الكاتب والناقد

هل يأخذ الكاتب دائما ناقده على محمل الجد؟ ألا يعتبره مبعوثا رسميا من «المؤسسة» مكلفا بمهمة اغتيال النص وتفريغه من أحشائه وإشهاد القراء على أنه كان يعاني من المرض والشيخوخة، وأنه لا يحسن التقيد بالقواعد، ولهذا يستحق موتا سريعا قبل أن يقع المحظور؟
لا شك أن الناقد يتعامل مع النص بوصفه إغراء لا يقاوم، وتبعا لذلك، فإنه لا يضع الكاتب إطلاقا في منطقة الأمان رغم أنه يصرخ في وجهه دائما: «قف مكانك أيها المتحذلق. لا تتحرك !».
لا يمكن الحديث عن أي خصومة بين الطرفين؛ فهما معا لا يحتاجان إلى أي فهم جديد للعلاقة بينهما. ذلك أنه بينما يسعى الكاتب إلى بناء نص بترتيبات غير مسبوقة، يعتقد الناقد بالضرورة أنه أكثر خبرة بهذه الترتيبات، وهو ما يفضي إلى العديد من المشاكل العملية. شعور بالتفوق والقدرة على كشف الخدع والزلات والأخطاء والهنات، أو في أحسن الأحوال، يبرز إحساس كبير بأن «النص وأحواله» ما هو إلا جزء ضئيل من ذخيرة الناقد، وأن الكاتب ليس له أي مكان يقصده إذا لم يحصل على «الصك النقدي» الذي يتيح له عدم التبرؤ من مقتنياته. هذا هو وهم الناقد الذي تغذيه مؤسسة القتل غير الرحيم. أما وهم الكاتب، فيجذب الانتباه بتناسيه الغريب لقضية الوظائف، والمهمة الموكولة للنقد بوصفه راصدا لمراكز التحول، وآلةً مبددة للدخان.
يجبر الكاتب نفسه على الاعتقاد بأن الناقد تابع أهبل أو «كاتب فاشل». مجرد زائدة دودية لا نفع منها، ولا تستحق سوى الاستئصال. لا يحتاج الكاتب إلى حَكَم أو وسيط بينه وبين القارئ، ولا يحتاج إلى من يدافع عن جدارته في القول الأدبي أو الفلسفي أو التاريخي أو العلمي. وهو، فضلا عن ذلك، غير مستعد لخلق أي سلطة ثقافية على ما يكتبه، لأنه يظن أنه يشرب من نبع الآلهة، ولا يحتاج إلى «أولياء» يربطونه بتحليلاتهم ونظرياتهم. لا يحتاج الكاتب إلى مشرحة، ولا لأي ميزان لعقله وقلبه وروحه. النقد يبطئ العمل، ويعرضه لعوائق ميكانيكية تتصل باللغة والفكر والتركيب. ضرورة الخضوع للمعيار هي التي تُشعر الكاتب، أي كاتب، بالضيق، بينما هو يفضل في قرارة نفسه الهيجان والتهكم ورمي الحجارة على هذا المعيار. يريد أن يصوب بنادقه على كل من يحاول حشره في دائرة فئران المختبرات. ولهذا، فإن أغلب الكتاب بارعون في وضع نصوصهم خارج النقد، بل إن «النقد الذاتي» و»كشف المرجعيات» بات صيغة مثالية في التجارب الجديدة لقتل النقاد. لعل هذا النوع من النقد هو النصير المنقذ من القوة الوحشية التي يتمسك النقاد بحيازتها.
فمع أن الناقد مسلح بالمناهج والنظريات والمعارف الأدبية والفلسفية، فإن الكاتب أصبح يحاربه في ملعبه ويجاريه في لعبته، ليس بإظهار الاستحسان أو الامتعاض من هذا المُكَوِّن أو ذاك، أو بالكشف عن هذه الخصائص الفنية والجمالية أو تلك، بل بإجادة الاختباء، وزرع الفخاخ في طريق الناقد الذي تعود أن يجده في الجوار.
في الكتابة الجديدة، الكاتب نفسه هو الناقد. لكنه يدرك، مع ذلك، أنه ليس الناقد الوحيد. هناك دائما نقاد يتطلعون إلى فضحه وإخراجه من ذلك العالم غير المرئي الذي يلوذ به. ولهذا يلجأ إلى إحراق جميع الأدلة، ويعتبر أن لهذا الأمر علاقة بغرفته السوداء. يتعمّد الكذب، ليس لأن «أخلاقه الأدبية» ليست في مستوى التقيد بالمنطق، بل لأن للنقاد ميلا كبيرا نحو التفوق، أو بالأحرى المبالغة في تعقيد «الحقائق النصية». هذا هو الالتباس القاسي الذي يجعل الكاتب يضع الناقد في مكان آخر من النص.
هنا، لا بد من طرح السؤال التالي: هل فقد النقاد كيفية التصرف أمام هذا المُتَغَير؟ هل مازالوا قادرين على التفكير النقدي في النصوص أمام الحوارية النقدية المكشوفة التي يقوم بها الكتاب؟ ألا يسعى الكاتب الجديد إلى تجريدهم على هذا النحو من سلاحهم وحجتهم ووظيفتهم؟ هل وجدوا نقطة ارتكاز جديدة تسمح لهم بالخوض في نشاطهم بالاشتراطات القديمة نفسها؟
لا شك أن النقاد يرغبون في الاستمرار، وأنهم قادرون على التأقلم مع الوضع الجديد. غير أن إنجاز ذلك يستلزم التخلي عن التحديق الطويل في النص قياسا إلى «المعيار»، وقياسا إلى «العبوس النظري». النقد الآن يحتاج إلى المرح وصرف الغيوم، وأن يكون أمام أي نص في أفضل حالاته، أي أن يدرك أنه ليس تمرينا تطبيقيا لمناهج ونظريات. باختصار يحتاج النقد إلى التواضع أمام النص وكاتبه، وأن ينظر إلى نفسه بوصفه «قراءة ممكنة» ليس إلا بدل الاستمرار في التعامل مع الكاتب بنزعة بطولية استعلائية، مما سيتيح له دون شك الشعور بالاتساع والحفاظ على التوازن وتجنب أخطار السقوط. هذا هو الرد المنطقي على اضمحلال الإيديولوجيات النقدية الكبرى لصالح نظريات التلقي.
وتبعا لذلك، علينا أن نستحضر أن الكاتب لم يكن إطلاقا خاوي الوفاض أمام الناقد. ويكفي أن نذكر أبو العلاء المعري وخورخي لويس بورخيس وخوليو كورثتار وإيطالو كالفينو وأومبرطو إيكو وميلان كونديرا وبول أوستر وريموند كارفر وعبد الفتاح كيليطو وجورج باطاي وأحمد بوزفور.. وغيرهم. كل هؤلاء يُحكمون سيطرتهم على الموضوعات، ويخرجوننا من**** «المشقة» حين يمارسون النظر النقدي في النصوص، ويجعلوننا ، عن عمد، ندرك ألا شيء أكثر ضررا من الوقوف خارج النص، وإسناد مهمة «التفسير» و»التأويل» إلى نقاد ينظرون دائما إلى موضوعهم بتجهم.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 12/02/2024