة ، أو جملتين…
صغر الحجم يحيل اللغة سهاما مصوبة نحو الهدف، ويجعلها لغة منزاحة عن وظيفتها التواصلية وهو ما يفرض على النقاد تغيير أدوات القراءة التقليدية، والبحث عن بدائل في مقاربة هذه الكبسولة المكثفة، والمادة زئبقية التي تنفلت من قارئها قبل الإمساك بها، تحدث به زلزلة تتلاشى سريعا ذبذباتها ما أن يقلب الصفحة كما السفينة ترج مياه البحر لتعود المياه لهدوئها بمجرد مرور السفينة…
أول ما شخص أمامي لما توصلت بعنوان الأضمومة «ليالي الأعشى» لعبد اللطيف الهدار فتحت لي مداخلها المغرية أفق انتظار واسع جدا، وشخص أمامي كتاب ( صبح الأعشى للقلقشندي) تلك الموسوعة الضخمة (14 مجلدا) فانتظرت مجموعة عنوانها ليالي مجموعة ضخمة الحجم ( خاصة الليالي جاءت مفردة وقبل صبح (مفرد في كتاب القلقشندي)
ولعل أهم ما شرع أفق انتظاري محيطا بلا ضفاف هو هذا المركب الإضافي الذي شكل عنوان الأضمومة «ليالي الأعشى» والذي وردت فيه كلمة (الليالي) جمعا، وفي أعماق النفس رنين لنصوص غائبة كثيرة يتقاطر الليل فيها مفردا دلالات بشحنات سالبة تحيل على الهموم ، الصبابة، الأرق، المرض الوحدة …. سواء في الثقافة العالمة منذ أن قصد امرؤ القيس أولى قصائد العرب وضمنها ربط الليل بالهموم في قوله :
ولَـيْـلٍ كَـمَـوْجِ الـبَـحْـرِ أَرْخَـى سُـدُوْلَــهُ +++ عَــلَـيَّ بِـأَنْـوَاعِ الـهُــمُــوْمِ لِــيَــبْــتَــلِـي
فَــقُــلْــتُ لَـهُ لَـمَّـا تَـمَــطَّــى بِـصُــلْــبِـهِ ++++ وأَرْدَفَ أَعْــجَــازاً وَنَـــاءَ بِــكَــلْـــكَــلِ
ومن عاصروه كقول النابغة يشكو طول الليل وتكالب الهموم والخزن عليه عند قوله:
كليني لهمٍ ، يا أميمة َ ، ناصبِ +++ و ليلٍ أقاسيهِ ، بطيءِ الكواكبِ
تطاولَ حتى قلتُ ليسَ بمنقضٍ +++ و ليسَ الذي يرعى النجومَ بآيبِ
و صدرٍ أراحَ الليلُ عازبَ همهِ +++ تضاعَفَ فيه الحزْنُ من كلّ جانبِ
ولعل من اشهر القصائد التي ربطت الليل بالمرض والألم قصيدة المتنبي التي يقول فيها :
وزائرتي كأن بها حياء +++ فليس تزور إلا في الظلام
فرشت لها المطارف والحشايا +++ فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها ++++ فتوسعه بأنواع السقام
وهي نفس الأفكار تردد في الثقافة الشعبية حيث ليل العاشق والمريض طويل لا ينتهي من ذلك أغنية (ليلي طويل) ليونس ميكري وهذا الموشح الذي يتحدى في الشاعر طول الليل
ياليل طل أو لا تطل +++ لا بد لي أن أسهرك
لو بات عندي قمري +++ ما بت أرعى قمرك
في كل تلك التجارب حضر فيها الليل مفردا. فكيف ستكون مجموعة قصصية لشاعر مغربي تضمن عنوانها (الليالي) جمعا خاصة إذا ما أضيف لتلك الليالي إيحاءات ( الليالي ) في الثقافة الشعبية المرتبطة بزمهرير فصل الشتاء. أما إذا ما أضيف ( الأعشى) لليالي فالمأدبة أكيد ستصبح أكثر دسما إثارة للقرم ولشهية القراءة إذا ما استحضرنا ما ارتبط بالأعشى في الثقافة العربية كشاعر رمز للطرب والغناء فهو (صناجة العرب) السفر والخمر. بل يعد الأعشى أشعر شعراء. فقد سئل حسان عن أشعر الناس فقال «الزّرق من بني قيس بن ثعلبة» وهو يقصد الأعشى . والعرب تجمع على أن اشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب.
