الكتابة الروائية المغربية بين الوعي والتاريخ وسلطة المقاومة : رواية «العين القديمة» لمحمد الأشعري نموذجا 

 
تشكلت الرواية المغربية منذ بداياتها من أبنية مختلفة تراوحت بين الواقعية والتخييلية، وانفتحت في الوقت نفسه، نتيجة التحولات التي عاشتها الثقافة المغربية، على أسئلة راهنت في ظاهرها ومضمرها على الصراع الهوياتي، الذي كثيرا ما باركته الاتجاهات الإيديولوجة في البداية، خاصة  في سنوات الستينيات والسبعينيات، الشيء الذي حتم عليها أن تلتزم بتقلبات الهوية السياسية، والانتماء الإيديولوجي، والبحث في استشكال الإطارالعام للرواية، حيث تمكنت من تشييد بنى ورؤى الاختلاف والمغايرة، من منطلق مسايرة التحولات التي باتت تعرفها الكتابة الروائية على امتداد الوطن العربي، إذ أصبحت متراوحة في مكانها حينا، ومتجاوزة له حينا آخر، ويمكن ملاحظة العملية الإبداعية التي استدعت حضورالروائي في شتى المجالات، والعكس صحيح، ذلك أن سياق التجربة السردية في المغرب بالخصوص، ساهمت فيه ظروف ذاتية وموضوعية عند جميع الروائيين، الذين تحولوا من مجالات إبداعية برزوا فيها إلى مجال السرد، وهو ما سمح لهم بإثراء الخزانة المغربية بمؤلفاتهم الروائية، وغذوا الذائقة بالتنوع في الكتابة السردية، وفسحوا المجال للمتخيل الروائي المغربي آفاقا جديدة، استرفدت من معين التنوع والتعدد الشيء الكثير، ويمكن أن نشير في هذا الشأن إلى تجربة الكاتب الشاعر والروائي المتعدد المجالات الإبداعية محمد الأشعري.

 

الرواية بين الأنا والآخر:

