*يعتقد المؤرخ يوفال نوح هراري، مؤلف كتاب “سابينز-تاريخ موجز للبشرية”، بأن البشرية نجحت على مدى القرن الماضي، في عكس اتجاه تأثير الأوبئة والأمراض عليها.*
في مواجهة جائحة فيروس الكورونا، أو “كوفيد-19 “المستجد، بادرت العديد من الأصوات حول العالم، إلى إلقاء اللوم على العولمة، ويزعمون كل بحسب درجة وعيه وتكوينه الدراسي، بأن السبيل الوحيد لتفادي أزمة وبائية مشابهة، قد تعصف بالبشرية في المستقبلين القريب أو البعيد، في سيناريو قد يشابه كورونا أو يتجاوزه، هو العمل على صناعة صورة جديدة للبشرية، أو السعي وراء “تفكيك العولمة” أي مقاومتها، والحد من توسعها السريع، سواء ببناء الجدران العازلة، أو تقييد السفر، أو الحد من المبادلات التجارية.
الحجر الصحي المنزلي أو الطبي، المتواصل لفترة قصيرة معلومة المدة مسبقا، له القدرة على الحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، عاملا على تطبيق مبدأ “الانعزالية” على المدى الطويل، في أنواع من الحالات تتراوح ما بين الصعبة و الحرجة، قد يسببان انهيارا اقتصاديا دوليا او محليا، لن يكون بمقدوره توفير أي حماية ضد الأمراض المعدية، على العكس من سمات “التعاون” و “التكافل” الاجتماعيين، اللتين تعتبران اللقاح الأساسي والحقيقي للجائحة، أي للتصدي لها لأطول فترة ممكنة.
لقد قتلت الأوبئة على مدار التاريخ البشري، كما يعلم المؤرخون والمهتمون بالتاريخ ودارسوه، الملايين من الأشخاص حول العالم قبل عصر العولمة، تحديدا من القرن الرابع عشر الميلادي، الذي لم تكن تعرف فيه الطائرات والسفن السياحية، عصر ظهر فيه أشد الأوبئة فتكا في تلك الحقبة، والمعروف باسم “الطاعون الأسود” مرتحلا من الشرق الأقصى رفقة المغول، ومنتقلا إلى روسيا ثم إلى باقي دول أوروبا، مسفرا عن مقتل ما يفوق ربع سكان أوروبا، في حدود مئة عام من تواجده.
انتقالا إلى سنة 1520، في أمريكا اللاتينية، وتحديدا بدولة المكسيك، التي لم تكن على معرفة في تلك الفترة، بوسائل النقل الحديثة من قطارات و سيارات وحتى من الدواب، إلا أنه وبالرغم من كل هذا، عرفت هذه الدولة انتشار وباء الجذري، مخلفا مقتل ثلث سكان المكسيك، في مدة قصيرة لا تتعدى الستة أشهر، أما في عام 1918، فقد انتشرت سلالة خبيثة من الانفلونزا، في زوايا نائية من الكرة الأرضية، في بضعة أشهر من نفس السنة، مصيبة ما يفوق ربع الجنس البشري، ومتسببة في وفاة الملايين منهم، في مدة لا تتجاوز السنة الواحدة.
*”إن افضل دفاع للبشرية، ضد الفيروسات المسببة للأمراض و الأوبئة، يتمثل في المعلومة الصحيحة، أكثر من الحجر الصحي او العزلة الطبية”*
وعلى مدى القرن الحالي، أصبحت البشرية أكثر عرضة لموجات الأوبئة، من خلال الأثر المشترك لتحسن وسائل المواصلات والتنقل، علاوة على النمو السكاني المتسارع. فاليوم، يمكن لأي فيروس جديد، السفر والتموقع في أرجاء العالم، انطلاقا من درجة رجال الأعمال في الطائرات، وصولا إلى المقصورات الخاصة في القطارات و السيارات الفارهة، ما يمكنه من التموقع في وقت قصير في عدة بلدان، إما دفعة واحدة كحال آسيا مع كورونا، أو على فترات زمنية متقاربة كحال إفريقيا مع ايبولا، مصيبا الآلاف والملايين به في المدن، في مدة لا تتجاوز حاليا 24 ساعة، بيد أننا نعيش في جحيم من العدوى، المنتقلة من شخص لآخر.
