المجلس الأعلى للحسابات من زاوية أخرى

تعتبر مؤسسات الحكامة، وعلى رأسها المجلس الأعلى للحسابات، مكونا ضروريا من مكونات بناء الدولة الديمقراطية التي تراهن على النزاهة والشفافية، ذلك أنها تراقب طرق التدبير المال العمومي وأوجه صرفه. وهذا يجعلها مؤطرة بالقانون الذي لا ينبغي أن تحيد عنه أو تقفز عليه، بل يجعلها مقيدة أكثر من غيرها بالسير وفق القوانين المنظمة، حتى لا يقع الشطط في ممارسة السلطة، وحتى لا تصبح مطرقة عقابية للانتقام من هذه الجهة أو تلك.
في ما يلي مقالات تتناول المجلس الأعلى للحسابات من زاوية أخرى. زاوية العقل والقانون والحياد، وأيضا من زاوية الانتقاد لتحسين الأداء، وأيضا من زاوية المساهمة في بناء مؤسسة تقع خارج أي شبهة للاستعمال السياسي..

 

حتى لا يبقى المجلس الأعلى للحسابات «ماكينة» لإهدار المال العام !

عبد الرحيم أريري

لنتمعن في هذه الأرقام الصادمة:
75000 درهم: هو المبلغ الذي يخسره المغرب في كل ساعة كلما حرك فيالق المجلس الأعلى للحسابات لمحاربة الفساد ومراقبة تبذير المال العام.
1.791.666 درهم: هي كلفة تسخير قضاة للمجلس الأعلى للحسابات في اليوم.
53.750.000 درهم: هو ما تخصصه الخزينة العامة كل شهر لتمويل ماكينة المحاكم المالية بالمغرب.
645.000.000 درهم، هو مجموع ما اقتطع من ضرائب المواطنين ليرصد للمجلس الأعلى للحسابات لموسم 2024 موزعة على التسيير (560 مليون درهم والاستثمار 85 مليون درهم).
ليس هذا وحسب، بل استجابة لطلبات المجلس الأعلى للحسابات، تم تخصيص 60 منصبا ماليا جديدا عام 2024 لتعزيز المجلس بالقضاة ومدققي الحسابات، مما جعل أجور قضاة المجلس هذه السنة، تشهد ارتفاعا قدره 16 في المائة مقارنة مع سنة 2023، وهي تحملات إضافية لم تحظ بها باقي القطاعات العمومية. إذ في سنة 2024 سيلتهم 400 قاض بالمجلس الأعلى للحسابات (منهم 180 بالمركز) و263 موظفا (مدقق حسابات، منتدب، إلخ..) 380 مليون درهم كأجور، أي 68 في المائة من ميزانية التسيير، دون استحضار باقي التحملات الأخرى (وقود – سيارات – تنقلات داخل المغرب، إلخ..).
هذا الجهد المالي الذي تتحمله الخزينة العامة، كان الغرض منه هو تحصين المغرب ضد الفساد، ليكون المجلس الأعلى للحسابات (إلى جانب باقي المؤسسات الموكول إليها مهام الرقابة)، الضامن لنزاهة صرف المال العام من طرف الوزراء ورؤساء الجماعات الترابية ومدراء المؤسسات العمومية، وحتى يطمئن المغاربة إلى أن المال العام موضوع بين أيادي أمينة من النخب السياسية والإدارية المطوقة بصرفه وفق ما يخدم المصلحة العامة وليس وفق ما يقود إلى تسمين الوزراء والبرلمانيين والمنتخبين والمدراء بالمرافق العمومية.
لكن المفارقة تكمن في أن المجلس الأعلى للحسابات أضحى هو الآخر ماكينة لإهدار المال العام، دون أن تكون له قيمة مضافة في تحسين مؤشرات الحكامة أو تحسين ترتيب المغرب في سلم الفساد. إذ مازال المغرب ينعت ويصنف بأنه «جنة الفساد والمفسدين»، سواء في تقارير ترانسبارنسي أو البنك الدولي أو ما شابههما من مؤسسات.
من هنا وجاهة السؤال: لماذا لم يفلح المجلس الأعلى للحسابات في إدخال المغرب إلى نادي النزاهة على المستوى الأممي، رغم توفره على جيش من 400 قاض و260 مدقق ومنتدب؟ هل العيب في القانون المنظم للمجلس الأعلى الذي يكبل تقارير القضاة ويحول جهدهم إلى «غثاء أحوى»؟ أم العيب في الزمن القضائي الذي يسير بسرعة سلحفاتية مقابل الزمن المافيوزي الذي يجعل المفسدين يسيرون بسرعة الضوء في نهب وتبذير وتبديد المال العام؟ أم العيب في تواطؤ الحكومة والبرلمان وتسترهما على ممثلي أحزابهما في الجماعات والمرافق العمومية؟ أم العيب في الأحزاب التي تغرق المغرب بنخب متعفنة مستعدة للانقضاض على الميزانية الموضوعة رهن إشارة كل مدبر؟
أيا كان الجواب، فهناك عطب ما، وهناك خلل ما، في كيفية اشتغال المجلس الأعلى للحسابات، بشكل يجعل صلاحياته ضيقة في النهوض فعلا بالمهام الرقابية على أكمل وجه والمضي قدما وبسرعة لتنفيذ ما يصدر عنه من قرارات.
فابتداء من اليوم، لن نرضى بخطاب يمطرقنا بكون المغرب هو أول بلد بنى برجا في إفريقيا أو بكونه أول بلد يحتضن أكبر ميناء لوجيستي أو بكونه البلد الذي يضم أكبر محطة للطاقة الشمسية.
ابتداء من اليوم علينا الضغط على السلطة العمومية لكي نسمع أن المغرب هو أول دولة في مؤشر النزاهة بإفريقيا والعالمين العربي والإسلامي.
ابتداء من اليوم علينا الضغط لنسمع أن المغرب هو أول دولة بإفريقيا والعالمين العربي والإسلامي تتوفر على معمار رقابي يقوم «بوأد الفساد» في المهد ويمنع تغلغله وانتشاره في المجتمع.
ابتداء من اليوم علينا الضغط لنسمع أن المغرب هو أول دولة في إفريقيا والعالمين العربي والإسلامي حقق وثبة في مؤشر إدراك الرشوة والفساد، وقفز من الرتبة 97 إلى الرتبة 40 أو 30 ولم لا الرتبة 20!
خارج هذا السقف ستبقى الأطنان من تقارير المجلس الأعلى للحسابات غير صالحة لتقعيد دولة المؤسسات بقدر ما تصلح فقط للتلفيف عند باعة «الزريعة و»الحناء» و»الكرابة» المختصين في بيع «الروج».

