على سبيل التقديم
بالمركب الثقافي والخزانة البلدية بالحي المحمدي، طيلة عشرة أيام، عاش الجمهور العاشق للمسرح نشاطا ثقافيا راقيا حمل يافطة مهرجان المسرح الوطني في دورته الخامسة، دورة الفنان الفقيد أحمد كارس، تحت إشراف مقاطعة الحي المحمدي بشراكة مع نقابة المسرحيين المغاربة وشغيلة السينما والتلفزيون، ببرنامج زاوج بين الندوات والورشات والعروض، هنا متابعة وقراءات لخمس مسرحيات، مع ضرورة الإشارة إلى أنني لم أحضر كل العروض لاعتبارات وظروف خاصة.
1 ــ كوفيد العبثي القاسي
تميز الافتتاح بعرض مسرحية «co–vide كوفيد» مقتبس عن نص لصمويل بيكيت، من إبداع مسرح شارع الفن، اقتباس وإخراج أيوب أبو نصر وسينوغرافيا طارق ربح وتشخيص المتميزين عادل أبى تراب وقدس جندل ورضى بنعيم وأمين بلمعزة.. مسرحية تحترم ذكاء المتلقي وتنكأ جراح الحياة والوجود بأسلوب موغل في السخرية العجائبية والرمزية الشفافة.. نص مسرحي مخدوم يعيد للكتابة المسرحية قيمتها الاعتبارية ويحفز المتلقي على التفاعل الإيجابي مع مضمون يحرض على تفعيل حاستي التأمل والتنديد ولا يتردد في الفضح والإدانة.
طيلة العرض المسرحي لا وجود لقصة تلم شتات ما يجري أمام المتفرج، في غياب حكاية تقليدية لها بداية ونهاية، يشرع العرض على غير المعهود بتقديم الطاقم المشرف على إبداع تحفة فنية قدمت شذرات من العبث الدال، إدانة صارخة لقسوة العلاقات الإنسانية في بعدها الطاغي، وكان تقديم الممثلين وكل المشتغلين في مسرحية «كوفيد» في البداية فعل الدهشة والصدمة مع توطئة ذكية تحذر المتلقي بأن هذا العرض لا نهاية له، وبالتالي فهو مستمر إلى ما لا نهاية حتى يغادر آخر متفرج القاعة، وبالفعل، ظل الركح مساحة تضيق وتزداد شساعة وفضاء لتجسيد علاقات إنسانية غير سليمة بين أعمى متسلط يتحكم في مسار الأحداث، أعمى دكتاتور في ثوب جلاد قاسي يوجه التعليمات وأوامر القبول بالأمر الواقع المرضي دون مراعاة للجراح التي يسببها لتابعه «كلوف»، تابع فاقد للقدرة على التمرد والرفض، وهو في ثوب الطفيلي المنزوع للإرادة، ظل خادما منصاعا لتنفيذ أوامر الأعمى القاسي، كل همه الركض بين القضبان وتسلق أدراج سلم رقابة وظيفته الصعود بتابع الجلاد والاطلاع على المحيط وترصد الفضوليين والطفليين المفترضين.
في ديكور سريالي قائم على رمزية القضبان ، تحرك الأعمى الدكتاتور وتابعه المسلوب الإرادة، لتقديم لحظات علاقات غير سوية، في عمق الركح، وتبادل حوارات يغلب عليها القسر وانتفاء التفاهم الإنساني المفترض، وانتقال مقزز بين أحداث متلاحقة تحكمها علاقة متوحشة ونقاش متعال لا يحترم أبجديات التواصل الهادئ.
وعلى هامش المشهد، يمينا ويسارا، زنزانتان بهما شيخ وشيخة هما في الظاهر زوجان باعدت بينهما قضبان أسر غرائبي مارسه عليهما الأعمى المتعطش لتعذيبهما وحرمانهما من وسائل العيش والقدرة على البقاء في الحياة، حيث يعطيهما الخبز بمقدار ويسمح لهما بالحركة بمقياس، ويمنعهما من الاقتران والاقتراب من بعضهما البعض في اليومي المشؤوم.
2 ــ عن عطاي لعزارة
وحين ينجح التوظيف الفني في استثمار المحكي الشعبي ويبدع نصا مسرحيا بادخا يهدي للمتلقي فرجة راقية تحترم قداسة الفن وتغني الريبرطوار المسرحي بعمل جاد جميل، مناسبة هذا الكلام العرض المسرحي الموسوم ب»عطاي العزارة»، الذي أثت الليلة الثانية من برنامج المهرجان الوطني للمسرح في دورته الخامسة بالمركب الثقافي الحي المحمدي.
