المرأة واللغة

إذا كانت اللغة ظاهرة اجتماعية يتوسلها جميع أفراد المجتمع قصد التواصل بها في ما بينهم ومع ذواتهم؛ فهل علاقة الرجل باللغة هي نفس علاقة المرأة بها؟ ولماذا يلغي حضور رجل واحد ملايين النساء في جملة يصرف فعلها ضرورة إلى جمع المذكر السالم؟ بل لماذا يوضع المؤنث بين قوسين في بعض الاستمارات والمباريات كقولها: اسم المترشح(ة)، هل وجود المؤنث مؤقت لهذه الدرجة وعليه أن يختفي في أقرب فرصة؟ وهل حقا أن مركزية الرجل في مختلف اللغات ترجع لكونه هو واضعها في زمن البدايات الأولى للمجتمعات البشرية (فترة المجتمعات الأبيسية)؟ وهل هذا يعني أن العالم قبل اختراع اللغة لم يكن يخضع الأشخاص لتراتبية معينة، وهذا يدل أن ماضي البشرية أعدل من حاضرها؟ وماذا عن تصور فرويد الذي تمثل المرأة تعيش حياتها متحسرة لكونها لم تأت للوجود ذكرا؟ وماذا عن التوصيف النحوي للمذكر باعتباره اسما عاقلا خاليا من تاء التأنيث؛ فهل هذا يعني أن المؤنث غير عاقل حيث ذهب عبد الله الغدامي في كتابه «المرأة واللغة» إلى القول ساخرا»:» من أهم شروط جمع المذكر السالم أن يكون عاقلا، بينما لا فرق بين المرأة والشيء غير العاقل في جمع المؤنث السالم، فنقول: تلميذة/تلميذات، طاولة/طاولات» وما الخلفية الأخلاقية التي تحكم البعض عندما يقول هذه الجملة الجارحة في حق المرأة:» الحرمة، أعزك الله.» وهل تسوغ لنا هذه الاختلالات القول إن اللغة العربية مريضة يلزمها الكثير من التقويم لتجاوز علاتها؟ وإذا كانت المرأة تتساوى مع الرجل في صناعة جودة الحياة، ألا يشترط هذا مطالبتهما معا بلغة عادلة؟ وإذا كان المدخل المناسب لتصحيح أعطاب اللغة العربية هو التنشئة الاجتماعية؛ هل يعني هذا أن المجتمع مطالب بتهييء المرأة معرفيا -بحكم قربها من النشء في صباه- لتمرير ثقافة المساواة والتكامل لا تربية التفاضل؟ وكيف لنا أن نطالب المرأة بالحضور الكامل في الكتابة وهي غائبة في اللغة؟ ونحن في هذا المقام لا ننكر أثر الهرمونات على المزاج والتفكير، لكن هرمون «الأستروجين» الأنثوى ليس مصدر صفات الأنوثة السائدة اجتماعيا من حيث الخضوع والضعف.. فالتنشئة الاجتماعية هي المسؤولة عن سلوك المرأة لا طبيعتها البيولوجية.. كما أن هرمون الذكورة «التستوسترون» ليس السبب وراء العنف الذي يميز الرجولة ولكنها التربية الاجتماعية أساسا…
في الواقع الخلل اللغوي متجذر في ذهنية المجتمع العربي يكفي أن نعلم أن ابن جني (فقيه فقهاء اللغة) قال:» إن التذكير هو الأصل في اللغة.» وردت عليه نوال السعداوي بعد عشرات القرون بكتابها» الأنثى هي الأصل.» وسبقها الزمخشري في « أساس البلاغة» إلى القول» كل الكائنات الموجودة في المجرة مؤنث مجازي، على الرغم من أن شكلها مذكر لفظيا.» وقال الكوفيون: «إن كل جمع مؤنث.» كما قال ابن عربي انتصارا للأنثى: «كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه.» لكن بسيرنا في هذا الأفق: أقصد الانتصار لطرف دون آخر نسقط في نفي النفي الذي لا ينتج إلا العدم والحال أننا مطالبون بأنسنة اللغة لا تأنيثها أو تذكيرها !!كفى من ثقافة تقوم على التمييز واللامساواة.. وفي ذات السياق استدعى أبو حيان التوحيدي الآية التالية: «يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور.»(الشورى، 59) ومن القراءات التي راجت حول هذه الآية: قيل قدمت الإناث على الذكور لتشريفهن.. وقيل عرف الذكور ووردت الإناث نكرة.. وقال آخر التعريف أشرف من النكرة في التقديم… كما ذهب التوحيدي نفسه في كتابه «الهوامل والشوامل» إلى القول:» إن تأنيث العرب للشّمس راجعٌ لاعتقادهم أنها من الكواكب الشريفة، وكلّ ما كانَ أشرف عندهم عبّدوهُ، ولهذا عبّدوا الشّمسَ وكان من أسمائها «اللاَّتَ» التي كانت من أعظم معبودات العرب.»(ص266) لكن بصرف النظر عن هذه الاجتهادات.. ألا تحتاج لغتنا العربية لصوت حكيم يجنبها كل هذه المنزلقات والملاسنات المجانية، أم أن بقايا تاريخ المجتمع الذكوري المعطوب يلزمه الكثير من الجهد والوقت والمعرفة لتصحيح أخطائه؟ فالانتصار للذكر على حساب الأنثى في اللغة قد يعتبره البعض مجرد قواعد نحوية يمكن القفز عليها بسهولة.. لكن الواقع غير ذلك، فالمرء لا يتواصل مع ذاته والآخر والوجود إلا من خلال لغته، فهي المحددة لصيغة تفكيره وكيفية تصرفه.. فقط ينبغي ألا يفهم من هذا الكلام أن مركزية الرجل في اللغة حكر على اللغة العربية يكفي تأمل حضور الرجل في اسم جنس المرأة في اللغة الانجليزية: Wo-manوهو محور الحضارة الإنسانية في مفردة: Hu-man ومحورية الرجل في اللغة الانجليزية تجعل المرأة مجرد إضافة لفظية ليس إلا!!