يجترح الشاعر والروائي محمد الأشعري نصا روائيا مفتوحا على أسئلة اختلافية بامتياز، إذ يستحضر إشكال الهوية من خلال تأرجحها بين الأنا والآخر في الرواية، ويستثمر معادلا لها يتمثل في مفهومي الانغلاق والانفتاح. وباعتبار أن الرواية عمل يمكنه أن يستعيد التفاصيل الكائنة والممكنة، فإن الصوغ اللغوي يجعل منها مدونة قابلة لتخزين الموروثات في اختلافاتها السوسيو ثقافية وغيرها، بحيث إن هذه الأنا التي تمت مراودتها عن نفسها من طرف الآخر، الذي هدم مركزيتها دفعها لأن تمارس نوعا من المواجهة والمقاومة، وهو ما يبدو في الرواية، حين تتقاطع شخصية مسعود والآخر، وتصبح كل واحدة منهما إضاءة ومكملة للأخرى، و» لعل صوت الآخر المخالف لـ»أنا» الروائي إحدى أبرز جماليات الرواية التي أسسها الغرب، إذ يتم رسم الشخصية الروائية عبر رؤى مختلفة، فيعايش المتلقي تعدد أصواتها، أي وجهات نظرها، مما يضفي عليها حيوية وجمالا ويحقق انسجاما بين الشكل والرؤى والأفكار فيها، وبذلك يجذبه تنوع الشخصيات في آرائها وأهوائها، مثلما يمكن أن تجذبه أعماق شخصية روائية واحدة مضطرمة الأفكار والمشاعر، تتعدد رؤاها وتتغير بتغير الحالة النفسية والعمرية والثقافية..»1.
إن الرواية من هذا المنظور، لا تقتصر على ضبط إشكال العلاقة بين الأنا والآخر، بل هي أصلا تتقصى خصوصية الذاكرة التي جمعت أجيالا بكاملها في سياق واحد، ذاكرة تأثرت بثورة الطلاب سنة 1968، وأخرى وجدت نفسها مقابل واقع متخلف وأمي وعاجز عن التغير والتحول، هكذا « ينسج الأشعري إذن جدلية العلاقة بين السكيزوفرينيا الفردية والجماعية، التي تفرز في مظهريها حالة انفصال عن الواقع، وضبابية في الرؤية وتوترا مع الماضي وعجزا عن التصالح مع المستقبل. حيلة الأشعري في ذلك تحريك شخصية «مسعود» على درب حياة واقعية، وأخرى متخيلة، تفرز شخصية مضاعفة له، ندا ونقيضا، يسميها في النص «الآخر»، الذي يصبح مرآة مشوهة لمسعود، يحاورها ويناكفها ويحاول كسرها أحيانا»2، ومن ثم، كانت له رغبة في كل شيء، في أن يعيش حياته، أن يقتل، أن يفعل ما يراه ملائما لوعيه بمرحلته الملتبسة، فرغبته في القتل، والجنس، والكتابة، والسفر، تتأسس على ما يحمله من أسئلة اختلافية متنوعة، ولأنه شخص استثنائي يريد فهم ما يحيط به، فإن «أناه» الداخلية تجعله يتعرض إلى ما يلجم طموحه، وبذلك فإن « الآخر» يساعده على الامتداد في الزمان والمكان، « إنه مسعود القادم من قرية صغيرة، بندوب قهر لم تندمل من طفولة تعيسة، إلى الدار البيضاء، المدينة الغول، مهب رياح العصرنة والتحديث، انتقالا إلى فرنسا حيث يعايش ثورة الطلاب لعام 1968 بأحلامها وأوهامها، ثم العودة إلى