 

 

من يحاسب المجلس الأعلى للحسابات؟

سمير شوقي

أصدر المجلس الأعلى للحسابات مؤخراً تقريراً عن مالية الأحزاب السياسية و فضح بعض الممارسات غير السليمة ببعض الأحزاب كما سبق و فعل مع العديد من الجماعات. و إذا كان ذلك في صُلب مهام هذه الهيئة الرقابية فإن عِدة تحفضات يمكن إبرازها بخصوص تنفيذ مهام المجلس الأعلى للحسابات.
فالمجالس الجهوية للحسابات تشتغل على مدار السنة في مختلف المدن و الجهات، لكن غالباً ما تطلع للأخبار أنباء عن خروقات جماعات قروية و هامشية و في أحسن الأحوال مدن صغيرة. و الواقع أن أبجديات تدقيق الحسابات audit، كما اشتغلتُ عليها سنوات عديدة و احتكيتُ خلالها مع كُبريات مكاتب التدقيق العالمي، تشير لكون معيار العينة الأول هو أهمية المبلغ/الميزانية موضوع التدقيق.
فلا يمكن أن نولي أهمية تواصلية كبرى لاختلالات بجماعات ميزانياتها لا تتجاوز مليون أو مليوني درهم أي فتات الفتات مقارنة مع ميزانية المدن الكبرى. على سبيل المثال، نسمع الكثير من قصص و حكايا اختلالات بمبالغ ضخمة في مجالس جماعية تقدر ميزانياتها بملايير الدراهم و ليس ملايين الدرهم. الدار البيضاء و الرباط و مراكش نموذجاً.
يكاد أرشيف المجلس الأعلى للحسابات يخلو من تقارير عن المدن الكبرى للمملكة، كما لا نجد أثراً لتقارير عن مؤسسات عمومية تُدبر الملايير كالجامعات الرياضية، و مؤسسات الأعمال الإجتماعية للوزارات و الهيآت العمومية، و الصناديق المالية العمومية …الخ. ما الذي يمنع مثلاً الجلس الأعلى من إصدار تقرير لتدقيق حسابات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية الذي يدبر ملايير الدراهم لكي يطلع الرأي العام عن مستوى الحكامة في هاته الهيئة، على سبيل المثال؟
تبقى في الأخير الإشارة لكون هذا المجلس يكلف الميزانية العامة 645 مليون درهم (+64 مليار سنتيم) سنوياً من المال العام ! فمن يقوم بتقييم عمل هذا المجلس؟ و من مُخول له أن يقول للمغاربة هل مردود هذا المجلس يُبرر هذه الميزانية الكبيرة أم لا؟ أسئلة كبيرة لن تجد أجوبة كعشرات الأسئلة الأخرى.