إن حجم الأوبئة والأمراض عموما، لم يعد له أثر كبير على نفسية السكان، بل يمكن الجزم بأن أثرها النفسي آخذ في الانخفاض بشكل ملحوظ، خصوصا مع فيروسات، تعايشت معها البشرية، لمدة لا بأس بها من الزمن، كحال فيروسي “نقص المناعة المكتسبة” أو “الإيبولا”، والتي على النقيض من الفيروسات الأخرى، وبالرغم من عدد الوفيات الكبير بسببها، لم يكن لها أثر واضح إلا في القرن العشرين. لقد انتصرت البشرية، في حربها الضروس ضد الفيروسات المسببة للأوبئة، عبر الاستعانة بالمعلومة الطبية أو المعرفية الصحيحة، كالتحاليل المخبرية والعينات الأولية، أكثر من استخدام وسائل العزل والحجر الصحية.
شهد التاريخ البشري، في حربه الطويلة مع الأوبئة، ظهور مجموعة منها تميزت بقوتها الفتاكة، أكثر من بنات عمها من مسببات الأمراض، نخص بالذكر هنا جائحة “الطاعون الأسود”، التي عصفت بأوروبا انطلاقا من روسيا خلال القرن الرابع عشر، حيث أن سكان القارة العجوز إبان ظهوره، لم يكونو قادرين على تكوين فكرة واضحة بخصوصه، سواء بالنسبة لمسبباته أو طريقة العدوى. ففي ذلك العصر الأسود، ألقى رجال الدين باللوم على الساحرة والسحرة، وما نسب إليهم من طقوس السحر الأسود في الهواء، كما اعتبر آخرون أن الطاعون هو ابتلاء من عند الآلهة، فهم لم يشكوا أبدا في مخلوقات صغيرة تسمى “الفيروسات” و “البكتيريا”.
خلال القرن الماضي، ساهمت الثورة العلمية والفكرية، في توسيع نطاق التبادلات الفكرية والطبية، بين الأطر الطبية حول العالم، من تكوين ما يمكن تسميته ب”الخزانة الطبية العالمية”، مساهمة في تكوين وعي طبي ودوائي موحد، مكن هذه الأطر من فهم آليات عمل الأوبئة، وأعطاها القدرة من خلال قادة البيانات الضخمة، لصناعة وإيجاد سبل كفيلة لمكافحتها والقضاء عليها. يمكن اعتبار “نظرية التطور”، كواحدة من لبنات بناء الطب الحديث الغربي، في شرحها لكيفية بداية الأوبئة الجديدة، وكيف تتطور القديمة منها لتصبح أكثر ضراوة، وعلى غرار “علم الوراثة”، الذي سمح للعلماء بقراءة متعمقة وشبه شاملة، لكيفية إعادة استخدام مسببات الأمراض، وتحويلها لأدوات فعالة لمواجهة المستجد منها.
لم يتمكن البشر قديما، من بينهم سكان أوروبا في القرن الرابع عشر، أو العصور الوسطى، من اكتشاف مسببات وباء “الطاعون الأسود”، وذلك لعدة أسباب من بينها ضعف المجال الطبي، إلا أن الأمر مغاير في الوقت الحالي، فقد تمكن العلماء في ظرف أسبوعين، من تحديد تسلسل الحمض الوراثي لفيروس كورونا، والاطلاع على بنية الجينوم الخاص به، وتطوير اختبار مبدئي لتحديد المصابين به، ومشاركة ما توفر من معلومات عن بنيته الوراثية على نطاق واسع، لذلك أصبح من السهل فهم الفيروس المستجد ومكافحته.
لقد سمح التطور الطبي والمعرفي للبشرية، بتكوين حواجز وعقبات فعالة لمواجهة الأوبئة، سواء بالاستعانة باللقاحات أو المضادات الحيوية أو النظافة الشخصية، وأيضا من خلال تطور البنية التطبيبية التحتية، وزيادة عدد المستشفيات المتنقلة أو القارة، ما أكسب البشرية القدرة على مجابهة أعدائها المجهريين. فعلى سبيل المثال، فقد أصيب قرابة 15 مليون شخص بالجذري، كما بلغت الوفيات بسببه قرابة 2 مليون شخص. لكن، وبعد أكثر من عشر سنوات من نفس التاريخ، تزامنا مع حملة تطعيم واسعة للمرضى، أعلنت منظمة الصحة العالمية في 1980 قضاءها على الفيروس بشكل كلي، كما أن سنة 2019 لم تشهد أي إصابة أو وفاة بسببه.
