الكتابة النقدية عند رولان بارت (2/2)

3. الكتابة الأدبية كإبداع مغاير يسائل اللغة والواقع

يرى رولان بارت الكتابة باعتبارها وظيفة بين الإبداع والمجتمع، وهي أيضا اللغة الأدبية التي تحولت بمقصدها الاجتماعي والإنساني المرتبطة بأزمات التاريخ الكبرى. والكتابة هي أيضا طريقة للتفكير حول الأدب لكنه غير قادر على تحوير معطيات الاستهلاك الأدبي وتجاوزها باعتباره غير مسيطر عليها، لكنه قادر على انتقادها. كما تنشأ الكتابة حسب بارت من المجابهة بين الكاتب ومجتمعه، باحثا عن لغة ينتجها بحرية. إن الكتابات الممكنة لكاتب ما، لا تتأسس إلا تحت ثقل التاريخ والأعراف. وهي أيضا تلك المصالحة بين الحرية والذكرى. لا تدوم إلا لحظة من أكثر اللحظات جلاء لأن التاريخ هو قبل كل شيء اختيار وفي نفس الوقت حدود هذا الاختيار.
وهذا ما يبين تعارض الكتابة الكلاسيكية والمحدثة كتعبير عن تشظي الكتابة الفرنسية، نتيجة تناقض بنيتان اقتصاديتان وانعكاس ذلك على الوعي والكتابة الأدبية. وهذا ما جعل كتابة كل من بالزاك وفولتير مختلفة بالرغم من انتمائهما لنفس المدرسة الواقعية في القرن التاسع عشر.
يتناول بارت بالتحليل في الفصل حول “كتابة الرواية” من كتابه “درجة الصفر في الكتابة ”علاقة الرواية بالتاريخ واعتمادهما على السرد للتعبير عن لحظة تاريخية بحيث يقول: “فالسرد باعتباره شكلا امتد إلى الرواية والتاريخ معا، وقد وقع الاختيار عليه ليكون معبرا عن لحظة تاريخية.” ص. 40. كما يبين أهمية استعمال الماضي البسيط لسرد الأحداث والوقائع في السرد. إنه الزمن الذي يجعلنا نصدق ما يقع وما يحدث ويضفي على المتخيل ضمانة الواقع الصورية. إنه في نفس الآن محاكاة وزيف وعرض الجوهر بطريقة مصطنعة.
ويستعمل السارد أيضا ضمير الغائب الذي يجعل السرد موضوعيا في التعامل مع الشخصيات والوقائع. وهو التجلي الشكلي للأسطورة للتعبير عن الكمال. إنه أكثر من تجربة أدبية، وكفعل إنساني يربط الإبداع بالتاريخ والوجود. إن ضمير الغائب هو انتصار على ضمير المتكلم بمقدار ما يشكل حالة أكثر أدبية وغيابا. يزود القارئ للنص الروائي بطمأنينة التخييل القابل للتصديق على الرغم من زيفه الظاهر على الدوام. أما ضمير المتكلم فهو أقل روائية.
لكن ابتداءا من سنة 1850 سيؤدي التطور الصناعي الذي سيعرفه المجتمع الفرنسي إلى الانقسام في الوعي الاجتماعي والفكري والأدبي، ولم يبق الكاتب البورجوازي هو وحده من يعبرعن المجتمع وقضاياه. فتعددت بذلك الكتابات الأدبية بخلفيات متعددة. يقول رولان بارت:
“منذ مئة عام رسم بعض الكتاب: فلوبير، مالارمي، رامبو، الاخوين غونكور، السورياليون، وما يزالون يرسمون بعض المسارات لإدماج اللغة الأدبية آو تفجيرها أو تحييدها… وما تعرضه الحداثة للقراءة في تعدد كتاباتها هو هذا المأزق الخاص بتاريخها.”[10]

4. البحث عن لغة أدبية جديدة

لقد قام رولان بارت بتفكيك الكتابة البورجوازية القائمة على صناعة الشكل وقدم لنا نماذج من الكتاب الذين تعاملوا مع الكتابة كحرفة أو زخرفة كغوتييه وفلوبير وفاليري وأندري جيد وملارمي. وكانوا يقضون وقتا طويلا في تجويد الشكل، عبارة عن كتابة معيارية تخضع لمجموعة من القواعد التقنية التي تنظم السرد.
ويتناول الناقد الواقعية الاشتراكية في الأدب ويستنتج أنها لم تستطع أن تقطع صلاتها بالكتابة البورجوازية وخاصة على مستوى الشكل، لأن الواقعية الاشتراكية الفرنسية تبنت الواقعية البورجوازية. وذلك باستعمال لكل آليات الدلالة القصدية للفن وعدم ابتكار كتابة جديدة. لكن يمكن التساؤل: ألا يشكل الأدب الملتزم لجون بول سارتر و أندري مالرو وكتابات لويس أركون، كتابات واقعية مغايرة تعبر عن الواقع والإنسان المضطهد في المجتمعات الرأسمالية؟
إن الاهتمام بالشكل الأدبي والاشتغال عليه بكثافة من طرف الكتاب البورجوازيين أمثال أندري جيد وفاليري وملارمي لم يسمح بإبداع لغة أدبية جديدة وجعلها متعالية على التاريخ. لذلك يقول رولان بارت:
“إن الفنون الأدبية تهدد كل لغة أسست على غير الكلام الاجتماعي الصرف.”[11]
وهذا ما يجعل اللغة الأدبية التي لا تعالج الواقع شكلا ومضمونا هي لغة بدون عمق باعتبارها تدعي الحياد والغياب، وتعبر عن نفسها ككتابة بيضاء تمثل درجة الصفر من الكتابة. إن هذا النمط من الكتابة هو تعبير عن أزمة الوعي البورجوازي وتمزقه في التعبير عن ذاته، بحيث يؤكد الناقد:
“إن الكتابة البيضاء – كتابة كامي أو بلانشو أو كايرول مثلا، أو كتابات كينو المحكية- هي الحلقة الأخيرة من آلام كتابة تتبع خطوة خطوة تمزق الشعور البورجوازي.”.

خاتمة: الكتابة النقدية عند رولان بارت

شكل رولان بارت منعطفا نقديا حاسما في تطوير النقد الأدبي وفق قراءة معاصرة جديدة. تتوخى تجاوز النقد التقليدي الكلاسيكي الذي كان سائدا في الساحة الأدبية والأكاديمية. ولذلك خاض معارك نقدية وفكرية لترسيخ روح البحث العلمي والنقدي وفق رؤية جديدة، تستند لمرجعية نظرية ومنهجية جديدة لتحليل النص كبنية دلالية ورمزية بأدوات سيميائية. تسائل الأبعاد المتعددة للنص وتفاعلاته الداخلية والخارجية مع بنيته السوسيو ثقافية.
وقد ترك الناقد إرثا نقديا غنيا تنظيرا وممارسة وتطبيقا، مساهما بذلك في الحركة الفكرية والنقدية التي عرفتها فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين والتي عملت على إعادة قراءة النصوص المؤسسة للفكر والأدب الغربي في أفق نقده وتطويره، بمساءلة الأنساق الفلسفية والفكرية والنقدية، وطرح بدائل نقدية لعالم كلاسيكي أصبح متجاوزا بسبب أزمات الوعي البورجوازي وأنساقه الثقافية.


بتاريخ : 16/07/2025