لا يحمل الكُتاب الأرغونيون أي ادعاءات زائفة. يعملون وفق خطاطة ثابتة، وأقصى طموحهم هو أن ينجحوا في الترقيع وطمس الأصل
للظفر بـ»جزة الصوف الذهبي»، يلجأ العديد من الكُتّاب، طولا وعرضا، إلى حصر الأسلوب، الذي يعتمدونه في نصوصهم، في مبدأ التعويض التدريجي للقطع البالية أو المتآكلة، بحكم أنهم يؤمنون بألا شيء يولد من العدم، وبأن لكل شيء ثمين قالبا أو نموذجا أول ينبغي اقتفاؤه، أو تقليده، أو حتى استنساخه. ولعل هذا ما ينقله رولان بارث حين يتحدث عن «سفينة آرغو» (سفينة كان الآرغونيون يعوضون شيئا فشيئا كل قطعة منها، إلى أن حصلوا في النهاية على سفينة جديدة بالتمام دون أن يُبَدِّلوا شكلها واسمها).
إن هؤلاء لا يحاولون إطلاقا تخطي أبواب النماذج القائمة. لا يحاولون الخروج إلى الردهة الخلفية أو الحديقة الأمامية للنموذج. لن نتحدث عن الجبال والبراري والغابات والبحار وأعماق الأرض. يختارون أفخم النماذج وأقدرها على لفت الانتباه، ثم يشرعون في العمل بصبر وأناة ووثوق، غير منشغلين بالشكل أو قلقين بشأنه، لأنه مُؤَمَّنٌ ومصادق عليه. يعملون دون أن تعتريهم أي شكوك. أفكارهم غير مشوشة ولا يريدون التعبير عن أي شيء، وكأنهم مقتنعون على وجه التمام أنه «ليس في الإمكان أبدع مما كان». يكتفون بترقيع النموذج المضمون، ويشيحون بوجههم عن أي مغامرة تضعهم في مواجهة التدمير الشامل.
يسعى الكتاب الأرغونيون بكل رباطة جأش إلى ترويض أنفسهم على عدم الثقة بالأشكال المبتدعة وضروراتها القاسية، وعلى تجنب تجريب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت. أليست كل بدعة ضلالة؟ أليست الغاية من «الإبحار» في الكتابة هي الجائزة (جزة الصوف الذهبي)؟!
إن النموذج، الذي يضع أمامه سلفا كل احتمال، هو الذي يمنحهم الدافع للاستمرار. وتبعا لذلك، فما يهمهم هي أساسيات استنساخه بإتقان، ومحاولة الإيهام بأنه شكل جديد، علما أن «سفينة آرغو» تظل في كل الحالات هي «سفينة آرغو»، رغم التحول الذي قد يطرأ على المحتوى. إنها ليست جديدة إطلاقا. قد تتغير الشخصيات والفضاء والتفاصيل. غير أن تصميم البناء لم يتحرك قط، ظل هو نفسه. لم يكن الوقت يسمح ببناء سفينة أخرى غير مدربة على الإبحار، فكان الأسلم الاستغراق في تغيير قطع السفينة تدريجيا. تُنزع القطعة الواحدة ثم تُعوض بأخرى، إلى أن يتم «تعويض» جميع القطع. وهكذا يستطيع الأرغونيون التغلب على مصاعب الطقس السيء.
لا يحمل الكُتاب الأرغونيون أي ادعاءات زائفة. يعملون وفق خطاطة ثابتة، وأقصى طموحهم هو أن ينجحوا في الترقيع وطمس الأصل. ليسوا مضطرين لتغيير الإحداثيات أو الاهتمام بالإشكالات المرجعية لكتابة «نص ناجح». وهذا ما يفسر الوضع المتماثل للأعمال التي يكتبها الأرغونيون. يُوَضِّبُون جميع أغراضهم على مقاس النموذج، وتتكرر العملية إلى ما لا نهاية، في السرّاء والضرّاء، وفي كل الأوضاع. قادرون على إحداث التأثير نفسه بقناعة لا تتبدل، وميثاق ثابت يجعل من النموذج شيئا عظيم التميز.