البلاد من أجل «محاولة عيش» لا تلبث أن تصطدم باختلالات نفسية في ترتيب العلاقة مع الذاكرة والواقع والناس ومصير بلد يواجه عطبا بنيويا»3. وإذا كانت العلاقة بين الأنا والآخر قد مهدت الطريق لرباط بين الذات وخارجها، فإنها فوتت الفرصة التي كان من الممكن الاستفادة منها، إذ « لا يعيش كل من الغالب « الآخر» والمغلوب « الأنا» الزمن الحاضر، بل اشتباك الماضي والمستقبل، لأن الغالب لا يكتفي بمصادرة تاريخ المغلوب والتكلم باسمه، بل يذهب إلى ما وراء التاريخ، في حين لا يجد المغلوب طريقة يذود بها عن نفسه سوى اللجوء إلى وهم الماضي وأمجاده»4.
تتضح إشكالية الهوية التي يحاول السارد استقصاءها، من خلال آليتي الأنا والآخر في رواية «العين القديمة»5، وبالتالي فإن السارد يتأمل ذلك من خلال تصريح لمسعود قائلا:» نعيش كأننا في رواية. وليس في مدينة الدار البيضاء، « شخصيات من ورق» كما يقول النقاد، واحدة من مخلفات السبعينيات. عندما تتصل بي ابنتي منى لتسأل عن تفصيل من تفاصيل الحياة السياسية الجديدة، تجدني لا أعرف شيئا محددا، لا أعرف سوى التعليق، كل شيء يمشي في هذه الأرض يمشي بدوننا»6، وبما أن الرواية حاولت مقاربة هذه العلاقة في سياقاتها المتعددة، تاريخيا، ونفسيا، واجتماعيا، فإن حضور الهوية تم استنطاقه من خلال فعل الزمن، الزمن السياسي الذي قام بهاجس إرهاقه بإعمال كماشة السياسي وضغطها على الثقافي والنفسي، إضافة إلى الشعور بالخيبة والانكسار أمام السقوط في الإقصاء والإبعاد والحرمان، إنها ضريبة علاقتنا بالآخر، سواء كان من لحمنا ودمنا، أو من قارة أخرى، ومع ذلك، « لا تتضح ملامح الهوية من دون لقاء مع الآخر، إذ إن العزلة عنه، تجعلها ذات بعد واحد، فيسرع إليها العطب والجمود، في حين نجد اللقاء معه، يمنحها أبعادا مركبة، تنفتح على أكثر من عالم، ولكن هل تشكلت هوية «الأنا» في الخطاب العربي عبر لقاء الآخر أم عبر مواجهته؟ أم الإثنين معا؟ أليس هذا الآخر هو الغرب المتفوق المسيطر؟ ترى هل نستطيع أن ننأى بأنفسنا عنه؟ ألا نعيش أجواء حداثته، فنقطف ثمارها، على الرغم من توتر علاقتنا معه؟»7. إنها إذن مواجهة صريحة بين « الأنا» و» الآخر»، بين الذات وصورتها في المرآة، بين الكائن والممكن وتمثلات المجتمع، إنها « رغبات في الانتقام لطفولة مغتصبة، شعور بالعجز أمام فساد عام، غواية متجددة بارتكاب جريمة قتل .. قتل من؟ وماذا؟ التباس الحدود بين الذاكرة والرغبات المكبوتة التي يحاول استدراكها في خريف العمر، هكذا تتأرجح يوميات « مسعود» الذي يبحث عبثا عن أرض صلبة يقف عليها، ملفوفا في حالة فقدان للتوازن، خطرة وأمارة بالإقدام على أشياء غير متوقعة»8 .

