يُتيح تَتبُّع مُصنَّف «أدب الاعتقال» استعادة شريط الأحداث التي انتظمت في ما بعد في تعبير مُكثِّف: «سنوات الجمر والرصاص». تسترعي المُتتبع لهذا الصِّنف مُلاحظة أولية تُلخص في كلمة: «الوَفرة»، إن على المستوى الكمي، أو على المستوى النوعي…وهي وَفرة تشمل الإحالة على روايات، مجاميع قصصية، مذكرات، رسائل سجنية، خواطر ذاتية، وكتابات شَذرية…كُتبت باللغة بالعربية وأحيانا بالفرنسية، نُشِر بعضها هنا في المغرب، وأحيانا في فرنسا في العِقد الأخير من القرن الماضي.
يَتضمن أدب الاعتقال شهادات سياسية وحقوقية يُمكن أن تُقرأ بدلالتين أساسيتين:
أولا: من حيث المضمون: شهادات حيَّة حول تاريخ العنف والصراع السياسي؛
ثانيا: من حيث أشكال التلقي: إرادة مُعلنة لطي صفحة الماضي وبناء العدالة الانتقالية بين الدولة والمجتمع.
وبتعقب ذلك، نُسجِت حول المرحلة نصوص كثيرة، ألَّفها أحيانا، فاعلون سياسيون في شأن مذكرات سياسية، وأحيانا مسؤولون فرنسيون كتبوا عن لحظة الاستقلال، وأخرى ألَّفها مناضلون ينتمون إلى الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة، وصِنف آخر، تضمَّن اسهامات من طرف شخصيات قريبة من محيط السلطة كتبها ضباط مرتبطون بالأجهزة السرية، فضلا عن سلسلة حوارات مطولة تصدَّرت أعمدة الصحافة المكتوبة…وعلى أية حال، يعكس الاهتمام بالذاكرة والشهادة التاريخية أهمية هذا النوع في كتابة التاريخ القريب، ورغبة في دمج الذاكرة من أجل فهم ظرفية تاريخية جِد مُلتبسة وفارقة في فهم قضايا الحاضر.
من جهته، يَنخرط المؤرخ في هذا النقاش بشكل متردد، ويَرغب في نزع الصِّفة الميتولوجية عن عدد من الأحداث والفاعلين، ويُحذِّر من خطورة السقوط في اصطناع ميتولوجيات ورموز جديدة…ففي فرنسا مثلا، كان المؤرخ الفرنسي جيرار نوراييل قد انتقد بِشدَّة في كتابه «الأبناء الملعونون للجمهورية» مسألة بِناء رموز جديدة بقوله «إن التاريخ الذي يُقدَّم في التلفزيون ليس تاريخا، وإنما مشاهد من الذاكرة، إنهم مُتعهدو الذاكرة الذين يتحدثون في التلفزيون، هم أناس يصنعون روايات سردية بغرض سياسي، وليست روايات مبنية ومُفسرة لوقائع الماضي، وإنما مصنوعة للحكم على شيء ما».
بناءً على هذا الوضع، يُلقى أمام المؤرخ رصيد هائل من الوثائق والأرشيفات المتنوعة التي تُقرِّبه من تأويل تفاصيل التاريخ الراهن، لكن الأمر ليس سهلاً جِدًّا، ذلك أنه يقتضي تكوينا خاصًّا، واستضمارًا عميقا لمناهج وبراديغمات مُنفتحة على علم التحليل النفسي وأدب الاعتقال…وبالفعل، فقد انخرطت الجامعة المغربية، وخاصة كلية الآداب والعلوم الانسانية في الرباط في مناقشة قضايا التاريخ الراهن منذ بداية العِقد الماضي لمواكبة صخب النقاش السياسي والحقوقي الذي رافق تجربة التناوب التوافقي وتأسيس هيئة الانصاف والمصالحة وميلاد المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان…
وفي فرنسا دائما، أخذت الصحافة الفرنسية منذ الخمسينيات من القرن العشرين تُوجِّه أنظار القراء إلى ملفات حساسة ومسمومة مثل تاريخ العمالة الفرنسية المرتبطة بالاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، وجَرى في نَسْغ ذلك، إجراء حفر تاريخي في تفاصيل الذاكرة الموشومة بالألم الفرنسي.
