المخزن ورعاياه المغاربة اليهود من خلال محفوظات مديرية الوثائق الملكية -34- موقف السلطان مولاي الحسن من طرح مسألة حرية التدين في أشغال مؤتمر مدريد

ظل المخزن المغربي وفيا، وراعيا لمغاربته اليهود، ويتضح ذلك من خلال الوثائق الرسمية، ووثائق العائلات اليهودية وبخاصة المراسلات الإخوانية منها. وتعتبر الوثائق الرسمية التي تحتفظ بها مديرية الوثائق الملكية دليلا دامغا على الروابط القوية، والمتينة بين المخزن ويهوديه؛ فبعضها يتضمن صراحة أمر سلاطين الدولة بالاحسان إليهم داخل المغرب وخارجه. فبالإضافة إلى السماح لهم بممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية، وأنشطتهم الاقتصادية، ووهب وعاءات عقارية لهم لانشاء ملاحاتهم أو بيعهم فإن العلاقة ظلت قوية على مر العصور، وتعتبر الدولة العلوية نموذج الراعي الأول لفئة اليهود مقارنة بوضعيتهم خلال فترات حكم السعديين و المرينين والموحدين حيث كانوا مميزين عن جيرانهم باعتبار الهندام أساس للتميز

التأثيراللغوي في الأسماء والمصطلحات

وأوضح المحاضر فى هذا الصّدد كيف أنّ المستشرق الكبير ”أمريكو كاسترو” يرى أنّ معظم الكلمات الإسبانية التي لها علاقة بالعدّ، والقياس، والأكل، والسّقي، أو الريّ، او السقي،والبناء،كلها من أصل عربي، وبعضها الآخر من أصل أمازيغي، فهو يتساءل: مَنْ يبني البِناء؟ العريف أو البنّاء (هذه الكلمة تنطق فى الإسبانية ”ألاريفي”) أيّ المهندس المعماري ومنها (جنّة العريف الموجودة بمحاذاة قصر الحمراء) بغرناطة، وألبانييل(بالإسبانية) وهو البنّاء، وماذا يبني؟ إنه يبني القصر، القبّة، السّطح أوالسّقف (وهي بالتوالي فى الإسبانية : ألكاسَرْ، ألكوبّا، أسُوطييّا). وكيف وبماذا يسقي أو يروي الأرض؟ بالسّاقية، والجُبّ، وهو في اللغة الاسبانية (ألخيبي)، و(بالأمازيغية: “الجُوب”) وجاء في المعاجم العربية أن الجبّ هو البئر القريب من المسكن، وألبِرْكَة (وهي تنطق فى الإسبانية نفسها فى العربية): (ألبيركا) والسّاقية وهي فى الإسبانية (أسيكيا)، ويضيف كاسترو: وماذا نأكل بعد ذلك؟ السكّر، الأرز،النارنج،الليمون، الخرشف،والسّلق،والسبانخ،والترمس (وهي فى الإسبانية بالوالي: أرّوثْ، نارانخا، الليمون، ألكاشوفا، أسيلغا، إيسبيناكاس، ألترامويثس). ويشير ان مصطلح (الزغّاية) وهو رمح كبير يؤكّد المسستشرق الهولاندي الكبير(دوزي) أنها كلمة من أصل بربري وهي (تازغّايث)، (وقد إستعملها كريسوفر كولومبوس فى مذكراته كما تنطق في العربية)، فضلاً عن كلمات أمازيغية أخرى مثل ” آش” بمعنى القرن، (ومنها جاءت تسمية مدينة الشّاون المغربية شماي المغرب وهي جمع آش) ،وأبرقاش وهو إسم عائلي موجود فى إسبانيا وببعض المدن المغربية والرّيف إلى يومنا هذا، كما ان هناك قرية بالقرب من مدينة طليطلة الاسبانية تحمل نفس هذا الاسم وهي بركاش، وهكذا الأمر مع العديد من الأسماء المتعلقة بالأماكن، والصنائع، والمنتوجات، التي أدخلها المسلمون إلى أوربا”. ويصل كاسترو إلى نتيجة طريفة، ومثيرة فى آن واحد وهي” أنّ فضائل الأثر والعمل عند المسلمين، والثراء الإقتصادي الذي كان يعنيه هذا العمل وهذا الأثر، كلّ ذلك قدّم قرباناً وضحيةً من طرف الحكّام الكاثوليك والإسبان”. ويختم “كاسترو” ساخراً بقوله: ”فذلك الثراء ، وذلك الرّخاء ، لم يكونا يساويان شيئاً حيال الشرف الوطني”..!