جدلية الرواية بين سلطة المواجهة والمقاومة:

يتضح من خلال المكون الموضوعاتي الذي يحمل خطابا مفتوحا على عوالم متعددة، أن الرواية هي مدونة لـ»الوعي التاريخي أو»الوعي المنسي»9، بتعبير موكيش ويليامز، «فاستيعاب التاريخ بدمجه في الوعي اليومي لتجربة الإنسان العادية، وتقليص تفاصيل لا حصر لها لتجربة حياتية ما إلى خلاصتها، هما طريقتان توأم لخطابين سائدين عملا على نفي دور التاريخ في تشكيل التفاصيل والخلاصات على حد سواء. وكان هذا ما حدث ويحدث أحيانا الآن»10. وفي رواية « العين القديمة»، يمكن ملاحظة أن هناك تمثيلا يسعى إلى تحققات تفضح مكنون مضمرات، رسختها تمثلات واقعية أو وهمية على السواء، وبالتالي فإن هذا العنصر ليس، عند فوكو بالخصوص، «مجرد إنتاج لمعنى في سياق ثقافي معين، بل اعتبره إنتاجا للمعرفة ذاتها»11، بحيث نرى رغبة الروائي في بناء عالم تتصارع فيه الشخوص وطبقاتها، والقيم وتمظهراتها، والأفكار وتجلياتها في علاقاتها بين الأفراد والجماعات، ماهي إلا صورة تتفاعل فيها عناصر، بقدر ما تنفصل عن بعضها البعض، بقدر ما تتصل، وذلك نتيجة التوجه البنائي الذي يرومه الروائي، ويحاول مجاوزته، من خلال فكر مضمر جدلي وحواري، يتضمن قطائع بين المركز ومحيطه، والسيد وتابعه، لأن موضوعة المواجهة بين الروائي وعالمه/عوالمه، هي بالضرورة سلطة مقاومة بين الذات كدال والموضوع كمدلول، وفي الوقت نفسه، كلاهما يبحثان عن دلالة رمزية تتحقق بفعل علاقات القوة، من خلال استراتيجيات، و»يرى فوكو في السلطة/المعرفة، أنه ليس بوسع الجدلية ـ بوصفها منطقا للمتناقضات ـ أن تعمل لصالح كشف حقيقي للصراعات، ف»الجدلية» تعد وسيلة للتهرب من واقع لصراع مفتوح ومحفوف دائما بالمخاطر، وذلك بتخفيضه إلى مخطط هيجلي»12، إذ يصبح الوعي العام الذي هو في الأصل يخضع إلى سلطة التسييد، مقابل الوعي الخاص الذي تهدف الرواية إلى تفكيكه وإعادة ترتيبه وبنائه، فالأول ممثل لخطاب القوة، والثاني يحاول استئثاره بالفعل لمواجهة ما قد يحصل له من تبعات المتناقضات الآنية والمحتملة الوقوع، وهو أيضا خطاب رغبة مواجهة لصراعات أفكار وقيم، تتمثل في السفر أو الرحلة من اشتوكة أيت باها إلى الدار البيضاء، إلى مراكش، وأكادير، والرباط، وباريس، وهانوي، وروما، أو مقاومة مفارقة للذات ونقيضها، والمتجلية في حب الحياة والرغبة فيها، ونزعة القتل، أوالبحث عن الموت في الذات/الوطن وخارجها، في موت هيلين ودفنها في الفيتنام.