عمل مسرحي راق لفرقة المحترف الذهبي للفنون الدرامية، من تأليف الدكتور عبد المجيد سعد الله ودراماتورجيا وإخراج سامي سعد الله وسينوغرافيا ياسين الزاوي والمحافظة العامة المهدي لدري، وتمثيل فنانين متمكنين مهووسين بإثقان التشخيص وجودة تقمص شخصيات الحكاية، وهم جميلة مصلوحي ومصطفى اهنيني وسارة فارس ونور الدين سعدي.
نص مسرحي ممتع وظف حكاية حب مستحيل بطلاها شعيبة الرداد الفقيه الورع وعويشة البحرية بنت ربيعة المنصاعة لنبض العشق واشتهاءاته المفترضة، ومتح تفاصيله من صراع الخير والشر، الموت والحياة، طيبوبة العاشِقين وسطوة القبيلة المتجسدة في رمزها الطاغي الشرير بومهراز.
طبعا هذا العمل الفني الجميل يحتاج لقراءة متأنية ترصد الجهد المبذول من طرف طاقمه المجتهد، وضبط حكيم لعناصر جمالياته، بدءً بالديكور البسيط في عناصره وتركيبته والغني في إيحاءاته ودلالاته، مرورا بنجاح التشخيص وتألق الممثلين والممثلات في شد اهتمام القاعة بأدائهم الاحترافي واحترامهم لقداسة الركح، قريبا من شروط الفن المحلقة في فضاءات التخييل والإبداع وإغناء المحكي بما يوحي بواقعية واثقة من تحفيز المتفرج على التعاطف مع ابطاله وما تتيحه حكاية عطاي العزارة من إمكانية تفكيك التمثلات الشعبية لشخصياتها الرئيسية ومصائرهم المفترضة، بعيدا عن الابتذال والتهريج الممجوجين، وبعيدا أكثر عن استجداء الضحك الكسول والكوميديا المصطنعة البليدة.
3 ــ نقوش على الخواء
الليلة ، تأكدت من خطأ مقولة «الجمهور عايز كذه» التي يرفعها في وجوهنا فراقشية المسمى مسرحا، بالحي المحمدي، قلعة الثقافة والفن ، امتطى فرسان المسرح الجاد صهوة إبداع يحترم المتلقي ويهديه فرجة تمتح من ميكانزمات الفن النبيل وأدواته المبهرة، وتجعله يستعيد أمجاد المسرح المغربي مع رموزه العصية على النسيان، واليوم أيضا، تأكدت أن جمهور الحي المحمدي ذواق بامتياز.
ضمن برنامج الليلة في المهرجان الوطني للمسرح في دورته الخامسة بالمركب الثقافي الحي المحمدي كان لنا موعد مع مغامرة فنية بكل معنى الكلمة، عرض مسرحي راق باللغة العربية الفصحى تحت عنوان رئيسي «نقوش على الخواء» وعنوان فرعي «مذكرات امرأة تحسن الانتظار» لجمعية مسرح الأبيض والأسود، من تأليف وإخراج إدريس كسرى، وتشخيص خديجة كندي وعبد الرحمان الشركي، أشعار صونيا الفرجاني من تونس، وألحان عبد الرحيم العمري وغناء أسماء المرابط…
صراحة اعتبرت أمر توظيف الفصحى مغامرة فنية غير محسوبة العواقب في ظل سيادة التفاهة وعروض الضحك على الذقون السائدة هذه الأيام لاعتبارات معروفة ونوايا مبيتة يحكمها الربح السريع والرغبة في الإثراء الخبيث والإساءة لأب الفنون، لكن تخوفي تبخر مع تواصل حوارات المسرحية ونجاح الممثلين في شد اهتمام جمهور نوعي مشكل من كل الأجيال عارف بمعني الفرجة على نص موغل في الفصاحة وتعدد الأساليب والخطابات.
