الحضور والموقف
تلتصق الأشكال السردية بالمدينة، ليس على مستوى السياق المكاني للأحداث فحسب، ولكن على مستوى التشكل الفني أيضا. فالتاريخ الإبداعي يكاد يجزم أن نضج السرود العربية التراثية ارتبط بعملية التدوين التي امتدت مع نشوء مدن المشرق العربي، فيما ارتبط ظهور الرواية الأوربية بعصر الطباعة وازدهار المدن في أوربا من جانب آخر، ليتم بعد ذلك اكتشاف الرواية في الأدب العربي الحديث مع اكتشاف المدنية الغربية المستعمِرة.
وإذا كانت النماذج المبكرة تحتفي بالمدن من خلال اتخاذها خلفية للأحداث أو موضوعا للارتحال، فإن الصلة الحقيقية بين الرواية والمدينة قد بدأت تنعقد منذ سعي هيجل إلى «البحث في الخصائص النوعية للشكل الروائي في علاقته بالشكل الملحمي البائد وبالمجتمع البرجوازي الحديث»، ليخلص إلى أن الرواية (ملحمة البورجوازية)، ثم سيتبنى جورج لوكاتش هذه الفكرة ويوسّعها أكثر.
ولهذا فإن اقتران الاتصال بين المدينة والرواية لابد أن يعمِّق بالتدريج الوشائجَ بينهما تأثيرا وتأثّرا، فضلا عن أن تصاعدهما معا بعد الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر يمثل مؤشرا أساسيا لهذا الاقتران.
وفي الأدب المغربي (والعربي عموما)، ارتبط اكتشاف الرواية باكتشاف المدنية الأوربية، فضلا عن الالتفات في المتون الروائية إلى المدينة بحضور متنوع ومتفاوت، وبتمثّل مختلف بين الأعمال وبين الفترات الزمنية.
فما يُعد -عند البعض- أولَ عمل روائي مغربي، وهو «الرحلة المراكشية» لابن المؤقت، هو عمل يستحضر المدينة منذ العتبة الأولى، ويرتبط بها، بل إنه داخل المتن يُماهي بين الشخصية والمدينة/المكان فيقول في موضع حيث السارد يسأله الشيخُ عمّن يكون، أي عن هويته، عبر سؤاله عن المكانيْن: (مكان الانطلاق ومكان الوصول):
«سألني عني فقال:
من أين وردت وأي مكان أردتَ؟»
وهذا الاستحضار للمدينة المراكشية وإن كانت الشخصية تلتبس فيه بالمكان، فإنه يظل استحضارا لا يشكّل تمثّلا مكانيا أو فنيا للمدينة وسِماتها، بل يتم توظيفها بالشكل الذي وُظّفت به بغداد والبصرة وقزوين وأصفهان وغيرها في المقامات، حتى أنه لو تمّ تغيير»مراكش» داخل الرواية بأي مدينة صحراوية في المغرب أو خارجه لا يكاد يتغير في البناء الفني شيء أو يختل في تشكيل الشخصيات والأحداث شيء، رغم سعي ابن المؤقت لنقل صورة التحول الذي طال مراكش في انفتاحها على التحديث.
ولهذا فإني أفترض أن الأعمال الروائية اللاحقة، والأكثر نضجا، التي سمّتها الناقدة الصينية (وانغ جينغ) روايات «مرحلة التشبّع» وأدرجتها ضمن «الاتجاه الإحالي»، ستتعامل مع المدينة بمستوًى أنضج يظهر في روايتين مبكّرتين، تمثّل الأولى بداية التشكّل الفني الكامل للرواية بالمغرب، فيما تمثل الأخرى نموذجا من أواخر «فترة التشبّع»، أي ما يُفترض أن يكون نموذجا ناضجا لهذه المرحلة، بفعل التراكم وبفعل الزمن معا، إذ الفاصل بين الروايتين يمتد لأربع عشرة سنة. وهما: «في الطفولة» لعبد المجيد بنجلون (1957)، و»المعلم علي» لعبد الكريم غلاب (1971).