قد يتبادر للقارئ السؤال التالي “ماذا يخبرنا أو يعلمنا التاريخ عن وباء كوفيد-19 الحالي؟”. أولا، أننا لن نحمي أنفسنا بإغلاق الحدود الدولية والمحلية على أنفسنا، بيد أن الجميع يعرف الآن أن الأوبئة تنتشر بسرعة، سواء منذ العصور الوسطى أو إلى عصر العولمة، وأن الحجر الصحي الحدودي، لن يفيدنا بالشيء الكثير، إلا في حالة أرجعنا العالم إلى العصر الحجري، لكن هل يمكننا فعل شيء كهذا؟ لعل أبرز درس يقدمه التاريخ للبشرية، أن الحماية الحقيقية تأتي من مشاركة المعلومة العلمية الصحيحة، ومن التعاون الاجتماعي التضامني، الكفيلان بتجنب الأزمات الصحية، والنتائج الوخيمة الاجتماعية والاقتصادية، وتقليل الخسائر على الدول المجاورة.
*”إن انتشار أي نوع من الأوبئة، في مجموعة من بلدان العالم، قد يعرض البشرية برمتها للخطر”*
لعل أهم نقطة في هذا الحديث، هي فهم كيفية انتشار الفيروس المصاحب للوباء، والتي عند عدم التحقق منها قد تعرض البشرية برمتها للخطر، وذلك لأن الفيروسات سريعة التطور، كمثال فيروس “سارس كوفيد-2”، القادم من الحيوانات وتحديدا من الخفافيش، ثم تنتقل عن طريق التواصل مع البشر، إلا أن المثير في الأمر أن هذا الفيروس، لا يتكيف بسرعة مع المضيف البشري. لكن، وبحسب ما قدمته الأبحاث العلمية، فإن للفيروس المستجد القدرة على التناسخ داخل الخلايا الحية، وقد يحدث خلال هذه العملية أن يطرأ على بنيته الداخلية طفرة تحولية، إلا أن بعض هذه الطفرات غير مؤذ، إلا في حالات أخرى حيث يتطور إلى فيروس معد، تصعب على المناعة البشرية إن كانت ضعيفة، مواجهته والقضاء عليه.
تقول الأبحاث المخبرية أيضا، إن الطفرة التطورية للفيروس داخل الجسم البشري، تمكنه من الاستفادة من وسط سريع وملائم للنمو، وذلك إن أخذنا في العلم أن الفرد الواحد يمكن أن يستضيف مليار وحدة فيروسية، تخضع لطفرات وتطورات مستمرة، أي أن كل شخص يمكن الفيروس، من مليار فرصة للتكيف بشكل أفضل مع البشر. للتذكير، فهذه التحولات مشابهة لتلك الخاصة بفيروس إيبولا في سنة 2014، بيد أن الطفرات التحولية أعطت لإيبولا القدرة على أن يصبح أكثر عداوة بنسبة 4 مرات لدى الرجال، فما بالك عندما نتحدث عن فيروس «كوفيد-19»، الذي قد يطرأ عليه نفس التطور لدى شخص من إيران مثلا، والذي سيهدد بدوره ساكنة آسيا وأوروبا الشرقية، ومنه ساكنة إفريقيا والأمريكيتين، ومن تم العالم بأسره.
دائما ما يتذكر التاريخ، لاسيما الوبائي منه، وصمة فيروس “ايبولا” في سنة 2014، ومحاولات الولايات المتحدة للحفاظ على دورها القيادي الدولي، الأمر مشابه بالنسبة لسنة 2008، إبان الأزمة الاقتصادية الدولية وتداعياتها الخطيرة على عدة دول، حيث قررت أمريكا ان تجمع دول العالم خلفها، لمجابهة تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية. يلاحظ القارئ بدوره، أن بلاد العم سام، بدأت تتخلى عن دورها القيادي خلال السنوات الأخيرة، الذي اكدته الحكومة الأمريكية الحالية، بشكل واضح في ما يلي “لم يعد للولايات المتحدة أي اصدقاء، فهي الآن تعمل على الحفاظ على مصالحها”.