 

 

المجلس الأعلى للحسابات.. الوقيعة

عبد الصمد بنعباد*

في خطاب افتتاح البرلمان 2018، حرص الملك محمد السادس على النهوض بمالية الأحزاب السياسية، تحقيقا لالتزامات رئيس الدولة تجاه الدستور، والمجتمع، والأحزاب، وهو ما تمت ترجمته عبر الدعم المالي الإضافي المخصصة للدراسات.
مثل الدعم المالي الإضافي الذي خصصته الحكومة للأحزاب بناء على الأمر الملكي، موضوع تقرير خاص من المجلس الأعلى للحسابات، “حول حسابات الأحزاب السياسية بخصوص طرق صرف الدعم العمومي الخاص بإنجاز المهام والدراسات”.
وفق القانون فإن المجلس الأعلى للحسابات مسؤول عن تتبع صرف الأحزاب والمؤسسات للمال العمومي، غير أن تقريره الأخير حول صرف دعم الدراسات يكشف ملاحظات تستوجب محاسبة القائمين على شؤون المجلس.
أولى الملاحظات؛ تجاوز المجلس الأعلى للحسابات سلطتي التشريعية (برلمان)، عبر “القانون التنظيمي للأحزاب السياسية” كما جرى تعديله وتتميمه في أبريل 2021، خاصة المادة 32 منه، (حكومة) سواء المرسوم المتعلق بتحديد كيفيات توزيع الدعم الممنوح للأحزاب السياسية وطرق صرفه، والسلطة التنظيمية، من خلال القرار المشترك المتعلق بالمخطط المحاسبي الموحد للأحزاب السياسية، هذه السلطات لم تحدد أي وجه للصرف، فمن أين أتى المجلس بحق توجيه اللوم للأحزاب على اساس مقتضيات وشروط لم تتضمنها هذه المرجعيات وهو بنفسه يشهد بعدم توفر الاطار القانوني للبيانات وهو موضوع الملاحظة التالية؟
الملاحظة الثانية، تكمن في أن المجلس عاد بعد أن انتهى من توبيخ الأحزاب إلى ما يشبه الرشد، وهو يقر ابتداء من الصفحة 48 (صفحة 50 كما تظهر) في الفقرة رقم 4 حين يعلن بعنوان كبير: “الحاجة إلى ملاءمة واستكمال الإطار القانوني المتعلق بالدعم السنوي الإضافي”.
بل إن المجلس في الفقرة الأولى من الصفحة 50 (52)، يقول “لم يتم تحديد البيانات التي يجب أن تتضمنها طلبات الاستفادة من الدعم السنوي الإضافي، لا سيما تلك المتعلقة بموضوع البحث أو المهمة أو الدراسة ونوعية الكفاءات التي سيعهد لها القيام بهذه الدراسات والميزانية المتوقعة لكل منها والمخرجات المنتظرة منها والأثر المتوقع منها على تجويد العمل الحزبي”.
بالإضافة إلى أن المجلس الأعلى للحسابات، وعلى امتداد ثلاث صفحات يعترف بأن الأحزاب السياسية مارست حقها في صرف المال العمومي، دون أن تخالف نصوص القانون لأن هذا القانون “غير موجود” أصلا، فلماذا هذا الاستهداف؟
الملاحظة الثالثة، منذ تعيين زينب العدوي على رأس مجلس الحسابات، أصبحت تقاريره السنوية “باردة”، وذلك فيما سمي بـ”المنهجية الجديدة” لعمل المؤسسة، حيث أصبح ملموسا عدم نشر المجلس تفاصيل “التهم” و”الملاحظات السلبية” عن المؤسسات موضوع البحث للعموم.