يتوزّع السياق المكاني للأحداث في رواية «في الطفولة» إلى دائرتين: المدينة الغربية والمدينة العربية، تتأثث الدائرة الأولى بالأمكنة الطارئة الحديثة المضيئة والمثيرة، في حين أنه تم تقديم فاس ومراكش والقاهرة باعتبارها تنطوي على تاريخ علمي وفكري، دون الاهتمام فيهما بالشوارع والمقاهي والمسارح ودور سينما..، كما لو أن الرواية تقف في منتصف المسافة بين الامتداد التاريخي العربي وبين الانبهار بالحضارة الغربية الناعمة، لدرجة أن الكاتب يصرح أن غايته لم تتجاوز المقارنة بين بيئتين «تكادان أن تكونا متناقضتين»، فانشغل بهاجس قبول المدينتين معا: «مدينة الأنا» و»مدينة الآخر».
على أن رواية «المعلم علي» تشتغل بتقسيم آخر يستضمر الانخراط في الدائرتين عبر مدينتين:
المدينة القديمة: لا يتم رفضها، وليست مكانا معاديا، ورغم ذلك تشغل مساحة نصية كبيرة، إضافة إلى أنها مكان مغلق.
المدينة الجديدة: مكان مفتوح، غير مسَوّر،و لا يتم توثيق تشكيلاتها المكانية، فلا نكاد نعلم فيها إلا المعمل والطريق المقفرة إليه، ومع ذلك فهي ليست مكانا معاديا أيضا.
وإذا كانت هذه المدينة الحديثة في «المعلم علي» قد فرّقت الناس بين من رأى في تحوّل «الحياني» مبعثا للرثاء والشفقة، وبين من رأى فيه مصدر اعتزاز وافتخار، فإنها بالنسبة لخطاب الرواية فتحت بابا جديدا عبَرت إليه الشخصية المحورية –ولو عبر طريق السجن-، وهو باب «النقابة»، مع ما تنطوي عليه من وعي سياسي وحقوقي وديموقراطية، ومع ما ستؤول إليه في ما سكت عنه النص في آخر جملة حين طوى «هنري» الصحيفةَ وقال بصوت مسموع:»آن لنا أن نرحل».
في الروايتين السابقتين، تم توظيف اختيار قبول أو رفض المدينة والمدنية رمزيا وبشكل ضمني، بحيث يتوارى الموقف خلف آليات لغوية وحكائية (في الأوصاف وفي تطور الأحداث، وفي انفتاح وانغلاق الأمكنة، وفي ألفتها)، لكن في «المرأة والوردة» 1972– وهي باكورة الاتجاه الحداثي الذي تقوى في ما بعد في نهاية التسعينات مكسرا للنمط الموروث في الكتابة، ومغامرا في أشكال وطرائق سردية مختلفة- يأتي اختيار الشخصية المحورية للرحيل من المغرب إلى الغرب تأسيسا على موقف صريح، وغاية معلنة مفادها تحرير نفسه، والبحث عن أفق من الحرية، والعدالة، والإنسانية، والمساواة، وهي نزعة فردية مغايرة لهيمنة الروح الجماعية التي نجدها في «المعلم علي» و»في الطفولة».
ولذلك فهي تدور حول قطبي (الأنا والآخر)، وما يتولّد عنهما من فضاءين متقابلين متناقضين هما: عالَم منبوذ سيء مُعادٍ (يمثله الوطن العربي)، وعالم مرغوب شهيّ وحميميّ(يمثله الوطن الغربي). وهذا الانتقال بين قطبي الثنائية، سيولّد داخل النص عددا من المدن التي اختارها الكاتب ليؤطّر بها الأحداث والأفعال ويخلق بها فضاءات خاصة تسند بناء الفضاء العام للرواية (الدار البيضاء، طنجة، أمستردام، بروكسيل…)، غير أن الإقامة الحقيقية التي عرفتها الشخصية المحورية، ورسّختها الرواية هي «الإقامة في المرأة»، إذ ظلّ السارد متنقلا ومتحولا بين الأمكنة مفعما بالتيه -حقيقة ورمزا- فيما سيظل مقيما في المرأة (سوز) الدانماركية التي عرفها في جنوب إسبانيا. وهذا سيفضي لحضور مكاني جديد، المكان/المرأة.
