أصبحت القصة القصيرة جدا من أكثر الأنواع الأدبية حضورا في عالمنا العربي.وذلك لأسباب كثيرة منها استسهال كتابتها.
ومن رواد القصة القصيرة جدا،والذي حافظ عليها واستثمر في كتابتها أمام انقطاع آخرين عن الغوص في عالمها،نجد الأستاذ حسن برطال،الذي ظل وفيا لهذا الفن الأدبي. فعبد لله المتقي ابتعد عن الكتابة فيها ومصطفى لغتيري جرفته الرواية إلى سواحلها،ومصطفى لكثيري أخذته القصة القصيرة إلى واديها،واسماعيل البويحياوي نأى بنفسه بعيدا…
وحسن برطال يعرف أنه يكتب القصة القصيرة جدا وواع بأنه ملزم بتقديم قصة قصيرة جدا، ولكن في المقام الأول أن يقدم للقارئ متعة أدبية تجعله يستمتع بالفن والكتابة.
والسؤال المطروح هو:
– ماذا قدم حسن برطال للقصة القصيرة جدا؟
– هل تطورت كتابة القصة القصيرة جدا عنده؟
– هل هذه القصص القصيرة جدا تحقق متعة القراءة؟
– هل قراءتها تريح القارئ/ المتلقي؟
إن القصة القصيرة جدا نص سردي قائم بذاته.والقاسم المشترك بين كل هذه النصوص القصصية القصيرة جدا هو الحجم.ولا نريد أن نطرح مثالية حجم نص القصة القصيرة جدا.فالحجم إضافة إلى مقومات ومكونات جمالية، وإنشائية أخرى تعطينا نصا قصصيا قصيرا جدا متميزا..
ونبدأ محاورتنا لعمل سي حسن بسؤال تقليدي : ما هي القواسم المشتركة بين كل الأعمال القصصية التي أبدعها سي حسن برطال؟
– ماذا يريد سي حسن برطال من مجاميعه القصصية أن يقوله للمتلقي؟
– ماذا نريد نحن كمتلقين من هذه المجاميع القصصية؟هل نريد أن نعرف ماذا تقول؟ أم نريد أن نعرف كيف يقول الكاتب حسن برطال؟
– إن قوة النص تتجلى في قدرة الكاتب على التحكم والسيطرة على نصه القصصي.فهل استطاع حسن برطال التحكم في توجيه نصوصه القصصية القصيرة جدا لتكون وفق رؤيته لها؟.
– هل استطاع أن يمد المتلقي بالمتعة ويمكنه من لذة القراءة؟
– هل استطاع أن يوجه المتلقي إلى فهم خاص ومحدد للنص القصصي القصير جدا؟هل استطاع أن يغريه بالقراءة؟.
صحيح، أن هناك مجموعة من العوامل التي قد شكلت نوعا من المتبطات، والمعوقات. وقد تحول دون تمكن الكاتب بشكل كبير من كتابة نصه القصصي وفقا لما يسعى أن يصل إلى قارئه من معنى. وأول هذه العوامل يتمثل في الإيقاع الذي يخضع له النص القصصي، ويحد من حرية الكاتب وهو يصوغ قصته. في السرد القصصي عامة يخضع النص لنظام إيقاعي معين، يسيطر عليه، وهو نظام الوصف والسرد، والحبكة، والعقدة والحل. لكنْ، هناك عنصر هام، وهو المتلقي الذي يشكل الدعامة في عملية التوصيل السردي (الكاتب- النص – المتلقي)، وتنبثق أهميته من كونه الذي يمنح النص وجوده الفعلي، إذ لا يتحقق هذا الوجود دون قارئ، ومن ثمة فإن» القراءة باعتبارها عملية تأويلية تسعى إلى مقاربة النص،وتخضع لطبيعة القارئ الذي يقوم بهذه القراءة، إذ تتحكم في تعامله مع النص مجموعة من العوامل التي يتحدد من خلالها فهمه له»..
واهتمام حسن برطال بهذه القضايا (المؤلف- النص- القارئ)، يجعل السؤال يبدو نوعا ما استفزازيا، يجعلنا نقول عن كل كتاب القصة القصيرة جدا.فهل أكثرية هؤلاء الكاتبات والكتاب تسللوا إلى الإبداع السردي(القصة القصيرة جدا)،بدون تجربة في أنواع أدبية سردية أخرى غير القصة القصيرة جدا؟.