إن هامشية المرأة في اللغة لا تقتصر على المعرفة النحوية فقط، بل تمتد للفلسفة حيث غابت المرأة عن محاورات أفلاطون مثلا بل وذهب إلى القول:» إن الحب الحقيقي هو ما كان بين الرجل والرجل(…) وللمجتمع أن يكافئ الرجال المحاربين بمنحهم النساء جائزة لهم على شجاعتهم.»(1) وذات الدونية كرسها الأدب اليوناني في حق المرأة وتكفي العودة لمسرحية» أنتيكون» لسوفوكل حيث أوصى كريون ابنه قائلا» يجدر بالمرء ألا تلين له قناة أمام امرأة في أي شأن من الشؤون، بل من الأفضل له أن يطاح به من الحكم على يد رجل.» بل حتى النص الذي يمكننا اعتباره كونيا؛ أقصد بذلك نص»ألف ليلة وليلة» حصر دور المرأة في إمتاع الرجل سواء بالحكاية أو الجنس.. بل إن السؤال المربك الذي طرحه عبد الله الغدامي له أهمية بالغة في هذا المقام حيث تساءل: «هل كانت شهرزاد تحكي فعلا أم أنها مجرد شخصية روائية من صنع رجل تخيل النص وكتبه.»(2) وإلى اليوم لا يبدو أن المجتمع الدولي غير من أحكامه تجاه المرأة.. ولاتزال أفكار جاهزة تحكم الكثير منا ومنها: أن الرجل يحركه العقل، والمرأة تحركها العاطفة.. وهذا يعني أن الرجل عقل والمرأة جسد! وأن الرجل هو اللفظ والمرأة هي المعنى!!! بل إن بعض العبارات المسكوكة والتي تعطي الانطباع للوهلة الأولى أنها تنتصر للمرأة هي غير ذلك في العمق.. ولنتوقف عند عبارة.. «فلانة/الفحلة خير من ألف رجل.» صحيح جدا أن المفاضلة هنا بين المرأة والرجل مع الانتصار للمرأة ظاهريا لكن يبقى مقياس الجودة هنا دائما هو الرجل !!سياق مجتمعي معطوب عمل على تصميت المرأة لا لمجرد منعها من الكلام، ولكن منعا لها من الحضور في اللغة وبالتالي في الحياة!!
وبعيدا عن الفكر والفلسفة والأدب، تحضر دونية المرأة في لهجات التواصل اليومي وبشكل أدق لحظة الغضب والشتيمة حيث يلعن الكثيرون أديان الأمهات حصرا، وأجهزتهن الجنسية باعتبارها أحقر شيء في الوجود!! والحال أننا جميعا جئنا للوجود من رحم امرأة. مآل يذكرنا بقول المتنبي وهو ينشد منتصرا لأخت وزوجة سيف الدولة:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
ولو كان النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال
نخلص إلى أن اللغة كائن حي متطور وليس بنية جامدة ومقدسة، بمعنى أنها قابلة للتطور والتطوير. وهي مرآة لعصرها. وبالتالي فمن العبث التشبث بقواعد مسيئة للمرأة والعالم انتهى إلى قناعة مفادها: إذا أردنا صوغ مجتمع منصف للجميع علينا أولا تأسيس لغة عادلة. فنحن في مسيس الحاجة للغة منصفة ذات أفق إنساني يساوي المرأة بالرجل بعيدا عن التحيز الجنسي للذكر.. لكل هذا « فالتذكير والتأنيث مفهوم ثقافي وتصور ذهني، وليس قيمة طبيعية جوهرية.»(3) ولنا في تجربة فرنسا سنة 2017 خير مثال، حيث قاد لفيف من الأساتذة حملة جمعوا خلالها نحو 27 ألف توقيع في عريضة تطالب بإلغاء قاعدة التذكير والتأنيث في اللغة الفرنسية باعتبارها تحيزا ضد المرأة.. وإن انتهت الحملة إلى استبدال مفردة «سن اليأس» بسن النضج، فلا يعقل رهن المرأة بالإنجاب على مدار التاريخ!! وأسقطت مفردة عانس واحتفظ بمفردة العزباء بصرف النظر عن السن.. وبخلاف هذا السياق الغربي، اتصف الوطن العربي بتراجع بعض الأقلام التنويرية والنسوية عن أفكارها الثورية السابقة وكأنها ردة موازاة مع المد الوهابي الدخيل علينا.. ومع كل هذا يبقى الرهان على لغة عادلة، أولوية لأنها وعاء يشمل تطلعات مجتمع يرنو للانعتاق والتحرر من كل أصناف التمييز.
———————

(*)ناقد أدبي.

إحالات:
فؤاد زكريا، دراسة لجمهورية أفلاطون. القاهرة، دار الكتاب العربي، 1967، ص99/100.
عبد الله الغدامي، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، ط/3-المغرب،2006، ص59.
عيسى برهومة، اللغة والجنس، الأردن، دار الشروق، ط/1-2002.ص33.


الكاتب : محمد رمصيص(*)

  

بتاريخ : 09/05/2025