كان أساس تخوفي هو توظيف اللغة العربية الفصحى، لكن تمكن الممثلين من تقنياتهما وتفوق السينوغرافيا في منح الركح ما يجعله حلبة مناسبة لاستيعاب خطاب مسرحي تغلب عليه انسيابية الأفكار والمواقف واستعارات الحوارات الثنائية بين البطلة بقناع الموناليزا والجوكندا والبطل المحكوم بمهمة الرسام المبدع الغارق في نواياه الفنية الشقية وتمرد اللوحة /المرأة/ المرايا عن التدجين والانصياع لرغبات صاحب الريشة القلقة، حيث تعايش الرفض والتمرد والسخرية السوداءمع بوح شفاف وحوار يستثمر تقنيات النقد الفني والاستعارات الفنية بهوية شعرية بادخة وبلاغة انتقاد أفصح عن صراع المبدع مع موضوع إبداعه المشاكس، والحصيلة إطارات فارغة لوجوه استعارت من الجمهور ملامحه وصحبته معها في رحلة الفراغ ومحاولة إثبات الذات.
وأنا غارق في مطاردة معاني العرض المسرحي ومحاولة تفكيك خطابه ورسائله وجدتني موزعا بين مواقف مختلفة، مرة أقول هذا موقف نقدي فني يتموقف من فن الرسم والتشكيلي منه على وجه الخصوص، ومرة أقول هذه قصيدة شعرية فاتنة تضفي عليها روعة الإلقاء وتقمص البطلين للحالة الوجدانية التي تفرضها اللحظة المسرحية مسحة إبداعية تحلق في سماوات الإبداع المفتوحة على التخييل الشاسعة، ومرة أقول هذا العرض غني بعمقه الفلسفي الوجودي وضبط المعنى الحقيقي للفن وتبعات الصراع المفترض بين المبدع وموضوع إبداعه.. وفي المحصلة صرت أمام عمل جاد أعادنا لزمن المسرح المغربي أيام توهجه في ملاحم وعناوين حاربت التفاهة ومنحتنا فرجة فاتنة تربي في المتلقي حاسة التفاعل الإيجابي وتدعوه للاستمتاع بتشخيص احترافي متمكن.
4 ــ الحلقة بمنظور معاصر
الليلة.. كان موعد جمهور الحي مع مسرحية «حيحا» لمسرح لبساط، من إعداد وإخراج عبد الفتاح عشيق، وسينوغرافيا طارق الريح، وتشخيص مونية لمكيمل وكوثر شهوان وعادل نعمان ورشيد عسري ومصطفى السميهري.
عرض مسرحي جميل تألقت فيه مونية لمكيمل وتلة من الفنانين الموهوبين، أساسه فرجة ممتعة قامت على «الحلقة» كإطار فرجوي شعبي له حضور وازن في ذاكرة الموروث ووجدان المغاربة، حلقة بشكل حافظ على طقوس معروفة متوارثة تتحكم في الحلايقية بمختلف تلويناتهم وأساليبهم الفرجوية، ومحتوى معاصر يروم وضع اليد على العديد من العاهات السياسية والاجتماعية تنخر مجتمعا يعاني من أمراض وسلوكات مقرونة بالخواء الفكري والعاطفي.
«حيحا» بالمفهوم الدراجي المتداول هي لحظة انفلات تداعيات المحكي من فخاخ الوعي والانسياق وراء حالات انفعالية ترفض الانصياع لواجب المهادنة والتصالح مع تمظهرات غارقة في التخلف وأعطاب جسدتها المسرحية بسخرية سوداء أثقن الممثلون الإمساك بمضمونها النقدي وأجادوا في إبلاغ رسائلها بتشخيص احترافي متمكن نجح في انتزاع تصفيقات الجمهور وتفاعله الإيجابي مع مجهود إبداعي متميز.
لم تسجن الفرجة مضمونها في جغرافيا ضيقة، بل طافت بعين الناقد الساخر بين المحلي والإقليمي، تنقلت بلسان المتمرد السليط فوق جراح وطن من المحيط إلى المحيط، وتناوب الممثلون والممثلات في تقديم عاهات جغرافيا العالم العربي، بدء بتأسيس جمهورية وهم قائمة فوق أرض انتزعت بالقوة وحكومة وزع متسلطها المثير للسخرية المهام والمسؤوليات على بيادق/وزراء هاجسهم التسلط دون مقومات تليق بأي مسؤول مناسب في غياب شعب مفترض.
وانتقل بنا العرض من ساحة الحلقة المحلية إلى الحانة كفضاء غياب مؤدى عنه وحضور كوميدي للشيخة أحلام واكسسواراتها الجمالية المصطنعة والغارقة في جو «النشاط» والدوخة وغواية البريئة بإغرائها بالمال وأقدم مهنة في التاريخ والقبول بالزواج من شيخ تسعيني والعناية بزبائن اللذة الحرام، وعرج بنا العرض نحو أصحاب الخطاب المتفيقه وحبكة تزويج المتحجبة بالبارد جنسيا من أصحاب قوس قزح، حيث المظاهر خداعة والنفاق عملة والكبت وصمة جيل.