– هل ما تراكم من إنتاج في فن القصة القصيرة جدا،هو محاكاة لنموذج أولي، أي لنص مركزي، شكله الرواد؟وحسن برطال من الرواد..والذي يمكن أن نسميه تجاوزا بنظرية المحاكاة،أي أن النصوص السابقة (نصوص الرواد) تصبح خارطة طريق،وتكون ما نسميه ب»النموذج المحاكاتي Le paradigme mimétique، أي نصا مركزيا أساسيا يمكن محاكاته وتقليده،والسير على منواله،ومن ثمة أصبح هذا النموذج نقطة الانطلاق على حد تعبير طوماس كوهن في كتابه(بنية الثورات العلمية).
إن القصة القصيرة جدا، عند حسن برطال رغم قصرها،تتضمن خطابا قصصيا يشتمل على تجليات استعارية،ووجودها فيه يعد من إفرازات المنظور البلاغي الجديد،الذي يرفض أصحابه اعتبار الاستعارة خاصية شعرية.إنهم يعدونها خاصية خطابية تحضر في سائر الخطابات .
والخطاب القصصي في القصة القصيرة جدا ،تتجلى فيه الاستعارة بشكل مكثف ومثير للانتباه،حيث يتعدى توظيفها مستوى الكلمة والجملة،إلى مستوى أوسع،هو مستوى النص والخطاب ككل.هذا يدفعنا إلى طرح سؤال إشكالي:
– هل القصة القصيرة جدا عند حسن برطال ،نص أو خطاب استعاري un discours métaphoriques؟.
إن الذي يقضي بوجود استعارة كلية في القصة القصيرة جدا، والتي تعرف باستعارة النص،أو استعارة السياق عند أمبرتو إيكو،هي مجموعة الاستعارات الجزئية المنتشرة داخل النص القصصي، والتي تترابط فيما بينها مشكلة الاستعارة الأم.
المنظور القصصي في القصة القصيرة جدا
يعرف الأستاذ حسن برطال أن فن القصة القصيرة جدا له جمالياته،وله آفاقه الفنية والأدبية،وله إقبال عليه وانتشار.ولذا كان يضع نصب عينيه دائما القول القائل: «إن فنا يضطلع مباشرة بتصوير الحياة يجب أن يتمتع بحرية كاملة لكي يكون صحيحا معافى. فهو يحيا على الممارسة، وجوهر الممارسة هو الحرية» .
والقصة القصيرة جدا تتميز بالانفتاح والاتساع، واللغة الشاعرة، والصورة الفنية، والتجريب والحداثة. فقد دخل حسن برطال غمارها،وأعطاها بعضا من البريق المطلوب.واستطاع أن يعطينا اعمال قصصية جيدة مثل (أبراج- قوس قزح – صورة على نسق pgj- سيمفونية الببغاء- مغرب الشمس- الماء والبنون- عائد إلى فيفا-)..
وهو يقدم لنا واقعا قصصيا- حسب منظوره- وظف فيه منظوره للقصة،وأغنى به قصصه القصيرة جدا.كما أن هذه القصة القصيرة جدا التي يقدمها لنابرطال اليوم لا تخلو من رؤية ورؤيا،تبين نظرته للإبداع السردي عموما،وللشكل القصصي خصوصا.
والشكل القصصي عنده» هو تلك القدرة التي لكاتب على الإمساك بمادته الحكائية، وإخضاعها للتقطيع والاختيار،وإجراء التعديلات الضرورية عليها، حتى تصبح في النهاية تركيبا فنيا منسجما، يتضمن نظامه وجماليته ومنطقه الخاص» .ويتعلق الأمر بكافة العناصر البنائية والأسلوبية الداخلة في تكوين القصة القصيرة جدا،والتي تمكن الكاتب باستعمالها من الحصول على عمل فني متناسق،ومقنع بمادته وطريقة تأليفه .
والقصة القصيرة جدا عنده، قصة الكثافة والمفارقة، والقصصية والإدهاش والإمتاع. ويعرف أنها من مميزاتها وخصوصياتها.. ويجب احترامها.
فعندما نعود إلى مجموعته القصصية (صور من الأرشيف)، يعن لنا سؤال جوهري:هل القصة القصيرة جدا،والتي تتضمنها المجموعة، هي صور أرشيفية، مادام العنوان الرئيسي يلخصها ويعبر عنها؟.