في هذا التقرير سجل المجلس الأعلى للحسابات، أن “الأحرار”، و “البام”، و”الاستقلال”، “لم تدل بتقارير ومخرجات الدراسات المنجزة”، وهو ما التزم معه المجلس “الحياد السلبي” و”الصمت المتواطئ”، في قابل ذلك جلد حزب الاتحاد الاشتراكي الذي أدلى بها مثلا.
عند الاتحاد الاشتراكي، انطلق لسان المجلس، وتحول إلى أستاذ مناهج وهو يقرع حزب “القوات الشعبية”، حين حدد ثمان ملاحظات منهجية حول الدراسات التي أعدها الحزب، أدناها “صياغة الإشكالية والفرضيات الأولية”، فكيف استقام هذا التباين؟
الملاحظة الرابعة، تتمثل في التشهير كحالة الوزير السابق مصطفى الخلفي، حيث نفى حزب العدالة والتنمية “نفيا قاطعا أن يكون مصطفى الخلفي قد تسلم أي مقابل عن هذه الدراسة العلمية الرصينة التي أنجزها بصفة تطوعية، وهو ما يتعين على المجلس استدراكه وتصحيحه لرفع الإساءة التي نجمت عن هذه المعلومة الخاطئة”.
مؤسسة دستورية للرقابة المالية، وواحدة من أهم مؤسسات الحكامة، تشهر بوزير سابق، بناء على معلومات “خاطئة”، وتقول إن مصطفى الخلفي حصل على مبلغ 14 ألف درهم من حزبه نظير دراسة علمية! فلماذا؟ ولأي هدف؟
الملاحظة الخامسة، المجلس وهو يتوفر على جميع الوثائق التي سلمتها الأحزاب السياسية، والتي تفيد بتوصلها بالدعم “في بداية شهر نونبر 2022، فيما “طلب منها صرفه قبل متم شهر دجنبر 2022، فضل الهجوم على الأحزاب.
لقد وضع المجلس “شروط الخُزَيْرات” على الأحزاب لكيفية تدبير الدعم الإضافي المخصص للمهام والدراسات، لكنه أغمض العين عن تاريخ وصول المال إلى الأحزاب، ولا ما طلبته الداخلية (سلطة الوصاية) كموعد أقصى لصرف هذا المال، فلأي غاية؟ وما المرامي؟
في المحصلة وعبر التاريخ، كلما طالت أعمار أنظمة الحكم، تزداد قدرات الفاعلين الخائفين من المستقبل، على الوقيعة بين الحاكم وبين من يظهر “العطف” عليهم وتجاههم، كما أن هذا التاريخ علمنا أن الوقيعة “فن” و”صنعة”، وليس مجرد “رغبة شعبوية”، كما هو الحال مع تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول طرق صرف الأحزاب السياسية للمال العمومي عبر المهام والدراسات.
وبغض النظر عن الملاحظات على طرق الصرف، سواء تعلق الأمر بالكيفية، والشفافية، والغاية من هذه المهام والدراسات، فإننا بحاجة ماسة إلى التوقف عند سلوك المجلس الأعلى للحسابات، الذي تصرف باعتباره معارضا يقوم بالتشهير بالأحزاب السياسية، وليس هيئة مستقلة محايدة تؤدي خدمة لفائدة المجتمع ومن أجل حمايته، والقيام بعمل غير محترف يفرغ مبادرة ملكية غايتها نبيلة وهدفها دعم الأحزاب للقيام بادوارها الدستورية، ويسفه الأحزاب ويسعى للوقيعة بينها والمجتمع وهو الأخطر.

*كاتب وباحث في العولم السياسية والتواصل السياسي


بتاريخ : 16/03/2024