إن تاريخ الأدب العربي مليئ بحكايات الأعشى والخمر ولعل أطرفها ما جاء في رسالة الغفران للمعري ، إذ يحكي ابن الفارط سارد (رسالة الغفران) أن الرسول (ص) بعد حساب يوم البعث سمع رجلا يستغيث والزبانية تسحبه إلى سقر، فأرسل عليا ليتقصى الأمر، فلما عاد علي أخبر رسول الله أنه الأعشى روى مدحه فيك وشهد أنك رسول الله . فقال الرسول هلا جاءني في الدار السابقة فقال علي : جاءك لكن صده حبه للخمر فشفع له الرسول ودخل الجنة …
أضمومة «ليالي الأعشى» للزميل الهدار وبهذه المداخل المغرية قد تخيب أفق انتظار قارئها الباحث عن الحجم الكبير وهو يتأمل اسم الكاتب (الهدار) صيغة مبالغة في العامية المغربية تعني كثير الكلام (الهدرة) ، و عند العرب ما وصف شيء بالهدار إلا دل على المبالغة فيقال صَوْتٌ هَدَّارٌ : مُجَلْجِلٌ قَوِيٌّ / ومَطَرٌ هَدَّارٌ : هَاطِلٌ بِقُوَّةٍ / سَيْلٌ هَدَّارٌ : مُنْدَفِعٌ بِقُوَّةٍ/ عَاصِفَةٌ هَدَّارَةٌ : هَوْجَاءُ ، عَنِيفَةٌ /خَطِيبٌ هَدَّارٌ : عَنِيفُ اللَّهْجَةِ وَالْكَلاَمِ… فهل من علاقة بين بين هذا الاسم وعنوان المجموعة ( ليالي الأعشى ) الذي يجعلنا نفترض أن رؤية الأعشى في الليالي ضبابية. فإذا كان الأعشى الضعيف البصر بالكاد يميز شخوص الأشياء في واضحة النهار فكيف ستكون رؤيته ليلا ؟ ماذا سيرى الأعشى ليلا وهو أعشى؟
عند تصفح الأضمومة تطالعك فهرسة ب 52 قصة قصيرة جدا وهو عدد أسابيع السنة لا وألف لا ليس هذا صدفة عند من يؤمن حتى الثمالة باستحالة وجود كتابة بيضاء…
أما عند قراءة أول جمل في المجموعة (أصابه القنوط بعد دعة …) وأول جملة في آخر نص (نورس كئيب يبكي عربة البحر..) يتلخص ما بين الجملتين، وتتأكد كل الفرضيات والمعاني السالبة المرتبطة بالليالي، فباستثناء قصيدة (عرفان) ولأنها مهداة لصديق عزيز، الأضمومة تهيمن عليها نزعة تشاؤمية سالبة تعكس عجزا واضحا عن التأقلم مع متغيرات العصر، وغربة يعيشها ساردو وأبطال اللوحات، وهي نزعة تكاد تميز الإبداع الأدبي العربي في لحظات التأزيم السياسي والاجتماعي، هيمنت في الشعر الأندلسي غداة سقوط الأندلس فألفينا الشعراء يجيدون البكاء والتفجع على سقوط المدن وسقوط الأندلس، وهيمنت في العصر الحديث عقب النكبة، وغداة النكسة، وها هي تطفو من جديد في الإبداع العربي منذ السقوط الثاني لبغداد وتتكرس بعد الرجة المسماة ربيعا عربيا وارتداداتها المتكررة وهي أزمات لا يقل تأزيما كل تلك النكبات السابقة، لذلك جاءت المجموعة لتعبر عن ذبذبات الشنحات السالبة التي استشرت في واقع ما بعد سقوط بغداد فكانت حبلى بكل المعاني المرتبطة بالسقوط والانكسار/ ويكفي إلقاء نظرة على فهرست الأضمومة لتقف أمامك شاخصة كل تلك المعاني، ((دهشة/ دهشة أخرى/ غيم /اكتئاب/جدب/غبن/غيض من فيض/فراغ/جمرة العطش/سقوط/جنوح /سوء تقدير /شرخ/حرب خفيفة/مسافة/نفي/جزاء سنمار/كواليس/المشؤومة/صيام/ردة/خارج التغطية/إلا اللمم/نقار الخشب ))
وسط كل هذه القتامة يظل الشاعر وحده نقطة منيرة بيضاء تستحق تتويجا في نظر الكاتب يقول في قصيدة (عرفان) التي أهداها لصديقه عبد العزيز أمزيان الاسم الوحيد المذكور في المجموعة (توجته شاعرا بميزة ملاك) .. قد يتساءل سائل عن جدوى وفائدة الملاك وسط كل هذا الدمار… الجواب: وكأن المجموعة تتغيى الرد على من يدعي انتهاء زمن الشعر، وأن الشاعر لم تعد له وظيفة في هذا العالم الموغل في المادية، وتأكيد أننا اليوم أحوج ما نكون للشعر والشعراء، لأنهم وحدهم القادرون على إذكاء جذوة الشعور الميت فينا، في عصر لا يعرف الأفراح ، والأفراح فيه تجهض قبل ولادتها:
فهذا نقار الخشب قبل أن ينتشي بالخرم الذي أحدثه في الجدع يسقط عليه الجدع ويرديه قتيلا
والعملاق قبل أن ينتشي بالجلوس على العرش يصدع سقف الحجرة ليتهاوى عليه المبنى، «ولادة» رمز الخصوبة تصاب بعقم مريع ناتج عن اكتئاب فظيع.