إن (صور من الأرشيف) امتازت بشاعريتها، ومغامراتها، وهواجسها، وأحلامها وطموحاتها.وقد جاءت معبرة عن الذات المبدعة،وصورة معكوسة لدواخل الكاتب نفسه.فهل الصور هي انطباعات الكاتب ورؤيته للواقع؟.. وهل هذه القصة القصيرة جدا هي رؤى من رؤاه،أو تفسيرا لملاحظاته في الإنسان والوجود؟ وعلاقة الإنسان بالوجود والمحيط وبالإنسان عموما؟
كما لا تخلو (صور من الأرشيف) من زمن،وهو الحاضر الماثل أمامنا ما دامت الحركة هي التي تحدده لكونها جامدة.والزمن الذي وظفه حسن برطال في قصصه القصيرة جدا، يتحرك في إشارات/الحدث، والمتجدد، وهي كما يلي:
1 – إشارات المستقبل.وتتكون من ثلاث فئات من الإشارات:
* الأفعال المضارعة المتجهة نحو المستقبل، كما في نص (مطرب الحي) ص:28..» الذي يحلم بالعالمية وبصوت يتعدى (حدود الوطن) لن ينتظر طويلا فيدعم حكومي يجد نفسه (خارج الوطن)».
* أفعال الأمر،وهي مستقبلية.وقد تضمنت المجموعة القصصية (ليالي الأعشى) على أربعة أفعال أمر.
2 – إشارات الماضي.وتتكون من فئتين منها، وهما:
* أفعال الماضي الخالصة التي لم تقع في معادلة الشرط، كما في نص (نوسطالجيا)، ص:11.» عادت إلي بشعر أبيض كالثلج وعيون دامعة كالينابيع ومع ذلك وجدت متعتي في قمة هذا الجبل».
* الفعل المضارع المقلوب إلى الماضي(المسبوق بلم).وقد وظف حسن برطال مجموعة منها.والجدول التالي يعطينا صورة إجمالية لتوظيفات الفعل في المجموعة القصصية (صور من الأرشيف)..
– الفعل الماضي تكرر 252 مرة. والمضارع 140 مرة.والامر 04 مرات. والمضارع المسبوق بلم 26 مرة..
V- اللغة في القصة القصيرة جدا
الخطاب القصصي خرج من كلاسيكيته، ومن اعتياديته،ومن سكونية الماضي، والتصق بالإنسان وواقعه وذاته.وهذا الالتصاق بالإنسان تطلب من الخطاب القصصي أن يوظف لغة جديدة تنبني على الانزياح والخرق اللغوي، وجمالية التركيب. ومن هنا انفتحت آفاق القصة القصيرة جدا، واستقطبت كتابا كثيرين، أبدعوا وتفننوا، ونوعوا في الرؤى والمضامين. وكثيرون فكروا في تجاوز الواقع في كتاباتهم القصصية. بل عملوا على التنكر له والخروج عن النمطية التي بدأت تقيد فن القصة القصيرة جدا وكتابها.واعتبروا أن هذا اللون الأدبي الجديد هو فن قبل كل شيء،ثم كتابة وريا ثانية.وهذا الفن الذي استهواهم،»يستجيب لبعد اللانهاية ليحقق فكرة الإبداع الذي هو تعارض وانقطاع بين الواقع القائم وطموح الذات إلى واقع غير محقق» .وكانت وسيلتهم في ذلك هي:اللغة واللعب باللغة.وهي الوسيلة عندهم لتمرير خطابهم ورؤاهم..»لأن الأنساق الدلالية ما كان لها لتكون أنساقا سيميولوجية أو دالة لولا تدخل اللغة التي تسكبها صفة النسق السيميائي» ..وهذه اللغة الانزياحية هي التي أعطت لكثير من النصوص التي طبعها أصحابها بالقصة القصيرة جدا،أدبيتها،واستطاعوا التحليق بها في سماء الإبداع،وبدأوا إدخالها في عوالم امتازت بالفنية،والإبداعية،والأدبية.
وهذا الخرق للغة يزيدها في الواقع حياة وبريقا، ويعطيها كذلك نفسا يجعلها تقطع المسافات، وتفتح العوالم التي لم تكن تعرفها من قبل.