إننا نشعر بأننا نتعرض لهجوم متوال وسريع كلما كنا بصدد قراءة عمل يعتمد كليا أو جزئيا على الخطاطة البوليسية. لا أحد يستطيع أن يقاوم جرعة الاهتياج العاطفي الذي يحدثه فينا التحقيق البوليسي. لزام على القارئ أن يتحمل الاشتباكات والفرضيات، كما عليه أن يختبر القرائن والأدلة. لا شيء ينقذه من التفكير في حل الألغاز والمنافسة على ابتكار الروائز. لن يغفو أمام ما يتم البحث عنه، ولن يجد نفسه إطلاقا في الجهة المقابلة. كل شيء/ جميع القطع تأخذ مكانها تدريجيا، ولا سبيل إلى فض التشابكات إلا بالتركيب التدريجي للعناصر والأشياء. الخطاطة المثالية لسحب القارئ وتنويمه وجعله يمضي معظم الوقت في تحريك القطع، بل مساعدته من بعيد على تحريكها وفق أفق يخالف توقعاته، على النحو الذي يرغمه على تقبل الأحداث بخضوع تام.
لن نبالغ في التبسيط إذا قلنا إن أبرز الأعمال الروائية قد وقعت في غرام «الخطاطة البوليسية»، واعتبرتها الطريقة السليمة لتحسين الأحوال. بل إن الأرغونيين حوّلوها إلى مَسْكَن مثالي ليشعروا بأنهم بحال أفضل. والسؤال هو: هل هذا يعيب الرواية؟ هل قدرها أن تخضع للاستنساخ لتجنب الأضرار الداخلية الممكنة؟
لمنطق «جزة الصوف الذهبية» دور كبير في لجوء «الكثرة» إلى الترقيع واقتراض الحبكة البوليسية وحقنها بقليل من الجنس والعاطفة والتاريخ والتعقيد السيكولوجي. هذا ليس عيبا. هذا سلوك تنكري لم يعد من الممكن تحاشيه، لأنه تحول إلى قاعدة فعالة لتحقيق الانتشار. إنه بمعنى من المعاني «زيت بروميثيوس» السِّحري الذي لا تؤثر القواطع في كل من طُلي به، أو هو الحبكة الثابتة التي تقبل التغير دون المساس بالاحتمالات التي تتيحها في جوهرها، ودون الإخلال بمنطقها الداخلي المغلق.
وإذا كانت كل القصص البوليسية حيوية وجذابة لأنها تحدثك بذكاء وتحقنك بجرعات متصاعدة من الإثارة، وإذا كانت حيوات الشخصيات ليست سوى مجموعة من التماسات المتشعبة التي تنمو تدريجيا، وإذا كانت طفراتها الحكائية تقوم أساسا على التلميحات المتذاكية والتخييل المنمق والسلوك الكتابي الهادئ وبعث الحياة في الأشياء الجامدة، فإن هذا لا يجعلها متهمة بـ»التعدي على حقوق الملكية الفكرية، كما فطن إلى ذلك إيطالو كالفينو عندما قارن بين رواية «تريسترام شاندي» للورنس ستيرن ورواية «جاك القدري» لدونيس ديدرو. وقال إن كلا الكاتبين استلهم صراحة «رائعة ثيرفانتس» (الدون كيخوتي)، أي ذلك الأنموذج العظيم الذي نطلق عليه «الرواية الصعلوكية» (علاقة الرفيقين: السيد وخادمه).
ومع ذلك، يبقى السؤال قائما: هل ترقيع «سفينة أرغو» يكفي لصرف الروائيين عن صنع سفن أخرى بتصاميم مختلفة؟ هل الحبكة البوليسية هي قدر الرواية الحديثة؟ هل هناك قوة قاهرة تجعل كل الروائيين أرغونيين؟