القطيعة الرومانسية … في تاريخ الأدب العربي

 

عندما يشتد حبل الرمز ، ينظر الدكتور إحسان عباس إلى الإبداع من زاوية رومانسية ، بما هو التيار العربي الوحيد الذي أدخل الإحساس ، والشعور و المتخيل إلى عوالم الرواية و القصة والمسرح ، والشعر ، والفن الأدبي عموما؛ بهدف إعلاء الأنا، و تضخمها في مواجهة المتغيرات .
إن التحليل الذي كان يُنظر به إلى هذا التوجه، هو القطيعة الكلية مع السابقين ، وسابق السابقين ؛ لأن إحسان عباس كان على وعي تام بأن التراث العربي لم يستوعب قط ما جاءت به جماعة « يينا « ؛ المدينة الألمانية التي تأسست في القرن السادس عشر ، وكانت مهدا فتيا للرومانسية العالمية ، وما حيكت في سراديب الجامعات الجرمانية. فظل الأدب العربي يتعلق بأهداب وقشور أشعار غوته ، وفلسفة نيتشه لا غير . مما استدعى تغيير منحى اللاقط الهوائي نحو الرواد الفرنسيين والانجليز على حد سواء ، مع ألفريد دوموسي ، وألفونسو دو لامارتين وفيكتور هوجو ، وألفريد دوفينيي ، فضلا عن اللوردبيرون وجون كيتس ، وشكسبير ، وكولريدج وويردزورت وغيرهم كثير .
ولعل القطيعة المعرفية التي شهدها الأدب العربي ، كانت سببا مباشرا في تدهور الرؤية الفنية في إبداعاته. فالتيار الكلاسيكي كان ينتقد الواقع بشدة ؛ لأن الذات الجماعية هي المهيمنة ، والانتقالة السلسة من مرحلة إلى أخرى أمر فرضه التطور و الإبدال . ففي فرنسا ، مثلا ، كانت الحرب على أشدها بين تطلعات الفرنسيين، وبين فلول المقاومة الشرسة لكل ما هو جديد ، على أن يبقى المجتمع الفرنسي يتجرع الكلاسيكية في سبات مقيت . غير أن الثقافة العربية لم يكن مسارها كذلك ، فالنكوص والتراجع ، و الهدم والتخلي كان ميْسمها ، وإن كانت بعض الأصوات ترتفع هنا و هناك معلنة نشازها عن السائد . فالواحدية ، كما يقول أدونيس ، تغزو الفكر و الإبداع معا، مما أسفر عن انتقالها إلى مجالات حيوية في المجتمع ؛كالسياسة و الاقتصاد ، فظهرت دكتاتوريات تدين بالواحدية السياسية ؛تسوس الناس بالحديد والنار . فما كان أمام العقول العربية الطامحة إلى التغيير، والانفتاح على الحرية و الديمقراطية سوى الهجرة أو الانزواء خلف القضبان الحديدية .
إن جبران خليل جبران كان من بين رعيل الشعراء و الكتاب الذين أتقنوا حرفة الأدب ، وإن كان مؤسسا للرابطة القلمية، فإن إقامته في نيويورك لم تمنعه من مواكبة الجديد في الساحة الثقافية العربية ، وكان من بين المدافعين الشرسين على اللغة العربية، باعتبارها أرقى اللغات و أبلغها على الإطلاق أمام الزحف الممنهج للغة الإنجليزية . فاللغة العربية، كما ينظر إليها جبران خليل جبران، مشكاة ينبعث منها الضوء ، يضيء العتمات . ففي كتابه الأول المعنون ب « الموسيقى « ، الذي نشره لأول سنة 1905، أشار إلى مسألة أساسية ، تتمثل في اختراق الموسيقى لكل الأنشطة الإنسانية ، فالحب الرومانسي مرتبط، حسب جبران خليل جبران ، بالخفقان اللغوي و الموسيقي ، فارتبطت هذه الأخيرة باللغة و بالغناء وبالطرب . فالفيافي و الفلاة، و البيداء، يقول عنها جبران، عرفت ما يسمى بظاهرة « حادي العيس «، بما هو يحث الإبل على المشي الخفيف كلما شنَّف مسامعها بالمواويل الطروبة . واعتبر أن الموسيقى، أيضا، مصباح يضيء عتمة النفوس و ظلمتها، وينير وحشتها، فضلا عن أنها الواسطة، التي يغرد بها العصفور من على الشجر، أو الحكاية التي يحكيها الموج على أطراف الشواطئ الناعسة، أو ما تغني الجداول على الحصباء، أو ما يهمسُهُ المطر على أوراق الشجر.
هذه الخوارزمية الموسيقية تصاحب الإنسان منذ أن كان مضغة، وهو في اتصال مباشر مع جسد الأم عبر قناة الحبل السري، ينصت ويرهف السمع لدقات القلب في إيقاع شديد التكرار ، وفي تناغم تام مع ذاته الناشئة في مائها السلوي الذي يحيط به فيحميه من كل شيء إلا من النغم الطروب ، الذي يسافر عبر جُزَيْئات الماء؛ لأن الموسيقى تساعد الدماغ على إدراك الوعي القبلي بماهية الإقبال على الحياة الجديدة .
يظل جبران خليل جبران ، حسب محمد بنيس ، العتبة العليا في الرومانسية العربية ، بينما خليل مطران العتبة السفلى ، وبين العتبتين تضيع أحلام الثقافة العربية ومستقبل شعوبها … في وأدها الممنهج للمضغة التي أصبحت مفقودة في حلقة التطور و بناء الإبدال الثقافي العربي . ولعل انصراف الرومانسيين إلى تقليب عواطفهم ، وإثارة مشاعرهم وأحاسيسهم كان الهدف منه ، وبدون شك ، هو تقوية بنائها ، وتغذيتها من الداخل ، وطرد الكآبة و الحزن من النفس . فالتغيير حسب نيتشه ، لا يأتي إلا عبر هذه القوى الداخلية للمرء . فبالموازاة مع ذلك ، فكل شيء في منظورهم ، لا يستحق الوصف ، والمدح ، والبكاء مادام الإنسان متصحرا على مستوى الشعور ، و الإحساس ، والحب .
وما فرار الرومنسي إلى الغاب ، و بوحه المستمر للطبيعة ، لا يجيء إلا بمعنى البحث في أقنومها عن أسباب قوتها ؛ ليستمد منها أسباب الوجود ، وأسباب المواجهة بهدف تغيير الواقع، فضلا عن السير قدما بالشعب نحو الإبدال المنشود . ولعل الانتكاسة المعرفية و الثقافية التي عاشتها الرومانسية في البلاد العربية ، والتي أتت على الأخضر و اليابس ، كان لها الأثر الكبير في استفحال الفراغ ، والتصحر العاطفي .


الكاتب : ذ . رشيد سكري

  

بتاريخ : 25/04/2025