يشهد سباق التسلح في المنطقة المغاربية، تحولا استراتيجيا ملحوظاً مع الكشف عن مشاريع ميزانيات الدفاع لعام 2026، والتي تبرز انقساماً جوهرياً في العقيدة العسكرية بين الرباط والجزائر.
فبينما يتبنى المغرب استراتيجية «القوة الذكية» القائمة على التحديث النوعي والتكنولوجيا المتقدمة، تتمسك الجزائر بنهج «الردع الشامل» الذي يعتمد على التفوق الكمي والكتلة النارية الضخمة. هذا التباين، الذي سلطت عليه الضوء تحليلات حديثة، أبرزها تقرير لمنصة «Defensa» المتخصصة، لا يمثل خياراً عسكرياً فحسب، بل خياراً لنموذج الدولة نفسها.
تحليل مؤشر الاستدامة: عبء الـ 8.9 % على الميزانية الجزائرية
تكشف الأرقام الواردة في مشاريع قوانين المالية للبلدين لعام 2026 عن عمق التباين الاستراتيجي، خاصة عند مقارنة الإنفاق العسكري بالسياق الاقتصادي العام.
فقد خصصت الجزائر ميزانية دفاعية تمثل نسبة هائلة تقارب 8.9% من ناتجها المحلي الإجمالي و15.1% من ميزانيتها العامة للدولة. هذا الرقم الاستثنائي يضع الجزائر ضمن فئة الدول التي تخاف من التهديدات الوجودية، ويتجاوز بكثير متوسط الإنفاق في حلف الناتو (2%)، مما يترجم إلى تكلفة فرصة اقتصادية عالية جداً تحد من الاستثمار في قطاعات التنمية المستدامة.
في المقابل، يحرص المغرب على ترشيد الإنفاق ضمن سياق تنموي أوسع، حيث لا تتجاوز نفقاته الدفاعية حوالي 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي و7.6% من الميزانية العامة للدولة، بما يتوافق مع استراتيجية التحديث النوعي والقوة الذكية التي تتجنب الإحداث الهيكلي للاختلال الاقتصادي.
الفارق الجوهري: النوعية والسيادة الصناعية مقابل الكتلة والتبعية
يحدد تقرير «Defensa» بوضوح الفروقات النوعية التي تميز التسليح المغربي عن الجزائري، والتي تتجاوز مجرد الأرقام.
فمن حيث الخيار الاستراتيجي: يركز المغرب على بناء «قوة ذكية» ترتكز على التحديث النوعي، وتهدف إلى تقليل التبعية الخارجية عبر تطوير صناعة دفاع محلية. في المقابل، تتبنى الجزائر نهج «الردع الشامل/الكتلة» القائم على التفوق الكمي للحفاظ على ميزة ردع تقليدية.
وأما من جهة مصادر التسليح والتكنولوجيا: يعتمد المغرب على تنويع الشراكات (الولايات المتحدة، إسرائيل، تركيا، الهند) لنقل التكنولوجيا وبناء قاعدة صناعية متكاملة (تصنيع المدرعات والطائرات المسيرة)، مع تعزيز قدرات الاستخبارات الفضائية (الساتلية). بينما يرسخ التركيز الجزائري على التسلح الروسي التبعية العسكرية-الصناعية الروسية من خلال الإنفاق الفوري والصفقات السريعة.
المغرب: التزام تكنولوجي طويل الأمد
يركز النهج المغربي على بناء قدرة عسكرية مستقلة ومستدامة عبر خطة تمويل متعددة السنوات. فقد أقر مشروع قانون المالية لعام 2026 سقفاً إجمالياً لـاعتمادات الالتزام الدفاعية يبلغ 157.17 مليار درهم مغربي (ما يعادل حوالي 14.7 مليار يورو)، مقابل نفقات فعلية (اعتمادات الأداء) تبلغ 55.3 مليار درهم (حوالي 5.15 مليار يورو) للعام نفسه.