في السياق ذاته، يقف الباحث في تفاصيل التاريخ الراهن عند تجاذبات الذاكرة والتاريخ، ومفارقة التناقض في إنتاج الذاكرة بين الفرقاء السياسيين، فهناك فاعلون سياسيون ينتظرون تدخل المؤرخ حينما يتم الحديث عن الوثائق الحساسة، لكنهم، لا يُعَبِّرون عن نفس المطلب حينما تنشر وثائق تدين ممارسات تيارات سياسية معادية…
إن مثل هذه الأمور هي ما يعقِّد مهمة المؤرخ، ويجعله في وضع التباس، ويُظهر تردده بين الرغبة في توضيح ملابسات الماضي، وبين هاجس حماية صورة «بعض الشخصيات المقدسة». فأحيانا، تُقْدِم بعض الدراسات التاريخية على نشر بعض الوثائق، بخصوص تاريخ الحركة الوطنية، مما يوحي أن الحديث عن بعض أفعال الحركة الوطنية يندرج ضمن الطابوهات أو المُحرمات…ومن شأن ذلك، أن يعصف بمفهوم «الحياد القيمي» الذي يتبناه المؤرخ.
أتاحت كتابة الذاكرة إمكانية كتابة التاريخ القريب، لأن السياق استدعى ذلك، وحدثت فيه معادلة العرض والطلب من أجل اكتشاف ملابسات التاريخ القريب، وتتبع قضية تعدد المَحكيات السردية التي بدورها تعيد إلى الواجهة إشكالية حرية التعبير كإشكالية حقوقية وسياسية.
يُضفي المؤرخ لَمسته المنهجية في إنتاج الذاكرة، ويُلِحُّ على إقران الشهادة المَحكية ضمن سياقات تأليفها ونفسانيات مُنتجيها ومواقع أصحابها…وينتقل بعد ذلك، إلى توضيب الشهادات التاريخية، والتوفيق بين نسيج المقتطفات المأخوذة من الشهادات، وبين شبكة الموضوعات التي تنسجم مع البناء الإشكالي للموضوع، ما دام الأمر، يتعلق بذاكرة مُثارة ضمن سياق معين ومحكوم برهانات سلطة الحاضر…
الأمر هنا، ينطوي على مفارقة كبرى: بين حاجة الدولة إلى استحضار التاريخ في لحظات الأزمة والانكسار، وبين هامشية المؤرخ في مواكبة النقاش العمومي كما يقول المؤرخ عبد الأحد السبتي. فهل حقق إذًا، التاريخ الراهن تراكمات إستوغرافية قد تُدخلنا غِمار توليد الدراسات التركيبية؟ أم أن الأمر، لا يعدو كنا يقول البعض باستراتيجية الهروب نحو الأمام، وبالأخص، من الاشكاليات المُلتبسة التي يطرحها «تاريخ الحماية» ومن «عُقدة التركيب» أساسا؟ وهل التاريخ الراهن يدخل ضمن التطور الطبيعي في شبكة البحث التاريخي بالمغرب، أم أنه انزلاق لا يزال محفوفا بالمخاطر والهواجس المنهجية؟ وهل يستقيم الحديث عن دراسات مَرجعية عن هذا التاريخ، أم أن البحث لايزال جنينيا لا يَسمح بتعقب ذلك؟ وأخيرا، وكيف يتأتى للمؤرخ أن يُقيم حوارا هادئا مع ذاكرة سياسية موشومة بالعنف والعنف المضاد؟
الكتابة التاريخية وأدب الاعتقال:تعدد المحكيات السردية

الكاتب : عبد الحكيم الزاوي
بتاريخ : 11/04/2025