والحاصل وما فيه ، نجح المخرج والممثلة المتألقة مونية لمكيمل ومعهما ثلة من الفنانين المتميزين في إهدائنا فرجة ممتعة تفاعل معها الجمهور الغفير، وأطربتنا بفقرات غناء شعبي هويته مأخوذة من عبيدات الرما ومصاحبة موسيقية بالعود زادت العرض تأثيرا وجمالا.
5 ــ قطرة أو حين يموت الحلم
عرض الليلة مسرحية متميزة مشحونة بالرموز والرسائل والدلالات في قالب فني متمكن وإخراج احترافي أبدع في تقديم فرجة ذكية شدت اهتمام جمهور واع وفر للممثلين طقسا مثاليا في التلقي منحهم شحنة قوية دفعتهم لتقديم تشخيص مفرح أكد أن المسرح المغربي يبقى اب الفنون وسيدها الممتع.
قطرة عنوان دال.. من إبداع مسرح نيونس، تأليف أحمد السعداوي، إخراج زكرياء حسني، وسينوغرافيا عبد الرحيم الكيحل، الإضاءة والصوتيات توفيق بلخضر، وتشخيص مريم حراتي وأسعد حميمصة وأسامة الوهابي ورشيد بيضار وياسين عفيفي.
مساهمة إبداعية تمحورت حول التواجد في ثقب، حيث صراع الأضداد وسيطرة الظلمة وتقاطعات رمزية تستمد هويتها من الخلط المتعمد بين الأسفل والأعلى والخوف من الرحيل وتطاحن المصالح وضبط موت الحلم في ثقب هو نفسه نسخة لما هو موجود في الأعلى.
الأعلى الموسوم بالظلم والطغيان والعبث، ورديفه التواجد في ثقب هو ورطة حياة بؤس وغياب أحلام، وشخصيات متناقضة نصادف نماذج منها في يومنا الشقي، في الأسفل المظلم، عامل مظلوم، يتوهم النجاة بتمسكه بالكاسك/القبعة كغطاء واق يحتاجه من يطمح للإفلات من شقاء الوجود والوصول الانتهازي لضفة المحظوظين، عامل بسيط حوَّله المتسلط من ضحية إلى المسؤول عما وقع له وما يعيشه من ضنك وأعطاب وتداعيات أبرزها فقدان ذراعه الأيسر، وبالمقابل ظل البستاني/الفلاح راعي الوردة يقفز من دور الجائع العطشان الذي ينتظر قطرة حياة ونمو الوردة وينحاز للمتسلط القاسي أغلب الأحيان، وحين تختلط المفاهيم، يسهل على الطاغية اتهام الضحية وتحميلها مسؤولية العطب والتواجد في ثقب مظلم.. ومعهما تبرز حكاية الملتحي المستيقظ من النوم/الموت والمتمسك بحقيبة غامضة حوت ملابس داخلية وسجائر ومسدسا فارغا تأكيدا لعنفه المفترض واضطرابه وبقائه مشدودا لطفولة عاشها محروما من لعب عوضتها الجدة بخرشاشة خرافية وظيفتها الإلهاء وتنويم الحواس.
وبين هذا وذاك، تحمل صوت نسوي فيروزي مخبأ في خندق رمزي في يمين الركح به ضوء خافت مهمة تلخيص الواقع الموبوء عبر مقاطع غنائية جميلة موغلة في نشيد التنديد والإدانة ومناحة ترثي موت الأحلام وسواد المصير المؤلم، وبيسار الركح عازف فنان تجاوز عزفه ستار الخندق الشفاف وجعل الألحان تصاحب صرخات الممثلين في تواطؤ موسيقي محكوم ببؤس اللحظة.. وهو اختيار تقني تعمد فيه المخرج إشراك المغنية والعازف بالظهور على خلفية الركح وتأكيد مشاركتهما الإبداعية على قدم المساواة مع الممثلين.
وظل التساؤل عن هوية التواجد في ثقب يحمل همّ فضح حقيقة ما هو في الأعلى، بحوارات موسومة بالتوتر والتنافر وملامح شقية تعاني الحرمان وشقاء جفاف العواطف، في إطار مسرحي نجح مخرجه في استثمار الركح بذكاء يضيف للمسرح المغربي عملا فنيا جادا تفاعل معه جمهور الحي المحمدي وحاز تشجيعا صادقا يفرح القلب.