عندما اندلعت أزمة وباء كورونا، امتنعت الولايات المتحدة عن إشراك نفسها، في المساعي الدولية لإيجاد لقاح للفيروس المستجد، متخلية بذلك عن دورها الريادي، الأمر الذي يؤثر على سعيها للوصول للقاح فعال للفيروس، الذي بدأ يلتهمها بسرعة كبيرة، أظهرت ضعف نظامها الصحي الداخلي، الأمر الذي قد يعيدها إلى الساحة الدولية من جديد، للمطالبة بحقها في قيادة العالم، وهو سؤال قائم لحدود الساعة.
إن الفراغ الذي خلقته الولايات المتحدة لن تتمكن دولة أخرى لحدود الساعة من ملئه بسرعة، بيد أن كراهية الأجانب والانعزال وانعدام الثقة، هي السمات الغالبة على النظام العالمي حاليا.
لن يستطيع العالم مواجهة» كوفيد-19» بجهود منفردة، بل على الجميع التضامن والتكافل لمواجهة جائحة كورونا العالمية. يقدم «كوفيد-19» من جانب آخر، فرصة إيجابية للتخلي عن الأنانية الدولية والمساهمة في الحد من خطر “التفكك العالمي”.
إن انتصار البشرية على الفيروس يتأسس في انتصارها على القيم السلبية المهيمنة حاليا، ونشر فكرة التعاون والتضامن الدوليين، وإلا فإن الفيروس سيكون المنتصر الوحيد في النهاية. خلال معركة البشرية ضد الفيروسات على العموم، عليها حماية حدودها العامة، الداخلية والصحية وليست الخرائطية، أي الحدود الداخلية للصحة البشرية، من خلال دعم نظام الدفاع الوحيد الأساسي، أي نظام المناعة البشري، الذي من دونه قد يؤول حالها إلى حال الديناصورات.
عملت البشرية، على مدى قرن من الزمان، على تعزيز قوة وكفاءة الحدود المناعية الداخلية، على نحو طبي و معرفي لم يسبق له مثيل. لقد تم تصميم النظم الصحية الحديثة، لتكون بمثابة برج دفاعي يصعب اختراقه، يقوم على مراقبته و حمايته اعوان الصحة، من الأطقم والأطر الطبية في مختلف التخصصات، في دوريات شبه يومية وذات وتيرة مستمرة. ومع ذلك، فقد ظلت أجزاء من القلعة الصحية العالمية، تعيش وسط ظلمات ودون حماية، ساهمت في عدم مساواة صحية لدى جميع سكان العالم، والحد من توفر بعضهم على سبل علاجية ووقائية أساسية، وهو أمر يعرضنا جميعا للخطر.
تواجه البشرية اليوم، خطرا لم يسبق له مثيل في تاريخها، خطر لا يمثله الفيروس التاجي المستجد فحسب، بل يفوق ذلك إلى حدود العلاقات البشرية، في أزمة من عدم الثقة يكنها الأفراد لبعضهم البعض، والتضامن الاجتماعي الذي بدأ يخف وميضه الدولي لدى بعض الدول.
للبشرية سبيل واحد تملكه، لربح الحرب الضروس ضد «كوفيد-19»، يكمن في إعادة الثقة بين فئات المجتمع، وإعادة تقوية روابط الصلة العلمية على المستوى الدولي، وإرجاع الثقة في ما بين البلدان، بغرض محاربة ما تعمدت بعض الجهات السياسية نشره، من أقاويل وحجج واهنة حول العلماء والأطباء خصوصا، جعلت من موقعهم الحالي محطا للسخرية وانعدام الثقة، ربما قد يغير الفيروس المستجد وجهات النظر الخاطئة والمسبقة، التي لطالما عكفت على ملاحقتهم، إلى شيء من الإيجابية في ظل هذه الظروف الصعبة.