هذه أمثلة تصور كيف صار واقعنا مسخا لا يعيش أزمة قيم فقط، بل انقلبت فيه كل القيم رأسا على عقب: فغدت الصداقة خيانة، و السعة ضيقا الدعة قنوطا والحكمة عبثا و(صار القبو بهوا) و(الاحتفال يتحول مأتما ) .إنه زمن الجحود ونسيان القيم (الرجل ينسى أنه صائم) ( تقدم نحوها يلوك علكة ويطلب منها جرعة ماء بحسم ردت عليه أنا صائمة ) وحتى المتنفس الافتراضي يصبح فيه الفيس بوك حماما شعبيا هيهات يرقى إلى مستوى «حمام لعيالات».
«ليالي الأعشى» هي نظرة أعشىى ورصد مع سبق الإصرار للتشوه الذي أصاب هويتنا وغرائزنا فأصبح النسيان سمتنا. أصبحنا ننسىى الفطرة فينا، يقول ( نسيت أن أنام ) وإذا نام (لم يستفق إلا بعد أن تعفن) هذا التشوه لم يقتصر على المكتسب فينا وإنما أصاب الغرائز بما فيها غريزة أصل بقائنا على هذه الأرض غريزة الجنس الضامن الوحيد لاستمرار الجنس البشري والغريزة التي قامت من أجلها حروب ودمرت حضارات أصبحت في زمامنا عديمة الجدوى وإذا زارته المرأة ليلا (عادت من حيث أتت وفي جوفها ظلت جمرة العطش متقدة) ليتلذذ بمغازلة الموج ويقتات من ملوحته وكأنه يتنكر للرجولة والفحولة التي لم يعد لها معنى …
هذه هي «ليالي الأعشى»، الأعشى الذي لا يميز بين الأشياء، الأعشى الموجود في النص يرقب فجرا في كلكل الظلام يغمره إحساس بالوحدة والغربة ( بقيت وحدي بعد عشرة) إحساس يجعل الفرد يتمنى لو كان بدون عقل (تمنيت لو كنت معتوها) .
قراءة المجموعة إذن تكشف عن ارتباط بين معاني القنوط الضيق، الظلام، الضيم، الحزن الاختناق وكل المعاني المشحونة بدلالات سالبة والمختزلة في (الليل ) وبين الرغبة في التجدد والانعتاق وانتظار هذا الصبح الذي يترقبه الأعشى من خلال تبني شكل جديد في التعبير، يمتاز بتكثيف المعاني، وتحويل الكلمات إلى رموز مشبعة بالدلالات… ليالي الأعشى تشعر القارئ أن الكلمات عاجزة عن نقل كل المعاناة لذلك لاذ السارد بالصمت واكتفى بالإشارة أمام شساعة الفراغ وهول الجلل… فبين أول جملة في أول نص بالمجموعة ( أصابه القنوط) وأول جملة في آخر نص (نورس كئيب يبكي غربة البحر ) تتلخص حكاية الأعشى المعاصر خاصة وأن لفظة الأعشى لم تذكر في المجموعة إلا في النص الأول والنص الأخير…
إنه حزن ووعي شقي لا تقدم المجموعة أسبابه، ولا تبحث له عن حلول وإنما تعيشه عبر معاقرة الأتراح والآلام بحثا عن فرح مستحيل، وهنا كان يمكن أن تدخل الأسطورة لتعطي لهذا البحث معنى وجوديا، كان يمكن إدراج الرمزية لتحفيز العلاقة بين الدوال والمدلولات لكن الكاتب اختار لغة مباشرة تزع نحو لغة رومانسية تجيد التفجع والشكوى، وهي معان ممعنة في الضعف والاستسلام تعكس بحق واقع مثقف عاش ما أثخنه من نكبات ما بعد سقوط بغداد والربيع العربي واقع لما تأمله ( طالعه وجه عربي بئيس وخريطة شاسعة تحت رحمة المقص) ص49 ليجد نفسه مجبرا على أن يحيا هذا العبث… بكل بساطة (ليالي الأعشى) تعبير عن زمن الرداءة الميديوقراطية حيث النفوذ فيه للتافهين الذين أجبروا المبدعين على التراجع إلى الظل والاكتفاء بتدخين المفاهيم وفي كل واد يهيمون لا حياة فيه لمن ينادون…
القصة القصيرة جدا: قراءة في «ليالي الأعشى» لعبد اللطيف هدار
الكاتب : ذ. الكبير الداديسي
بتاريخ : 16/11/2018