إن جسدنا وجسد الآخر يغدوان مكانا، والمكان لا يصير ذا ألفة إلا إذا كان مبعث اطمئنان وراحة. ولذلك قال ابن عربي عبارته الشهيرة «المكان إذا لم يؤنث، لا يعول عليه»، أي المكان الذي لا يصير «مكانة».
وإذا كان السارد لا يقبل الإقامة في المغرب أبدا لأنه «هنا يشعر بأن إنسانيته مفقودة»، فإنه أيضا يبدو تائها في أوربا، من غير مكانة، ولاهوية ومن دون إنسانيته التي رمز لها باسمه الذي فقده وحمل بدَله اسما مستعارا، غير أنه كان يمنحنا انطباعا بالإقامة هناك، لأنه في الحقيقة كان يُقيم في المرأة «سوز»، ويطمئن «بها» و «فيها»، فصارت سكَنا له، و»مكانةً» له، وصار هو يشعر بإنسانيته التي فقدها في بلده.
ثم إن الكاتب يُعنى بكثير من الاهتمام بالمكان النصي، فنقرأ جملا سريعة، متهافتة، مكسرة، قصيرة ومتجاورة، مفصولة بنقط، وتكاد الفاصلات تنعدم فيها: «كم تقدّر عمري؟ آه. لا تعرف. إذن ثلاثون. ثلاثون سنة. جربت الكثير.» ، بل نجد أحيانا فقرات بجمل مفصولة بعرائض:
«العلاقة بينهما- قد تكون- تافهة إلى حد بعيد- عند الكورنيش- رأيت فتاة في حجمها- تخرج لي…» ، وهو مظهر يتكرر في فقرات أخرى في الصفحات: 33،36، و57).
إنه اشتغال بصري لا يمثّل –فقط- انحيازا لتكسير البناء التقليدي وتجاوزه، ، بل يمثّل معادلا للمدينة الواقعية بكل تسارعها، وتفكّكها، وانهيار قيمها، حيث التحلل الأخلاقي في المقهى والمثلية في المرقص وفي الشاطئ، حيث الدعارة والجنس والمخدرات في المدينة كلها…
إن حضور المدينة في «المرأة والوردة» يتحدّد بتمثّل روحها وعوالمها ثم صهرها في البناء الفني واللغوي للرواية، كما لو أن الكاتب تشرّب المدينة حقّا، واحتواها فكريا، ثمّ صبّها في القالب الروائي، ليأتي هذا الأخير مفعما بالتكسّر، واللامركزية، واللامرجع، وبالتحلل، والانهيار، وأيضا بالفردانية المطلقة.
الأثر والتمثل
تتباين مواقف الروائيين من المدينة بين المعاداة والقبول، حيث الرفض المطلق -عند فئةٍ- بسبب الغربة والاغتراب فيها، والضغط والعذاب وألوان العذاب التي فرضتها سرعتها وإيقاعاتها الاجتماعية وهندستها المعمارية ، فصار الفرد فيها يعيش القهر والإحساس بالضياع والوحدة والضآلة، مكبّلا بشبكة علاقاتها المختلفة؛ وهذا الموقف يقابله الانغماس التام في المدينة باعتبار أنها خلاصة حضرية، ونتاج سعى إليه الإنسان في مسار ارتقائه.
وإذا كانت المعاجم العربية تتفق في كون المدينة تعني الإقامة (من «مَدَنَ بالمكان» أي أقام به)، فإن «لسان العرب» يمنح إضاءة أخرى بالغة الأهمية، فيورد أن المدينة «مَدْيِنة» على وزن «مَفْعِلة» من الفعل «دنتُ» أي «مُلِكتُ»، وهنا يغدو المقيم كأنه مملوك من طرف المكان. و»بما أن الإقامة والمعاشرة تحتاج إلى سن قوانين تتجاوز قوانين الدم والقرابة، فإن المقيم يصبح محكوما (مملوكا) بقانون يخلقه ويطبّقه غير القريب الذي هو فرد من العشيرة»؛ ومن جهة ثانية فـ «المدينة» تقال للأمة، أي مملوكة.