إن مؤشرات المواجهة والمقاومة، التي تستدعي صراعا غير متكافئ ومتجانس، لكنه يبدو متشاكلا، ويختزن أسئلة لا يمكن تقديم أجوبة عنها إلا بالاشتغال على الذاكرة، بحيث يصبح هذا الفعل يخضع إلى إعادة كتابة التاريخ، من خلال ممارسة التخييل، وهو ما يجعل رواية» العين القديمة» لمحمد الأشعري رد فعل قوي على حقبة بكاملها، أو جيل بكامله، أطل على الحداثة من منظور محافظ، وحاول أن ينفتح على ما بعد تحولات ماي (أيار) 1968 الثقافية، و1981 القمعية، الأولى مهدت لنهضة عقلانية وبشرت بتعاليم جديدة، خدمت المجتمع استراتيجيا، والثانية أوقفت المد التحرري العقلاني، ودفعته إلى الخسارة والخيبة، وإذا كانت الأولى قد انفتح فيها الخطاب الروائي على المستقبل، فإن الثانية انغلق فيها صوت المثقف ووعيه الممتد في الآخر، بحيث لم تعد المواجهة بين الذات والآخر، إلا صدى يكرر نفسه بين الفينة والأخرى، يقول السارد:» احتفظ مسعود من تلك الأزمنة الطويلة التي مر بها بحزن غامض، جعله أكثر انزواء وصمتا، وأحس فجأة ذات مساء وهو يهم بمغادرة الشقة بتعب شديد، يكاد لا يقوى معه على المشي، ولازمه هذا التعب أياما عديدة حتى استسلم للأمر، ولم يعد يغادر البيت، ثم لم يعد يغادر غرفته إلا لماما، كان الآخر يبذل جهودا مضنية، ليخرجه من الحالة، ولكن مسعود لم يكن يقوى على ذلك، ولم يكن يرغب فيه. كان مقتنعا بأن هذا التعب الشديد ليس تعب جسده فحسب، بل تعب روحه أيضا، فقد استهلك طاقة كبيرة في محاولة الخروج من نفسه والهرب إلى أبعد ما يستطيع، واستهلك طاقة أكبر منها في عراك قاس مع الوحش ومع الرغبة الجارفة في قتله. وهاهو الآن يرتاح من ذلك كله، يحاول أن يبني طاقة جديدة لا تتغذى بالرغبة في الفرار، ويلزمه العثور على مصدر كاف لهذه الطاقة» 13، هكذا يتجاوز النص سياقه، ويستبدله بانفتاحه على أفق تعتمل فيه شرارة الطاقة المشتعلة لتنتشر، لكنه دائما يصطدم بجدلية تتأسس على منطق تفكيك الخطاب المركزي وتقويضه، وذلك بوفرة أسئلة استشكالية، تبحث عن إجابات ناجزة لمعرفة حقيقية تؤطر صورة الإنسان، من خلال مواجهة نقيضه، وتمثلاته المترسبة في الذات، والجنس، والسلطة، والأشياء بمختلف مسمياتها، والمعرفة، والجسد، والإيديولوجيا، وكما أن منطق المواجهة يستدعي رد المقاومة، فإن التخلص من سلطة الذات، أو من إيروسية الآخر، تقتضي وضع هذه الثنائية بما فيها من خصوصيات هوياتية وجنسانية، ضمن نظام « فتح ثقافي يمنح استبصارات معرفية جديدة حول قبلية إنتاج الذات وصيرورتها، بوصفها أنا وهوية وكينونة، كما يقدم معاينة للدور الذي يؤديه الآخر في إعطاء إنتاجية الذات سمة تواصلية بعدية» 14.

