في قلب المستشفيات والمراكز الصحية العمومية، تتردد يوميا صرخات الألم التي يطلقها المواطنون، لكن ما لا يلتفت إليه كثيرون هو أن بين الجدران نفسها صرخات أخرى مكتومة، صرخات الأطباء والممرضين وتقنيي الصحة والقابلات والمروضون ومساعدي العلاج وتقنيي النقل والإسعاف الصحي والأطر الإدارية والتقنية الذين أنهكتهم الظروف، وأتعبتهم معركة صامتة يخوضونها ضد الإهمال والضغط والتهميش والاعتداءات والتنكيل اليومي. إنهم جنود في الخطوط الأمامية، يداوون الآخرين فيما جراحهم النفسية تتسع بصمت.
فهذا الذي يقف لساعات طويلة بلا انقطاع، وهذه التي تركض بين عشرات المرضى بحثا عن سرير أو دواء غير متوفر، وذلك الذي يعمل بأدوات عفا عنها الدهر… جميعهم يعيشون ضغطا ينهش الروح والجسد. إنهم بشر، لكن يُطلب منهم أن يكونوا آلات لا تتعب، وأن يقدموا المستحيل في واقع لا يمنحهم أبسط مقومات العمل الكريم.
وراء المظهر المهني الصارم تختبئ حكايات صادمة: أطر صحية أصيبوا بأمراض مزمنة جراء الإجهاد المستمر، وآخرون عانوا من انهيارات عصبية، وحالات انتحار مفجعة لأطر لم تعد تحتمل ثقل المسؤولية ولا قسوة الصمت المجتمعي. إنها قصص حزينة قلّما تجد طريقها إلى العلن، لأن بوحهم يُعتبر ضعفا، في حين أنه في الحقيقة صرخة استغاثة. المسؤولية هنا لا تقف عند تحسين الرواتب أو تجهيز المستشفيات فقط، بل تتعداها إلى إعادة الاعتبار للإنسان الذي يرتدي الوزرة البيضاء. إنهم يحتاجون إلى دعم نفسي، إلى حماية قانونية، إلى برامج تمنعهم من السقوط في فخّ «الاحتراق المهني». إن إصلاح الصحة لا يمكن أن يكتمل إن ظل من يسهرون عليها ينزفون في صمت.
اليوم وأمام تزايد حملة التشويه والمس بمهنيي الصحة وتحميلهم مسؤولية فشل السياسات العمومية للصحة وعجز منظومة بسبب حكومة تعشق لعب أدوار الاستعراض والبحث عن الشماعة، فإننا نطالب بلحظة وعي ووقوف جماعي إذا أردنا لمستشفياتنا أن تشفى، فعلينا أولا أن نُداوي من يداوي. إن التوفر على منظومة صحية عادلة هو مطلب جماعي من أجل حماية المريض والسهر على علاجه، وضمان كرامة المهنيين، لان الأمر يتعلق ليس بمجرد معركة إصلاح، وإنما معركة كرامة وحياة.