المعنيان متقابلان متعارضان، يكون المكانُ، بمقتضى أحدهما، مالِكا للمُقيم، ويغدو بمقتضى الآخر مملوكا. ولعل هذه الدلالة تجد صداها في موقفَيْ الروائيِّين، فنلمس في المنجزات الروائية نمطين صادرين عن تموقع الروائي إزاء المدينة (باعتبار أنها مكان، وباعتبار أنها نسيج من العلاقات)؛ والإحساس بامتلاك المدينة للإنسان والتحكم فيه وتضييق حريته وإنسانيته سيفضي إلى الموقف الرافض المعادي، فيما أن الإحساس بامتلاك المدينة والتحكم في توجيه منتجاتها نحو راحة الفرد ورفاهيته وسعادته سيفضي إلى موقف القبول والرضا.
ويتخذ حضور المدينة في الأعمال الروائية عدة تمظهرات تتفرع من عنصرين كبيرين هما المحتوى (أي المضمون)، والبناء السردي (أي علاقة المكونات ببعضها البعض). فعلى مستوى العنصر الأول يمكن رصد حضور المدينة من خلال ثلاث مكونات سطحية ومكونين عميقين:
العنوان:
تختار بعض الروايات أن تشتغل منذ العنوان بتعيين مرجعي يحيل على المدينة باسمها الصريح مثل «القاهرة تبوح بأسرارها» لعبد الكريم غلاب، و»كازابلانكا» لمحمد صوف، و»فاس لو عادت إليه» لأحمد المديني، و»Un jour de silence à Tanger» للطاهر بن جلون، و»حكايات العامرية» لعبد الرحمان عبيد… وغيرها.
وباعتبار العنوان يمثل العتبة اللغوية التي تستأثر –في الغالب- بالحجم الطباعي الأكبر، فإنها تلعب دور الإغراء إلى جانب الإيحاء وتحفيز أفق انتظار المتلقي، ويبدو الإغراء ذا دلالة في الترجمة الفرنسية لرواية «الوليمة المتنقلة» لإرنست همنجواي، والتي أنجزها «مارك سابورتا» إذ عنوَنها بـ «Paris est une fête» مُفضّلا استقطاب القارئ الفرنسي بعنوان يحيل على مدينة تمثّل انتماءه، بدلا من العنوان الأصلي.
المادة الحكائية للرواية :
فضلا عن نماذج رفض وقبول المدينة التي سبق التطرق إليها في النماذج الروائية السابقة، فثمة نماذج أخرى جعلت من مادتها الحكائية حاملا لثيمة المدينة بصيغ أخرى مختلفة، وجعلت من الهجرة دالا على الاختيار.
فرواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري، ترسم الرحيل من البادية الفقيرة إلى المدينة طنجة باعتبار أنها فضاء لتحسين الوضع وللارتقاء، في مسار يذكّر بالرحلة النبوية حيث تقرن الرواية «جاهلية الريف المغربي ورحلة الهجرة من مكة إلى المدينة للوصول في النهاية إلى مدينة طنجة التي تلعب دور المدينة المنورة».
فيما تختار رواية «رياح المتوسط» لعبد الكريم عباسي الهجرة من القصيبة إلى باريس، والهجرة في دلالتها الأولى تنطوي على الرحيل من جهة، وعلى التحوّل من جهة ثانية. غير أن هذه الرواية تخالف نسق (الهجرة النبوية)، إذ أن البطل «ميمون» العربي الأمازيغي تتجاذبه قوّتان: فهو من جهة مكبّل مشدود للمدينة الغربية، ذلك أنه لم يختر العودة إلى بلده بعد سنته الأولى والثانية كما يفعل المهاجرون، بل إنه بعد اختطافه ورميه في زبالة بإيطاليا اندمج في الشغل في حظيرة الرجل المتقاعد «كارسيا» وزوجته، «حتى كاد ينسى أنه كان مختطفا، وأن له أهلا انقطعت بهم السبل ويئسوا من شدة انتظار ظهوره، وأوشكوا على إقامة مأتم وفاته»؛ وهو من جهة ثانية لا ينصهر داخل المحيط الجديد، وتحولاته هناك تظل تحولات شكلية لا تتصل بأصوله، بل إنه سيظل على الدوام يفكّر في امتداده الذي يمثّله الجنين في بطن «فاظمة». إنه في نهاية المطاف اختيار للمدينة على علاّتها واتصال داخلي بالأصل البدوي.