معمارية الرواية: تجربة الكتابة الروائية واشتغال الوعي والتاريخ:

في رواية « العين القديمة» لمحمد الأشعري، تمتزج الكتابة الروائية بشتى صنوفها المعرفية والفنية ـ الجمالية، بالوعي والتاريخ، إذ أن التداخل الذي يتم بين شخصية مسعود والآخر، يمكنه أن يدفع بالمتلقي إلى عدم الفصل بينهما، إلا أن كل واحد فيهما إلا وله وظيفته واستطراداته، ومع ذلك نلاحظ أن الرواية مركزت تخييلها حول تجربة سردية تقاطع فيها هذان العنصران، الوعي والتاريخ، وباعتباراستحضار الوعي في الرواية من منطلق أن السارد مشارك في جميع أحداث الرواية ومساراتها، يوجهها، يبنيها، يراقبها، وله نزعة شخصية في تبني أفعالها وأقوالها، فإن مقابل هذا نجد السارد محايدا في بعض الأحداث، لا يريد الخوض فيها ولا يطمع في الاهتمام بها، وهو ما يمنح الرواية تنوعا سرديا مدروسا، وله غايات تؤكد المكانة التي يوليها الكاتب محمد الأشعري للنشاط السردي ككتابة تستفيد من التجربة الإبداعية المتنوعة لديه، أما بخصوص توطين التاريخ ضمن التخييل الروائي، فإنه استدعى، كما أسلفنا، أحداث 1968، ووقائع1981، بالإضافة إلى تجاهله وعماه على لسان السارد، الذي لم يعد يضبط تفاصيل ما وقع ويقع. يقول مسعود:» نعيش كأننا في رواية، وليس في مدينة الدار البيضاء، « شخصيات من ورق» كما يقول النقاد، واحدة من مخلفات ماي ( أيار)68، وأخرى من مخلفات السبعينيات. عندما تتصل بي ابنتي منى لتسأل عن تفصيل من تفاصيل الحياة السياسية الجديدة، تجدني لا أعرف شيئا محددا، لا أعرف سوى التعليق .. كل شيء يمشي في هذه الأرض، يمشي بدوننا»15، فحضور التاريخ وفق منظور مرجعي، من خلاله يستنبت الكاتب أغراس مشاتله المتنوعة، يوظفها لخدمة رؤيته المضمرة، والفاضحة بعض الأحيان للمسكوت عنه، وبهذا « تكمن المعاناة التاريخية للبطل في الرواية المغربية، أنه يظل يعيش على هامش التاريخ، أنه بطل يعرف ولكنه لا يستطيع أن يرهن ما يعرفه، وما يتبقى هو أن يحكي، وفي الحكاية والحوار مع الذات تنفيس عن المكبوت»16.
إن معمارية الرواية تنبني على جملة من التمفصلات، التي ترهن بناءها بتمثلات سياقية متنوعة ذاتية وغيرية، بالإضافة إلى تركيب تنضيدي يؤطر حكاية تتوزع أو تتوارى بين شخصيتين، « مسعود» و «الآخر»، فهذا التعدد الصوتي يستدعي مظاهر تلفظية حوارية، تستحضر مفارقات وأساليب تمثيلية تعتمد السخرية المباشرة، مثلا:» كان مسعود يسخر من هذه العجلة المفتعلة، ويعدها تعبيرا عن توتر مرضي .. التخلص من الماضي يقول مسعود ليس مسألة سرعة أو بطء، بل مسألة تصفية شجاعة للتركة، دون أي تنازل، ودون إرجاء للقضايا الشائكة .. طي صفحة الماضي فقط بالسرعة معناه بيع مستقبل مغشوش للأمة، ومعناه نية مبيتة للاحتفاظ بالماضي قوة احتياط للمستقبل»17، ثم رسمه المتنوع للشخصيات، من خلال مسعود، والآخر، ومنى، وهيلين، والمحامي، وعبد النبي، والفليبينية ماريا، إلا أن ما يثير في الرواية هو تبئيرها الفني والجمالي للتقابل المرآوي بين مسعود والآخر، وذلك كانعكاس يقوم على بناء رحلة بين الذوات وموضوعاتها، ومدى تحققات الأوقاع والغايات، وعلى الرغم من أن الشخصية قد تتحمل اسما حقيقيا أومستعارا، فإنها مع ذلك تؤطرالسياق، أو تكسر توقع القارئ، الذي  يطلب منه أن يتخذها كعلامة سيميائية تحتمل معان متعددة، ف « مسعود كان يضحك من هذا النزوع الدائم لصديقه للخروج من وجوده إلى وجود آخر، وهو الذي ابتكر له اسمه الحركي الذي لم يعد يعرف إلا به، «لاخر» الآخر الأبدي، المستحيل الممكن، الضروري الزائد، الناقص، وكلما ادعى الآخر أنه سيبيت في شأن وسيصبح في شأن، يضحك مسعود، ويقول إن الوجود هو هو، لا فكاك منه، حتى لو صرت شخصا آخر، فإنك ستكون الموجود نفسه، من المهد إلى اللحد»18، فالمنطق السردي، إن شئنا القول، لا يسير وفق خط واحد، أو يروم جيل الخيبة والأحلام المنقوعة. إن الكاتب حينما نتأمل روايته، نلحظ أنه يفتح مسارات على أسئلة واقعية وجيهة، تستثمر الاجتماعي والثقافي والسياسي والجمالي. « يحكي النص إذن انكسار ذات فردية، ومن خلالها حالة عطب جماعي. هذا الاختيار السردي طبيعي في نظر الكاتب، لأنه في أحيان كثيرة تكون الأعطاب الفردية عنوانا لأمر أوسع نطاقا، يحدث جزء منه داخل الفرد، لكنه يمتد أبعد في العلاقات الاجتماعية وفي التاريخ الذي نحمله معنا، غير أن الأشعري يود أن يهون من الحالة السوداوية التي قد تستقر في ذهن القارئ، صحيح أن شخصيات الرواية تواجه لحظات صعبة من مساراتها، لكنها تظل لحظات منتجة للحياة والفرح»19، لذلك يمكن القول، إن الرواية بقدر ما تستعير أقنعة تعبر بواسطتها عن هموم مرحلة، بقدر ما تفضح كل ذلك حين تعيد رسم الإطار وتقوم بتفكيكه، بحيث» إن السرد (والإنتاج التخييلي عامة) يعد تمثيلا لا ينتج الواقع كما هو، وإنما كما ينبغي أن يكون، لكنه إذ يفعل ذلك فهو يستهدف تجاوز نقص ما في الواقع، أو محو تهديده»20، وهو ما يلاحظ في طريقة العرض التي تقدم كشفا ومكاشفة للتاريخ الكائن مقابل الوعي بممكنه.