يسمح هذا هذا التوجه في الميزانية، بتمويل التحديث التكنولوجي النوعي المستمر للقوات المسلحة الملكية (FAR)، ودعم صعود صناعة دفاع وطنية من خلال شراكات هيكلية. كما أن الإشارة إلى تعزيز قدرات المركز الملكي للمراقبة الفضائية يؤكد نقطة تحول نحو استراتيجية «الردع الدقيق»، حيث يستثمر المغرب في القيادة والتحكم والتحسس عن بعد ISR) كعناصر تفوق نوعي غير مادي.)
الجزائر: تركيز على الكتلة الثقيلة والتبعية الروسية
في المقابل، تواصل الجزائر نهجها القائم على التفوق العددي (توازن الخوف). فقد خصصت اعتمادات أداء تصل إلى 3,205 مليار دينار (حوالي 21.1 مليار يورو)، واعتمادات التزام تبلغ 3,305 مليار دينار (حوالي 22.8 مليار يورو) لعام 2026. يركز هذا النموذج على النفقات الفورية والمشتريات السريعة للأسلحة الثقيلة والضخمة.
المثال الأبرز هو ترقب الجزائر لتسلم 40 طائرة مقاتلة روسية، تشمل 12 مقاتلة من طراز سو-57 (الجيل الخامس)، و14 مقاتلة من طراز سو-35، و14 مقاتلة هجومية من طراز سو-34 قبل نهاية العام. هذه الصفقة، رغم ضخامتها، ترسخ التبعية التكنولوجية والصناعية لروسيا، خاصة وأنها تعكس استراتيجية موروثة من العقيدة السوفييتية التي تفضل الكتلة على الابتكار، على عكس المغرب الذي يركز على التشغيل المشترك (Interopérabilité) ) مع الغرب وتحديث أسطوله عبر شراكات متنوعة.
النظرة المستقبلية: مساران متضادان يحددان مصير المنطقة
تُشير النظرة المستقبلية لهذا التنافس العسكري، إلى أن مساري المغرب والجزائر سيحددان بشكل حاسم التوازن الأمني والتنموي للمنطقة في السنوات القادمة.
فبينما يراهن المغرب على بناء قوة «ذكية» ومستدامة من خلال الاستثمار في التكنولوجيا، وتوطين الصناعة، وتكوين الكفاءات، وتعزيز التشغيل المشترك مع الحلفاء المتنوعين، فإن هذه الاستراتيجية توفر أساساً لـانفتاح تكنولوجي وترشيد اقتصادي. على النقيض، يرسخ النموذج الجزائري القائم على الإنفاق الكمي الضخم والاعتماد الكثيف على التسلح الروسي، نهجا يهدد بـتضخم أمني مثقل على الخزينة العامة ويزيد من التبعية العسكرية-الصناعية الأجنبية، مما يطرح تساؤلات جدية حول استدامة هذا السباق وآثاره على مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
الخلاصة: الغلبة بين «التكنولوجيا» و»الكم»
استنادا على المعطيات التي قدمها تقرير «Defensa» حول الفروقات العقائدية، فإن الغلبة في صراع محتمل لن تحسم بالحجم الإجمالي للميزانية، بل بكيفية إنفاقها وفعاليتها.
فالمغرب يراهن على نوعية النخبة وتكنولوجيا الفضاء والدفاع الصناعي الذاتي، وهي عناصر حاسمة في حروب العصر الحديث لضمان الردع الدقيق والمرونة اللوجستية. في المقابل، تراهن الجزائر على كمية الحديد وحجم القوة النارية المتدفقة من مصدر واحد، وهي استراتيجية قد تحقق نجاحات في صراع تقليدي محدود زمنياً، لكنها تواجه تحديات كبيرة في سيناريوهات الصراع الطويل الأمد تتعلق بالصيانة واستدامة الإمداد في مواجهة التبعية الخارجية. لذلك، فإن التكنولوجيا الموطّنة والذكاء العسكري (استراتيجية المغرب) غالباً ما تكون أكثر فتكا واستدامة من الكتلة النارية الضخمة (استراتيجية الجزائر).
(عن موقع Defensa ومصادر أخرى)