وقد جاءت اللغة في كتابات المبدع حسن برطال شاسعة وذات اتساع دلالي، وبالتالي أصبحت اللغة عنده نابعة بالحياة،والديناميكية، وبالفنية أيضا. كما نجد فيها تمردا على الاستعمال الكلاسيكي: «ليحقق إضافة بالصياغة على مستوى الدلالات، حيث يتشكل في حركة انتظام البنية، فتتولد المعاني، ويصبح القول فضاء حجمه في الدلالات التي يولدها نهوض التعبير في بنية الجنس الأدبي» ..
فحسن برطال كاتب له طريقته الخاصة في الكتابة،ومن ثمة تصبح اللغة في كتاباته» بعيدة عن كونها مجرد قناة لحمولة الدلالات،وإنما هي غاية تستوقفنا لذاتها».
إن اللغة في قصصه القصيرة جدا، تتجاوز الواقع، وتخرج عن سياجه الذي يحاول أن يحاصره فيه.فتتجاوز بالتجديد في الصور، وفي توسع الرؤيا، وفي تعدد الدلالة، ومن ثمة يصبح النص القصصي عنده فنا وحياة، ورؤيا، وتجاوزا للواقع. وهذا ما يوفر للقارئ لذة القراءة، ومتعتها.. وقد آمن الكاتب بأن القصة القصيرة جدا فن، وأن هذا الفن قوامه اللغة، فتحولت عنده إلى نظر وتأمل، ومساءلة واعية، وإدراك.
والمجموعة القصصية (صور من الأرشيف)، تمتاز بثلاث خاصيات:
* الكتابة والقصر.
* القصصية والحكي المختزل.
* المفارقة والإدهاش.
كما أنها تمتاز بخاصيات ضمنية لا تظهر إلا عند القراءة والتأويل.وهي:
– الجمالية والقصصية(السرد والسردية).
– التنويع في الموضوعات والتيمات.
– نقد وانتقاد المحيط وآلياته(البشرية والمادية).
وإذا ما حاولنا التساؤل حول الكتابة عند حسن برطال، نجد أن الكتابة عنده هي فعل لقراءة الوجود، والمحيط..هي عمل تواصلي لسؤال والتكشف، وإزالة المربك.. الكتابة عنده رسالة ذات شفرة خاصة. والقراءة المتكررة هي التي تفك ترميزها،وتسنينها. فحسن برطال بواسطة الكتابة يعيد بناء العالم، وتكوين واقع من خلال رؤية الواقع. كما أنها عنده إجابة على كثير من الأسئلة التي تشابكت في ذهنه، وفكره.
وفي كتابته الأدبية،يعي حسن برطال الكتابة،التي من خلالها يعي ذاته، وواقعه ومحيطه. وهذه الكتابة تجعله يتساءل دائما:» هل ما يقدمه لقرائه يمكن أن يعتبر حقيقة أدبا مغربيا جديدا،يضيق مسافات أبعد مما كاد يغامر في الأسئلة،ومستويات الكشف،والتأمل.كيف يمكن له أن يتميز عن آخرين(سابق- معاصر- وآت)..ومن قواعد الكتابة المألوفة (مغربيا- عربيا- عالميا)..وما حدود خروجه عن الشكل السطحي والرتيب(…)، أليس في هذا ما يربك القارئ،ويخل بأفق انتظاره،ويؤزمه» …كل هذا جزء من الكتابة التي قرر برطال المغامرة فيها.
وما يشد الانتباه، هو أن الكتابة عنده في مجموعته (صور من الأرشيف) هو انفلات من ربقة الموروث، ومن نير الكلاسيكية، وقوانينها الوثيقة.وهنا يطرح سؤال: هل الكتابة عنده متعة أم رسالة هادفة ومستهدفة؟.
إنها رؤية إبداعية خاصة بحسن برطال.يخلق فيها عوالمه، وكائناته وصوره. وعنده – أيضا – استلهام لكل ما يرى ولكل ما يسمع وسمع،ولكل ما يقرا وقرأ، يحوله إلى كتابة ذات دلالة، ومعنى،وفنية، وجمالية.
– واقعية عالمه القصصي، ووعيه المجتمعي:
إن حسن برطال ينظر إلى المجتمع كوحدة يعبر عنها،معتمدا على الإشكالية الفنية بدل الإشكالية الاجتماعية،ومقدما ذلك كله في أسلوب إشكالي يجسم فيه عيوب المجتمع ونقده.
