إن المسرح المغربي لا يبتعد كثيرا، من حيث أسئلته الإشكالية، عن المسرح العربي، ذلك أنه، بدوره، قد طُرِحَ ضمن إشكالية الهوية و النشأة و الوجود، فقد خاض زمنا طويلا في الإجابة عن السؤال القديم الحديث: هل يوجد مسرح مغربي ذو جذور ممتدة في القدم؟ و هو السؤال الذي أفرز الكثير من الآراء التي تأرجحت بين التأكيد و النفي، و إن كان أكثرها ترجيحا قد انتهى إلى حل المعادلة بالقول: إن المسرح المغربي بالمواصفات المعروفة للمسرح لم يظهر إلا في فترة متأخرة مستورَدا من الغرب، بينما الأشكال الفرجوية الشعبية من حلقة و بساط و سلطان الطلبة و سيدي الكتفي و اعبيدات الرما…ما هي إلا إرهاصات كان بالإمكان أن تصير مسرحا لو تم تطويرها و الاهتمام بها من منظور مسرحي، لذلك فهي في أحسن الأحوال أشكال ما قبل مسرحية.
لكن المسألة لم تنته نحو الحسم لأن هناك من أصر على رد النشأة باعتبارها بدايةً إلى هذه الأشكال الماقبل مسرحية، التي سماها الإنسان المغربي «مسرحا»، وشكل معرفته الأولى بهذا الفن عن طريق هذه الأشكال. من هنا كانت المادة التراثية حاضرة في الممارسة المسرحية منذ سؤال النشأة، وصاحبت كل مسارات النقاش المغربي في مختلف سياقاته سواء النظرية أو الإبداعية.
فاشتغال الطيب الصديقي على التراث اتخذ أشكالا مختلفة، حيث استثمر المادة التاريخية كما في مسرحيات: «المغرب واحد» و«المولى إدريس» و«معركة الملوك الثلاثة»، واستند إلى الأشكال الفرجوية التقليدية ذات الجذور التراثية الشعبية كالحكايات والخرافات الأسطورية كما في مسرحيتي: «سيدي عبد الرحمن المجذوب» و«الحراز». أما جهود الطيب لعلج فتجلت في استنطاق المادة التراثية، خاصة الحكاية الشعبية كما في مسرحيتي «النشبة» و»قاضي الحلقة»، والموروث الشعبي المتنوع (الأغاني، الأهازيج، الرقصات، الكلام العامي المسجوع…) كما في مسرحيات: «السعد» و»حليب الضياف» و»البلغة المسحورة .
وتمخض عن جهود الطيب الصديقي والطيب لعلج بروز مسرح شعبي قائم الذات وواضح الملامح، يمتح من خصوصيات الوجدان الشعبي، ويمتد في الجمهور الواسع، وأسس للحظة النشأة في المسرح المغربي ومنحها وجودها الخاص بالاعتماد على المادة التراثية وتوظيف ملامح بارزة من مخزونها من الفنون الشعبية المغربية وما تتضمنه من أهازيج وإيقاعات ورقصات…، بل مهدت جهودهما الطريق أمام جيل من المبدعين المسرحيين الذين ربطوا النشأة المسرحية المغربية والبحث عن وجودها بالقدرة على الحفر في الذاكرة التراثية واستلهام مخزونها.
وقد ظهرت الاحتفالية تيارا مسرحيا يسعى إلى تأسيس خطاب درامي متميز في المسرح المغربي والثقافة العربية عموما. وقد أكد المسرح بالمغرب الوجود الفاعل للتنظير المسرحي الاحتفالي، واهتمامه المستمر بمسألة تأسيس السؤال النقدي حول الممارسة المسرحية في الوطن العربي، فالاحتفالية، إذًا، تعلن مشروعها لتأسيس مسرح ذي هوية مغربية – إبداعا، ثم نقدا، ثم بعد ذلك تنظيرا – في محاولة لتجاوز الشكل الكائن وتصور الشكل الممكن الذي يساهم في خلق صيغة مسرحية تنطلق من معطياتنا نحن – يقول عبد الكريم برشيد: «إن البحث عن المسرح الاحتفالي يمر عبر : الحفر في الثقافة العربية، وذلك بحثا عن المواد الخام التي يمكن توظيفها وتصنيعها مسرحيا»، كانت العودة إلى التراث لبنة أساسية لقيام المشروع الاحتفالي، اعتبارا منه أن حضور التراث هو في جوهره حضور أشكال قادرة على إيجاد الصيغة المسرحية المتميزة التي تتجاوز نمطية الشكل الغربي ذي الأصول الإغريقية كـ «دراما» وذي الشكل الإيطالي كـ«خشبة». هذه الأشكال التي يمكن استخراجها من التاريخ العربي عموما من خلال حكاياته وأساطيره الشعبية والأمثال والحكم السائدة، والأزياء والوشم والألعاب والاحتفالات والأعياد فهناك – حسب التنظير الاحتفالي – مجموعة من الفنون لم يتم تناولها مع أنها تمتلك مؤهلات هائلة في خلق التواصل بين المبدع والجمهور وتمكن، بالتالي، من مخاطبة وجدان الشعب عبر تراثه الفني والأدبي والفكري، وعبر قراءة هذا التراث قراءة ثانية تفجر المختلف داخل المؤتلف، وتقتلع الممكن من تحدي الكائن وتجاوز الجاهز. تبقى فقط ضرورة تحويل هذه الأشكال التراثية تحويلا فنيا وتوظيفها توظيفا مسرحيا وإلا ستظل أشكالا عمياء صماء لا تمتلك إمكانية المسرح، وهذا التحويل الفني والتوظيف المسرحي للتراث لا يمكن أن يتم كفعلِ مرورٍ من المادة إلى الشكل إلا عبر طرح تساؤلات منهجية مثل: «كيف نعالج المواد الأولية معالجة مسرحية احتفالية؟ معالجة تحررنا من الماضي والغائب والوهمي، لتفسح المجال أمام الحاضر والملموس والحقيقي، كيف نحول الشفهي إلى مكتوب وذلك حتى يصبح اللامسرح مسرحا، وتتحول الحكاية إلى واقع حي؟». عبر هذه التساؤلات المنهجية يرمي التنظير الاحتفالي إلى استلهام التراث وصولا إلى إقرار صيغة مسرحية جديدة، هي الصيغة الاحتفالية ذات التنظير لمسرح شعبي، لذلك ارتبطت التراثية بالشعبية في المنظور الاحتفالي.