إكرام أنطاكي والثقافة العربية الثالثة

وإستدلّ المحاضر بما أوردته الباحثة المكسيكية الراحلة (من أصل سوري) إكرام أنطاكي فى كتاب لها كبير بعنوان”الثقافة العربية الثالثة” بمدى تأثير الحضارة الإسلامية فى عملية إكتشاف العالم الجديد.وتسمّي الباحثة هذا الجانب المؤثّر ب “الثقافة الثالثة”وتعني بها الثقافة العربية الإسلامية التي تعتبر من مكوّنات شعوب أمريكا اللاتينية. وهي تشير فى هذا الموضوع بالحرف الواحد:”إنّ المكتشفين وصلوا إلى المكسيك (وسائر بلدان هذه القارّة) مُستحضرين معهم ثمانية قرون من الوجود العربي، والأمازيغي،والتأثير الإسلامي فى إسبانيا، وإنه فى كلّ لحظة كانوا يستعملون الكلمات العربية أو التي هي من أصل عربي، وهي ما زالت موجودة ، ومنتشرة، ومُستعملة فى هذه الربوع إلى اليوم “.
ويشير المحاضر فى نفس هذا التجاه أنّ كتاب إكرام أنطاكي“الثقافة الثالثة” الآنف الذكر يعالج تأثير الحضارة الإسلامية فى المكسيك وبالتالي فى باقي بلدان أمريكا اللاتينية بالخصوص فى ميدان المعمار،ومختلف مظاهر الحياة الأخرى ،وتقول المؤلفة فى ذلك:”الحديث في هذه الربوع لا ينقطع عن التأثير الإسباني المكسيكي ويكاد لا يذكر شئ عن الجذور الإسلامية العربية التي هي فى الواقع أصل هذا التأثير”.وتؤكّد الكاتبة أيضا أنّ “اللقاء” (Encuentro) الذي تمّ فى العالم الجديد (أمريكا) عام 1492 لم يكن لقاءً بين ثقافتين إثنتين وهي الإسبانية- البرتغالية والهندية الأصلية وحسب، كما يقال من باب الحيف،والخطأ، والشطط ، بل كان بين ثلاث ثقافات مضيفة إليها الثقافة العربية الإسلامية الأندلسية كذلك وتؤكد الباحثة السورية- المكسيكية ذلك بالقرائن الدامغة، والبراهين القاطعة في كتابها الكبير معززةً بصور المآثر والمعالم المعمارية والعمرانية في الاندلس ومقارنتها بالتي بنيت واستحدثت في المكسيك غداة وصول الاسبان الى هذا البلد المترامي الأطراف حيث يلاحظ القارئ أو المتصفّح لكتابها كيف أن الشّبه بين هذه المعالم المعمارية كبير ومُحيّر ومُذهل .
وتؤكّد الباحة إكرام أنطاكي أنّ الذين قدِموا من إسبانيا ليستوطنوا المكسيك بعد وصول كولومبوس إلى العالم الجديد كانوا بعيدين عن الحضارة، وكانوا أقرب إلى الوحشية والهمجية ،وأنّ الجانب المشرق الوحيد الذي جاءوا به معهم هو الإرث العربي الإسلامي، وقد طّعّم التأثير الإسلامي فى المكسيك بالهجرات العربية المتوالية التي حدثت فيما بعد حيث إستقرّت العديد من الأسر العربية المسلمة والمسيحية المترحّلة فى هذا البلد، وما فتئ أجداد، وآباء، وأولاد وأحفاد هؤلاء يرجعون بأبصارهم، وأفئدتهم وضمائرهم إلى ماضيهم وأجدادهم وكلهم فخر وإعجاب بهذا الماضي المجيد .
ويشير الباحث المكسيكي ”أدالبيرتو ريّوس” فى نفس الإتّجاه من جهته :”أنه من العبث التأكيد على مصطلح”لقاء عالمين”أو ثقافتين إذ تبقى إفرقيا وآسيا بذلك خارج هذا المفهوم وهما شريكان فى هذا الموضوع تاريخيا”.ويضيف: “من الصّعوبة أن يفهم الإسبان لماذا لا تزال تلهمنا مواضيع الغزو، وهم يزعمون أنّه ليس لهم أمثال شبيهة بما حدث مع الرّومان والعرب بالنسبة لإسبانيا نفسها، ويجهلون أو يتجاهلون أنّ التاريخ الذي بدأ منذ خمسمائة سنة له معنى تراجيدي فى حياتنا، ويؤكّد الكاتب والروائي المكسيكي الكبير الرّاحل كارلوس فوينتيس من جانبه هو الآخر فى كتابه”سيرفانتيس أو نقد القراءة” فى مجال التأثير العربي والإسلامي فى إسبانيا والذي إنتقل بشكل أو بآخر إلى القارة الجديدة فيقول:” إنهّ من العُجب أن نتذكّر أنّ الثقافة الهيلينية وكبار المفكرين الرّومان الضالعين عملياً فى المناطق الأوربية إستعادوا مواقعهم، وحفظت أعمالهم بفضل ترجمتها إلى اللغة العربية ،فضلاً عن العديد من الإبتكارات العلمية والطبية فى الوقت الذي كانت فيه أوربا مريضة ويتمّ علاجها بواسطة التعزيم والرقيّة والتمائم التعويذ ” .ويضيف:” فعن طريق إسبانيا المسلمة أدخلت إلى أوربا العديد من أوجه التأثيرات الهندسية المعمارية الموريسكية حيث أصبحت فيما بعد من العناصر المميّزة لخصائص الهندسة القوطية” .
ومن المواضيع التاريخية الطريفة الأخرى التي تمّ بسطها المحاضر فى هذه المداخلة كذلك إلقاء الضّوء على أوّل رحّالة عربي زار هذه القارة النائية في شقّها الجنوبي عام 1668 ( أيّ 176 عاماً بعد رحلة كريستوفر كولومبوس إلى العالم الجديد) وهو الرحّالة إلياس الموصلي الخوري الكلداني الذي إستغرقت رحلته فيها حوالي عشرين سنة، فضلاً عن مواضيع تاريخية وثقافية ولغوية واجتماعية وإنسانية متعدّدة مثيرة أخرى ذات الصّلة بهذا بموضوع اكتشاف هذه القارة والتمازج العرقي الذي حدث بعد ذلك فيها بين ( الغزاة الأوربيين) الوافدين عليها والسكان الهنود الأصليين (أصحاب الأرض) ومدى المظالم الفظيعة التي حاقت ولحقت بهم خلال الاكتشاف وبعده.

كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الاكاديمية الاسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا.


الكاتب : ذ.ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 04/05/2023