وفي هذا الوعي يوظف فيه الضمير بكل تجلياته وتنوعاته،ليبين فداحة هذا الواقع،وعيوبه،والقهر الذي يمارس فيه. كما أنه يفقد الزمان والمكان أهميتهما، فيتلاشى الزمان ولا يظهر إلا في الصياغة الجميلة، وبنية الأفعال الموظفة. وهذا ما يخلق هذه الارتدادات المتعددة والمتكررة، ليخلق نوعا من إحياء الماضي أو تقدما إلى الأمام. وهو ما يشكل هذه الاستباقات والتي تتجلى في فعل المضارع، وأدوات المستقبل، التي ترتبط به. أما المكان فيفقد بريقه، لأن حسن برطال يهدف إلى الإبلاغ، والتلميح السريعين،وإلى موضوعية الحدث، وكونيته،وعدم خضوعه لزمان ومكان محددين.
إنه يصور علاقات إنسانية،واجتماعية،تسير الفعل الإنساني، والمجتمعي،وتساهم في سيرورته.فاللحظات مكثفة زمنيا،بالإضافة إلى مسحة السخرية التي تغلف هذه النصوص القصصية القصيرة جدا.كما نجد فيها تجاوزا للسرد الواقعي إلى السرد المشهدي، والاعتماد على الحركة، واللقطة القصصية المعبرة.
إن حسن برطال ينسج قصصه القصيرة جدا بواقعية مباشرة، يستهدف منها تعرية الواقع،ونقد المجتمع،ورصد معالم الانتكاس والتخلف،والقهقرة بأسلوب فني هادف.
لقد استطاع حسن برطال بثقافته، ومقروءاته، ورؤيته القصصية، والفنية،أن يصنع قصة قصيرة جدا،مواكبة لتطلعاته، وطموحاته. منسجمة مع رؤيته وتصوره الأدبي.
وهذه القصة القصيرة جدا، لا تبتعد كثيرا عن المجتمع والواقع.يكتب من الشارع ومن الحياة،ومن الناس،وليس من الأفكار.وهذا ما يميز القصة القصيرة جدا عنده .
صحيح،لا ننكر أن حسن برطال رسخ شكله الفني للقصة القصيرة جدا،واعتبره صيغة كبرى من صيغ التعبير في اللغة العربية.وجعل هذا الشكل القصصي الفاتن والأخاذ مستودعا للدفاع عن الإنسان وإنسانيته، وعن وجوده وكينونته. كما جعله رؤية من خلالها نرى هزات المجتمع وحراكه، وصمته ونطقه. ومن ثمة أصبح الأديب حسن برطال مجددا في ذاته،متنوعا في أسلوبه، متعددا في رؤيته،جماليا في كتابته،إشكاليا في طرحه، مختلفا في عوالمه. ولذا يصعب حصر القصة القصيرة جدا في حسن برطال واحد،بل في كتاب كثيرين، متعددين في كاتب قصة قصيرة جدا،وهو: حسن برطال.وبالتالي فهو يخلق تيارا أو توجها- إن صح لنا هذا-
لقد كتب حسن برطال لحد الآن أعمالا لفتت إليه الأنظار..ووضعته في طريق كتاب القصة القصيرة جدا في المغرب….وهذا يدل على عشقه للقصة القصيرة جدا،ولذا أعطاها من اهتمامه ووقته،ونفسه وحبه الكثير.وقد استطاع أن ينقل هذا اللون الأدبي في مساره الأدبي من الاهتمام إلى الكتابة الواعية.
والعجيب في كتابة حسن برطال،أننا عند قراءتنا لقصصه القصيرة جدا،نتكشف العالم،ونكتشف أناسه.وفي هذا التكشف،نقف إلى سلوكات الإنسان ومصائره،وأفعاله وعلاقاته.
صحيح، أن هذا العالم الفني أو القصصي الذي يقدمه ،ننظر إليه من زاوية،أي من زاوية الفن، والواقع،والصياغة واللغة. وهو يدفع بالقارئ/المتلقي إلى اكتشاف هذا العالم وإخراج مكنوناته من تحجبها، ويخرجها من انغلاقها،ومن صمتها إلى تفسيرها، وتجليتها. وهكذا يتكامل عمل حسن برطال والمتلقي، عن طريق الوسيط الذي يجمعهما معا،وهو النص القصصي واللغة. فقصصه القصيرة جدا،لغة تعبر عن المعنوية Meaning fulness، وهي محجبة في لغته. والقارئ من خلال التواصل مع هذه النصوص وقراءتها، يتكشف هذه المعنوية،وعوالمها من خلال الفهم والتفسير، والتأويل.