خاتمة

يمكن القول في النهاية إن الرواية العربية عموما، والمغربية خصوصا، استطاعت من خلال رؤيتها الحداثية وصوغها المفتوح على التقنيات السردية الجديدة، أن تخط لنفسها مسارا مختلفا في التجربة الروائية الحديثة والمعاصرة، وذلك بتفكيكها لأفكاراستأنست بها السردية التقليدية، وقوضتها من منظورات اجتهادات النظرية السردية التأويلية والتداولية، بحيث أصبحت الرواية تثيرالأسئلة أكثر ما تبحث عن الأجوبة، وهو ما نستنتجه في تجربة محمد الأشعري الروائية، التي راهنت في « العين القديمة» على تفكيك سلوك مرحلة بعينها، اتسمت بالعنف والعنف المضاد، وكسرت طابوهات أفكار كرست قيما لا إنسانية، ومارست إعادة تشكيل صورة مختلفة، تسترفد من معين أسئلتها الجديدة ما هو قمين ببناء هوية تمت مصادرتها، وإعطاء الحق للآخر في أن يعبر بدوره عن أناه دون إقصائه، ليترجم بذلك العلاقة غيرالمتكافئة بينه و بين الذات، وبهذا نستنتج أن الرواية بقدر ما حاولت أن تستجلي زخم محمولها الثقافي، لتدعم به نسق مواجهتها للآخر ومقاومة سلطته، بقدر ما بنت متخيلها وأرست بواسطة اختيارات لغوية حوارية و أنماط أسلوبية تمثيلية، خطابا مغايرا اختزل معاناة الإنسان المعاصر وهو يحاول أن يتحرر من عزلة أناه وتشظيها، مقابل صراعها مع الآخر الذي يحتل مساحة كبرى في شسوع تغوله المركزي. إنها رواية تكسر أنموذج الأنا في السردية العربية الحديثة والمعاصرة وتعري عن صورة الآخر الذي ما فتىء يقوض علاقات الأقليات القائمة على أساس العرق والثقافة الوطنية والهوية والانتماء.

هوامش

1 ـ ماجدة صمود. إشكالية الأنا والآخر (نماذج روائية عربية) عالم المعرفة. 398. مارس 2013. صص 28 ـ 29.
2 ـ3ـ نزار الفراوي. «العين القديمة» للأشعري رواية لجيل الأحلام المكسورة بالمغرب. https://www.aljazera.net
4 ـ ماجدة صمود. إشكالية الأنا والآخر. مرجع سابق. ص21.
5 ـ محمد الأشعري. العين القديمة. منشورات المتوسط طبعة1. 2019.
6 ـ نفسه. ص62.
7 ـ ماجدة صمود. إشكالية الأنا والآخر. م س. ص17.
8 ـ نزار الفراوي. « العين القديمة» للأشعري رواية لجيل الأحلام المكسورة بالمغرب. مرجع سابق. ن ص.
9 ـ 10 ـ موكيش ويليامز. التاريخانية الجديدة والدراسات الأدبية. ترجمة سناء عبد العزيز. فصول. المجلد25/3 العدد 99. ربيع 2017. ص339.
11 ـ نفسه. ص 336.
12 ـ نفسه. ص337.
13 ـ محمد الأشعري. العين القديمة. م س. ص167.
14 ـ نادية هناوي سعدون. الهوية بين التقويض والكبح. استبصار نقد ثقافي في أركيولوجيا ميشيل فوكو. الجنون والذات طرازا. فصول. مرجع سابق. ص 104.
15 ـ محمد الأشعري. العين القديمة. م س. ص62.
16 ـ محمد الدوهو. مدخل إلى خطاب الكتابة والذات في الرواية المغربية. آفاق.79/80. دجنبر 2010. صفحة 65.
17 ـ محمد الأشعري. العين القديمة. م س. ص 150.
18 ـ نفسه. صص 47 ـ 48.
19ـ  نزار الفراوي. « العين القديمة» للأشعري رواية لجيل الأحلام المكسورة بالمغرب. مرجع سابق. ن ص.
20 ـ عبد الرحيم جيران. الهوية والسرد ملاحظات أولية. فصول. الهيئة المصرية العامة للكتاب. العددان87/88. خريف2018 شتاء2014. صفحة 120.


الكاتب : محمد صولة 

  

بتاريخ : 17/09/2021