المعجم
يقدّم إحصاء حضور المدينة وما يحيل عليها داخل الرواية مؤشرا على محوريتها كمكان. لذا فإني اخترت مؤشرين –من بين مؤشرات كثيرة- هما (لفظ المدينة) و(اسم المدينة) داخل روايتين صدرتا في السنة نفسها بجهة بني ملال خنيفرة، هما «كتيبة الخراب» لعبد الكريم جويطي، و»حكايات العامرية» لعبد الرحمان عبيد.
غير أن لرواية «كتيبة الخراب» خصوصية مغايرة، وهي أن الانتقال فيها يتم من الخارج إلى الداخل، ممثّلا في الشجيرة القادمة من الدانمارك وماراطون البحث عن تبيئتها وزرعها في مكان ما ومنحها الحياة، في طرح سردي لمسألة المدينة واستيراد المدنية. حيث مدار السؤال هو «لماذا تهرب المدينة من حقيقة ما، ثم «ما هي روح المدينة في الحقيقة؟»، و»هل هذه البنايات القبيحة والمزابل والخرائب هي شكل روح المدينة؟».
بل إن حتى محاولات ميمون الحلاق من أجل الرحيل خارج الوطن، هو في العمق رحيل من الخارج إلى الداخل: إنها ترحيل لتجربة دونكيشوت العبثية الباعثة على السخرية، من خلال الألواح الخشبية التي صنعها ميمون لعبور البحر، وأيضا استضمار لعبثية الارتقاء المستند على استيراد الأفكار والحلول باعتبار أنها رحيل غير مقبول للأفكار على مدار الرواية ككل، وهي في الآن نفسه دعوة للالتصاق بالمكان وبالمدينة وتصحيح أعطابها وتحولاتها.
إن إحصاء تردد لفظ (المدينة) أو أسماء المدن داخل الرواية يمنحنا إحساسا بهيمنة التفكير فيها، والإصرار على حضورها الطاغي. فعلى مدى 222 صفحة تردد لفظ (المدينة) 110 مرة، بل إن بعض الصفحات تردد فيها اللفظ ست مرات (الصفحة 107، والصفحة 108)، في حين أن أسماء المدن التي بلغت 19 مدينة توزعت بين المغربية (بني ملال، مراكش، الدار البيضاء، أكادير، المحمدية، الرباط، طنجة، الراشيدية، القصيبة، تادلة، أزيلال، الفقيه بنصالح، الصويرة) والعربية (بيروت، القاهرة، مكة) والغربية (كوبنهاغن، روما، أمستردام)، تكرر حضورها 59 مرة، نالت فيه «بني ملال» نسبة التردد الأكبر ب 20 مرة.
فحضور المدينة -لفظا واسما- بهذا الشكل هو صدى لضخامة السؤال والدهشة التي تنال الملاليين من خراب المدينة، والدهشة التي نالت مهندسها الغربي حين رأى- بألم- المسخَ الذي آلت إليه حدائقها ومنتزهاتها.
قال السارد: «هناك ألم ما، جفاء ما، هشاشة ما في علاقتنا بالمكان. لذا لم نعط طيلة تاريخنا الحضاري الطويل رجالا يعتد بهم أكثر من الرحالة والمتصوفة، والمكان بالنسبة لكليهما فكرة أكثر منه تحققا عينيا»، وربما لهذا السبب بحث عن إجابات كثيرة في الشعر وأخبار الشعراء لكشف القناع عن المدينة الحقيقية.