وتتميز القصة القصيرة جدا عنده بـ:
* المفارقة: فالمفارقة في أبسط صورها القصصية، جريان حدث بصورة عفوية على حساب حدث آخر هو المقصود في النهاية. أو هو تعرف الشخصية تعرف الجاهل بحقيقة ما يدور حوله من أمور متناقضة لوضعها الحقيقي.
والمفارقة صيغة بلاغية تعني:قول المرء نقيض ما يعنيه لتأكيد المدح بما يشبه الذم،وتأكيد الذم بما يشبه المدح.وفي القصة القصيرة جدا لعبة فنية أو تقنية قصصية لا غاية لها إلا الخروج على السرد،وهو خروج يبعث على الإثراء والتشويق .
ويرى الأستاذ محمد غازي التدمرني في مقاله الالكتروني (عناصر القصة القصيرة جدا)، أن المفارقة، هي العنصر الأهم في بنية القصة القصيرة جدا، لأنها الحامل الأهم في تحريك كمون شحنة اللغة باتجاه الفعل الذي يحرك بدوره أنساق الدلالات بهدف الانتقال من الانفعال إلى الفعل،مشكلا حركة تصادمية تسعى إلى تعميق إحساس المتلقي بالأشياء المحيطة به. لذلك كان من وظائفها التقنية، تشكيل الصدمة الإدهاشية.
وعندما نقرأ قصته (والتعاقد قبل 63 سنة)، والتي يقول فيها: «الأعضاء يبحثون عن (الحل) الذي يرضيهم جميعا..ولما وصل المكتب إلى (الحل).. هذا لم يرض أحدا» (ص:70).
نجد أنها تقدم صورة مجتمعية وإنسانية،تجسم تضارب المصالح الخاصة وانعدام الخدمة للصالح العام..والتفرقة والاستفراد بالرأي.والقارئ عند بداية قراءته لها،يرتب صورها. فيرى أن الأعضاء في بحثهم عن الحل سيصلون إلى حل توافقي.. لكن يصطدم بالواقع حيث أنهم حتى الحلول التي توافقوا عليها لا ترضي أحدا.. وبالتالي تبقى التفرقة سائدة..
فالمتلقي مع بداية القصة كان يتوقع نهاية سعيدة..ووضع افتراضات واحتمالات، وأنشأ عوالم ممكنة لهذه النهاية.لكن جاءت مخيبة لتوقعه، وأفق انتظاره. لقد جاءت صادمة، وإدهاشية. وهذه مفارقة لم يكن يتوقعها المتلقي/القارئ.
* اعتماد الجمل القصيرة:قصص حسن برطال القصيرة جدا، تمتاز بجملها القصيرة جدا، والتي لا تتعدى الأساسيات الإسنادية. فأحيانا لا تتجاوز الجملة كلمة واحدة، أو كلمتين.كما في قصة (الخط العربي، والتي يقول فيها: اختار أجمل الخطوط، الديواني، العثماني، الرقعة، وزركش دعوتها الخاصة..أما هي، فاختارت الخطوط الجوية ثم اعتذرت»(ص:98).
* إهمال الروابط:لقد جاءت بعض قصصه القصيرة جدا خالية من الروابط،وبذلك حقق ملمحا بلاغيا هو:الفصل.كما في قصة(صورة من الأرشيف- مركز تحاقن الدم- تبا للنظام – المخرجة- ساعة الحسم- المغضوب عليهم- الققجي- قيس بوك-): «الشاعر مدح، تغزل لكنهلم يختم كلامهب(ما شاء لله).. ليلى تصيبها ضربة (عين)» (قيس بوك، ص:97). فهذا النص القصصي خال من الروابط (حروف العطف). وقد جاء النص متسقا، بليغا، قويا في معناه، وصوره.
* الترميز: إن قصص حسن برطال القصيرة جدا، تمتاز بترميزها. وقد اتخذ ذلك تقنية لتحقيق مجموعة من الأغراض. كما أن اختياراته المرموزاتية تنم عن غنى. وجعل في نصوصه مفاتيح وإشارات وتلميحات حتى لا تتحول هذه الترميزات إلى إغماض يحول النص القصصي إلى تلغيز يصعب حله.
