المديح النبوي بين الشعر والنظم 2/2

كيف لنا أن نثير موضوع المديح النبوي من دون الإشارة إلى إحدى أشهر القصائد التي قيلت في مدح الرسول، عنيت: قصيدة البردة، وفي عنونة أخرى: ( قصيدة الكواكب الدرية في مدح خير البرية ) التي كتبها البوصيري في القرن الثالث عشر الميلادي. وهي القصيدة التي يعرفها الخاص والعام حيث أشاعها بين الناس، الفقهاء في الأعياد الدينية، والمناسبات الاحتفالية العائلية كالأعراس، والعقائق، والختان، وفي المآتم والأحزان. مع العلم أنها محشوة بما لا يقبله العقل، ولا يستسيغه المنطق. ولم يكن أمير الشعراء أحمد شوقي أقل مستوى، وأدنى شاعرية وهو يمدح النبي بقصيدة بديعة فارهة:
ريمٌ على القاع بين البان والعلم /// أحل سفك دمي في الأشهر الحُرُم
رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا /// يا ساكن القاع أدركْ ساكن الأجَم
وقد أضفت عليها أم كلثوم الخالدة، رونقا وروعة ومهابة بصوتها الفخم الأسطوري. كما صدحت بشعر شوقي في مدح النبي الذي يقول: وُلِدَ الهدى فالكائنات ضياءُ /// وفم الزمان تَبسُّمٌ وثناءُ والجدير بالذكر أن القصائد المدحية في الرسول الكريم أو في غيره، والتي ناست بين النظم البارد، والشعر الحار، إنما كان الشاعر يستهلها بالغزل جريا على عادة العرب حتى يستطيب الممدوح القول الشعري، وترتخي له أعضاؤه، ويهتز انشراحا وانتشاء قبل الوصول إلى المطلوب الأول من إنشاء القصيدِ.
كما برع الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة في ملحمته البديعة عن النبي، والعراقي الشاهق محمد مهدي الجواهري، والإحيائي محمود سامي البارودي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، والمصري الرومانسي محمود حسن إسماعيل، والشاعر الباكستني الكبير محمد إقبال، وآخرين كُثْرٌ.
ولا شك أن ما سمي بشعر المولديات، هو ما قدح نار المدائح النبوية، وقاد إلى استحضار سيرة النبي العَطِرَة في شتى المناسبات، وبخاصة في مناسبة مولده عليه السلام. وهو شعر ظهر واشتهر في مصر وفي المغرب على وجه التحديد؛ إذ حظيَ بعناية العلماء والأدباء، منذ بداية احتفال المغرب بالمولد النبوي في العصر المريني ـ إذا أسعفتني الذاكرة ـ بعد أن نما إلى علم المغاربة أن مصر تحتفل بالذكرى، وتحيطها بكل مظاهر التبجيل والحفاوة والإجلال على عهد الفاطميين فما بعد، إظهارا لانتمائهم إلى البيت النبوي، وعملا على تكريس شرعيتهم السياسية من خلاله.
ولم تكن تنزاح موضوعات شعر المولديات عن معاني الحنين إلى البقاع المقدسة، ومدح النبي، وتعداد معجزاته متْحاً من سيرة ابن إسحاق، وابن هشام، وابن سعد، لتخلص إلى مدح سلطان الوقت. على أنه كان نظما أكثر مما هو شعر في أغلب ما وصلنا منه.
ولربما ـ في تقديري الشخصي ـ أن الاحتفاء بالمولد النبوي وتخليده في أعصر حديثة نسبيا بالقياس لزمن الميلاد المنير، هو ما أشعل جذوة المدائح في الرسول وعترته وصحبه، بعد أن خمد مديحه قبل ذلك في زمن طال وامتد قرونا لا لنسيان أو عدم تقديس وتقدير، أو تجاهل متعمد، وإنما لأن ورود ذكره في الصلوات الخمس كل يوم، وفي تلاوة القرآن، كافيان مكتفيان يتضمنان مدحا وتبجيلا ومحبة للرسول الأكرم. ولعل ذلك أن يكون أحد لأسباب التي جعلت كبار شعراء العربية في الأعصر الذهبية للشعرالعربي: العصر الأموي، والعصران العباسيان، والعصر الأندلسي، لا يخصون نبيهم بشعر مدحي رفيع كما فعل لاحقا البوصيري، ومن تلاه من الشعراء. أو لعل باعهم الشعري، وشيطانهم اليقظ كل الوقت، يقصر عن اللحاق بخير الورى، فتنهار عبقريتهم، ويتَّضِع علو كعبهم اللغوي والتعبيري حين يقتربون من نور محمد والرسالة المحمدية؟. أم أن صدى مقولة الأصمعي، فعلت فعلها في الشعراء الخناديد فأحجموا عن غمس أقلامهم في محبرة المدح الديني، وكل ما يتصل بخدمة الدعوة لا خذلانا للرسالة وصاحب الرسالة، ولكن خوفا وخشية من أن يفضحهم ضعفهم، ويُزْري بهم عجزهم وحُبْسَتُهم، فيسقطون في النظم عوض الشعر.
أما مقولة الأصمعي في ما روي عنه، فهي: ( الشعر نَكَدٌ لا يقوى إلا في الشر، ويسهل ). أو: ( طريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لاَنَ ). وليس بخافٍ أن المقصود بالشر، عند التأويل، ليس غير الخيال والتخييل المجنح، والحرية الرحبة والوسيعة. ومن ثَمَّ، ينفتح الطريق لاَحِباً مطروقا موْطوءاً للقولة الشهيرة أيضا: ( أعذب الشعر أكذبه ). فكأن الصدق وبالٌ على الشعر لأنه يُرْديه مسرح الرداءة، ويمرغ الشعر في الضحالة والتكلف والاعتساف، ويجفف منبع الخيال فيه، ونسمة الحرية المطلوبة والمشتهاة لحياته وألقه.
لقد خرجت خاوي الوفاض، وعدت بخف حنين من رحلتي في رحاب طبقة الفحول الشعراء: ( أبو نواس، بشار بن برد، ابن الرومي، أبو تمام، البحتري، المتنبي، أبو فراس الحمداني، أبو العلاء المعري، الشريف الرضي….) الذين مدحوا سلاطين وأمراء، وولاة، وأرباب مال وجاه، فأتوا في مدائحهم بالمبهر الماتع المدوخ من حيث الفخامة وجمال الصياغة، ونفائس المعاني، وعرائس الألفاظ والمباني، بينما سكتوا أو مروا سراعا على مدح النبي العظيم، من خلال مدح آل بيته أولا بأول. أم ترى أن الكذب أسعفهم فحلقوا عاليا في سماء الصورة والخيال والمحال؟
وإذاً، فلنقدح أكثر زناد التفكير في أمر هذا الأمر المحير؟


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 29/04/2022