بالمقابل فرواية «حكايات العامرية» تتخذ من المدينة/ الهامش قضيّتها عبر سيرة البطل يوسف وتحولاته بين الأمكنة والمدن بغاية تحقيق التحول المعيشي والمهني. وتحضر فيها المدينة باللفظ 21 مرة، فيما تتردد المدن بأسمائها 28 مرة موزعة على مدن مغربية هي (بني ملال، وادزم، الدار البيضاء، سوق السبت، حد البرادية، تادلة) ومدن غربية هي (طريفة، الخزيرات، هوليود).
وإذا كان هاجس تحول المدينة يسكن أيضا رواية «حكايات العامرية» حيث «الحيّ أصبح عامرا والعيش فيه لا يحتمل البداوة»، غير أن رواية «كتيبة الخراب» بحثت عميقا في الذي يجعل المدنيةّ قناعا زائفا للمدينة، فيما أصرّت «حكايات العامرية» على وصف التحول، وعلامات المدينية وهي تحمل لشخصياتها ألوانا من القهر والعذاب والحرمان والضغط، إذ «الكل يلهث وراء اللقمة، كل واحد يراوغ أيامه الزئبقية الهاربة، المرارة خانقة تنغص وجودهم وتدفع بهم للكدح.».
التشظي والتكسير
شكّلت المدينة –مقابل البادية- بؤرة للاغتراب وفقدان التواصل وعدم التجانس وانفلات العلاقات الاجتماعية أمام هيمنة النزعة الفردية، وتمثّلت هذه الصفات داخل الرواية في شكل تفكك وتشظٍّ لحق الحبكة واللغة والشخصيات والمكان والزمان والراوي…
وتقدّم رواية «مذكرات أعمى» مثالا جيدا للنموذج المتشظي على مستوى الحبكة والمكان والزمن، على أن الأحداث لا يتم تقديمها متسلسلة، والمقاطع لا يربطها رابط واضح، وبالتالي فإن كلا منها يشتغل شبه مستقل من حيث شخصياته وأمكنته وأزمنته.
ففي المقطع 15 مثلا يقول السارد:
«قال الأعمى:
بإمكانك أن تقترن بعصاي دون خوف
مباركة الجلاد أثلجت صدري….
أخيرا سأصير الآمرة الناهية
في مملكة الخوف»
ففضلا عن كون كل سطر يكاد يكون مستقلا عن الآخر، فإن علاقة هذا المقطع ككل بالمقطع الموالي تكاد تنعدم أيضا، فيبدوان معا منفصلين عن بعض، كما لو أنهما مرتبان اعتباطيا، إذ نقرأ في المقطع 16:
«بإشارة من أنامله كنت أتراقص، أحلّق كفراشة فوق رأس سنديانة، أعادتني نقراته الخفيفة من شرودي في صالة اجتاحها الصمت، وكبل جوارحها بكاء
الـ
ك م ن ج
ا ت …»
ورغم أن هذه المقاطع متشظية متناثرة وربما « مرتبة اعتباطيا في قراءتها من الصفر، وسيكون لزاما على صاحبك الانطلاق من صفره الخاص، فإن الشخصيات ظلّت ثابتة، بملامح وانفعلات مألوفة طيلة الرواية، فضلا عن سارد ظل في الموقع نفسه (من خلف) طيلة العمل تقريبا. وهي سمة في الكثير من الروايات التي تمظهرت فيها المدينة، حيث ينسحب هذا التمظهر على بعض المكونات دون أخرى. ولهذا فإن عبد الرحيم العلام يجزم أن علاقة الرواية العربية بالمدينة ظلت باهتة.
السرعة
تشمل السرعة زمن الحكاية وما يلحقها على مستوى الترتيب من استرجاع (Analepse) أو استباق (Prolepse )، أو على مستوى المدة من التلخيص (Sommaire) أو الحذف (Ellipse)- على النحو الذي بيّنه جيرار جنيت في « Figure3»-، وهي تقنيات تنسحب على الرواية عموما بما هي نتاج المدينة، وبالتالي فهي تقنيات نجدها في كل الروايات، وقد نجدها أيضا في باقي السرود غير الرواية.
لكن السرعة باعتبارها دالاّ على حضور المدينة في الرواية ترتبط أكثر بما يتم تشغيله من مكونات لخلق الفضاء السريع المتوتر والمفعم بالحركة على غرار حركة المدينة وقلقها.