ومن الترميزات التي نجدها في المجموعة القصصية (صور من الأرشيف)، ما ورد في القصة (لبن بالتراب)، «تسلل ليلا إلى الحظيرة،وسرق الأبقار ثم(حلب)»(ص:87)
* الأنسنة: إنها وسيلة يلجأ إليها الكاتب لإعطاء كل ما يحيط بالإنسان في عالمه من حيوانات ،ونباتات،وجمادات صفات إنسانية،كالنطق والرؤية،والمحاورة، وزرع الحياة فيها.
ففي قصة(الحجة الأولى)، والتي يقول فيها:»حول الجبل حممه البركانية إلى (جمرات) ثم رمى» (ص:46).
ففي هذا النص، نجد أنسنة للجبل وهو جماد،حيث أعطيت له صفات إنسانية.فهو له القدرة على تحويل حممه إلى جمر ثم القذف به بعيدا ..وهذه كلها قدرات إنسانية اتصف بها هذا الجماد الذي هو الجبل.
* البداية والنهاية:نجد حسن برطال يولي عناية كبيرة لبداية قصصه، أو افتتاحيتها l’incipit، فجل بدايات قصصه مقنعة،مثيرة،وجاذبة للمتلقي. وحضورها يخدم عموم القصة. وتختلف البداية من قصة إلى أخرى من حيث الطول والقصر..إما وصفية أو تمهيدية، تقديمية أو موضحة،تفسيرية..تقريرية أو وصفية،إنشائية أو خبرية.
أما النهاية/القفلة، فهي فنية، ذات مفارقة صادمة، وإدهاشية في غالبها، ومخيبة لأفق انتظار المتلقي.. محفزة على السؤال والتأويل.
* القصصية:إن القصص القصيرة جدا عند حسن برطال،لا تخلو من أحداث وحكاية، وفعل درامي. وهو يعي أن كتابته بدون قصة لا يمكن لها أن تكون.وستصبح كتابته حينها مجرد إخبارات. ولذا بقي في كتابته محافظا على قصته. ومن ثمة نجد في قصصه القصيرة جدا توظيفا للوصف المختزل، وتوالي الأحداث، وتحاور الشخوص..» لكن الحدث لا يرحل عن قصته، يلجأ أحيانا إلى موازنات بين ما كان وما سيكون. لكنه لا يخل بأسس قصته، يستفيد من السببية والتتابع، وتلاحق الأحداث. ويصف الحالات المتطورة عبر بناء لا يمكن حذف شيء من كلماته.ويحاول أحيانا قول ما يريده بسرعة، بأقصر الطرق، وينقل أحداثه نقلات سريعة. يفاجئنا في البداية بصدمة، ويختم بصدمة.ومن الصدمتين تولد مفارقة ومفاجأة، ومن ثمة إدهاش».
* التناص: وظف حسن برطال بعض التناصات في مجموعته القصصية (صور من الأرشيف). فنجد توظيفا للشخصيات التاريخية القديمة، كما في قصته (قيس بوك) و(جنت على نفسها براقش)… ونجد تناصا أدبيا من خلاله يتم استحضار بعض العناوين الأدبية، كما في قصة (خيوط متشابكة – سرير الدهشة – عنق الزجاجة – صندوق العجب- السنوات العجاف- قارعة الوجدان- بنت الراعي- صلاة الغائب)،وهي تذكرنا بمحمد محقق،والبشير الدامون،وانيس الرافعي وميلود فرعون، ومحمد صوف، ونزار قباني، وسعيد العريان، والطاهر بنجلون…
كما نجد توظيفا للتناص الديني،المتمثل في التناص القرآني،كما في عنوان قصة (بأس شديد ومنافع – أمم أمثالكم – الموؤودة – الكوكب الذري- شهد شاهد من أهلها- مثل حظ الذكرين-)،.. كما يتم من خلال عناوين بعض القصص استحضار بعد الأشرطة السينمائية مثل:(دراكيلا- الإرهاب والكباب- فزاعة العصافير-مثلث برمودا-)..أو استحضار أغان شهيرة من خلال عنوان القصص (أنت قمر وأنا بشر- قارعة الوجدان- سوق البشرية)-
هذه الأشياء كلها مجتمعة تعطينا ملمحا شاملا عن فنية القصة القصيرة جدا عند حسن برطال.