فعلى مستوى اللغة، سواء في صوت السارد أو أصوات الشخصيات، فإن الرواية قد تشغّل السرعة في ترتيب الأصوات بصريا على السطر الواحد، وهو ما يقلّص الغلاف الزمني لمدة القراءة –مقابل المدة التي تستلزمها العودة إلى السطر-، كما تشغّل الرواية حذف أحد الأصوات فتمنح إحساسا بالكثافة والسرعة والضيق الذي هو سمة من سمات المدينة، كما في المقطع التالي من «المرأة والوردة»:
«قل لي. هل لا تزال تتخدر؟ أريد أن أقول هل لا تزال تكمي الكيف؟ آه يا صديقي ! الكيف شيء رائع… نعم؟ ماذا؟ ليس صحيحا؟ أعتقد أن العكس هو الصحيح…»
ولعل الإحساس الذي تولّده الرواية على مستوى المكوّنين الأخيرين يكون أعمق في خلق الفضاء المديني. اللغة المتشظية، والسرعة في ترتيب الجمل، وبناء الشخصية المرتبكة السريعة التائهة وغيرها من المكوّنات يُبرز تمَثل المدينة وحضورها الحقيقي في الرواية، ذلك أن العنصر الأول، أي المضمون، في استثماره للمدينة على مستوى العنوان أو نسبة تردد الاسم أو اللفظ في النص ليس –في نهاية المطاف غير اشتغال على مادة معيّنة قد لا تمنح للنص علامة أو سمة تحيل على المدينة أو على غيرها.
لكن هل المدينة هي البيضاء والرباط وبني ملال وغيرها – داخل الرواية؟
إننا لا نتحدث عن المدينة في العنوان وفي الاسم واللفظ وترددهما إلا داخل الأعمال الإحصائية للأمكنة وليس للمدينة، مثلما لايمكننا دراسة الفلك في النص السردي لمجرد وصف الكاتب لحبيبته بالنجمة والبدر والشمس،أو البحث عن الميكانيك في القصة لمجرد أن الكاتب ذكرَ السيارة ومحول السرعة والفرامل…إذ لاتعدو أن تكون المدينة هنا سوى أحد اختيارات الكاتب ضمن اختيارات عديدة للأدوات والمكونات السردية التي تشمل الشخصية والحدث والزمن وغيرها باعتبار أنها تقنية فقط تسعى لإقناع القارئ وخلق انطباع بالحقيقة.
وبالتالي فإن تلقي المدينة داخل العمل الإبداعي ليس تلقيا طوبوغرافيا أو جغرافيا –تماما مثلما لا نتلقى ضمير المتكلم بكونه صوتا وجوديا-، فبني ملال في الرواية ليست بني ملال التي نزورها أو نقطنها،إذ قد يُضخمها الكاتب أو يضئِّلها أو يمدها وفق ما يخدم اشتغاله في الإقناع السردي،والمدينة في الرواية ليست المدينة الحقيقية ولا ينبغي لها،ولو صارت كذلك تماما بكل التفاصيل ذات الصلة بالمكان»لاستحال مفهوم الحيز إلى مكان،ولانقلب المكان إلى جغرافيا،وحينئذ لايكون للخيال ولا لجمالية التلقي معنى كبير»)، والكُتّاب الجدد لا ينقلون المدينة بالاسم أو الوصف، وإنما»اغتدوْا يزعجون الحيّز –كما يزعجون اللغة ويعذّبونها- ويُعْنتونه ويُضنونه ويسيئون إليه عن وعي فني».
ولهذا يغدو التشظي والتفتيت والتيه والسرعة عناصرَ تدلّ على تمثّل الكاتب للمدينة في استحضاره لها داخل العمل، ذلك أن ما تنقله الرواية آنئذ هو فكرة عن المدينة، وليس المدينة ذاتها.
(°) قاص وناقد، من أعماله «العقل الحكائي: دراسات في القصة القصيرة بالمغرب» ومجموعة «الطيف لا يشبه أحدا»..