تطرح الممارسة المسرحية في بلادنا اليوم عدة تساؤلات خاصة على مستوى الأفق التنموي الذي يمكن أن تؤسس له داخل المشهد الثقافي المغربي. ضمن هذا السياق و في إطار مهرجان سيدي مومن للمسرح بالدار البيضاء الذي تم تنظيمه في دورته الثالثة نهاية الأسبوع المنصرم من طرف جمعية معالم النور للثقافات و الفنون بدعم من وزارة الثقافة والشباب و التواصل و بتنسيق مع عدد من المؤسسات العمومية و الخاصة تم عقد ندوة فكرية يوم الجمعة الماضي بالمركب الثقافي حسن الصقلي بالدار البيضاء، حاول من خلالها عدد من المنتمين للفن المسرحي مناقشة واقع المسرح المغربي اليوم في علاقته بالتنمية الثقافية.
و قد أشار مسير اللقاء الشاعر والناقد جواد مرزوق في البداية إلى أن تنظيم هذه الندوة يأتي تناغما مع ما يطرحه واقع التنمية البشرية من تحديات على العمل المسرحي بشكل عام. وقد كانت مداخلة الباحث في النقد المسرحي محمد المودن أشبه بأرضية انطلاق أمكن البناء عيلها لفتح باب المناقشة الفكرية خلال هذا اللقاء المسرحي الخاص، خصوصا أن السؤال الذي طرحه المودن في بداية كلمته انصب أساسا حول الآفاق التنموية الممكنة التي يمكن للمسرح المغربي اليوم أن يرسمها؟ خاصة أن السياق العالمي الراهن يفرض غزوا ثقافيا تتعرض له أنماطنا الثقافية العربية حسب إشارة نفس المتدخل. الأمر الذي جعل هذا الأخير يؤكد على ضرورة الانتباه أن تتجاوز المؤسسات التعليمية و جمعيات المجتمع المدني محدودية انخراطها في صناعة فعل ثقافي حقيقي خاصة مع وجود افتقار في البرامج الميدانية الواضحة و صعوبة التمويل بالاضافة إلى اندحار الثقافة المسرحية وسط المجتمع المغربي في ظل ارتفاع منسوب الأمية القرائية و محدودية المستوى التعليمي وسط أجيال الشباب. ما جعل المودن يعتبر أن هذه المعطيات تؤشر لوجود أزمة ثقافية حقيقية تعيشها مختلف أشكال الفنون الأخرى حاليا ببلادنا،وهو ما يجعل أيضا حسب نفس المتحدث يؤكد أن الحاجة ملحة الآن لأن يضطلع المسرح بدوره التاريخي في تحريك عجلة التنمية الثقافية خاصة أن المتلقي ورغم كل الزخم التكنلوجي اليوم فهو في حاجة دائما إلى أنفاس فنية تمنحه الإحساس بالمعنى الإنساني.
ولم يفت محمد المودن استعراض بعض الجوانب التاريخية في حديثه ذات الصلة بالبدايات الأولى للفن المسرحي على المستوى العالمي و بالضبط ما أنتجته الثقافة الإغريقية من كتاب مسرحيين أمثال سوفوكليس و أرسطو الذي يعتبر كتابه فن الشعر مرجعا أساسيا قام فيه صاحبه بالتأصيل لأشكال و أغراض الفرجة المسرحية من كوميديا و تراجيديا و ملاحم ضمن هدف أسمى أعلن عنه أرسطو وهو تطهير المتلقي المشاهد للعمل المسرحي بشكل يجعل هذا الأخير يتفاعل مع الواقع بنفس قيمي جديد. على عكس بريخت الذي اعتبره المودن كان حاسما في منح دور إضافي للفرجة المسرحية و هي تحريضها المتلقي على تغيير الذات والواقع. و بغض النظر عن هذه القراءات الابستمولوجية للفعل المسرحي فقد اعتبر المودن أن الممارسة المسرحية الجادة في بلادنا تظل محاربة من جهات تريد أن توجه العمل المسرحي و تجعله يخدم أغراضا أخرى غير التثقيف و نشر الوعي على عكس ما سماه بالمسرح التجاري الذي يحتل المساحة الأكبر في مشهدنا الثقافي نظرا لأنه يمنح فرجة تافهة سطحية يمكن أن تخاطب أكبر عدد من جمهور اليوم.
محمد ظريف الإدريسي الروائي و الفاعل التربوي و المدرب في برامج التنمية الذاتية، اختار في كلمته تسليط الضوء على الشق التربوي الذي يمكن أن يؤسس له الفعل المسرحي وسط المجتمع المغربي طالما أن التشخيص بمعناه المسرحي هو معطى وجودي حاضر مع الإنسان منذ نشأته و في جميع المجتمعات العالمية بما فيها المجتمع العربي منذ أيام سوق عكاظ وصولا إلى المجتمع المغربي الذي ظهرت فيه أشكال محلية عانقت الفعل المسرحي من قبيل فن الحلقة وفن البساط، لكن يبقى الانتباه ضروريا حسب ظريف إلى التقزيم الذي يروج له لماهية المسرح على اعتبار أن الخطاب المستهلك يقدم المسرحي على أنه الفنان الممارس على عكس ما يجب أن يكون عليه الأمر من ضرورة انفتاح كل شرائح المجتمع على الممارسة المسرحية سواء المعلمين أو الاطباء و غيرهم خاصة وسط الفئات الصغرى الحالمة بارتياد هذه المهن، حيث أن خشبة المسرح تعتبر فضاء تربويا لتعلم القواعد الاولى للتواصل و الإنصات والتخاطب و الإقبال على القراءة وتعلم الكتابة و اكتساب مهارات الثقة في النفس، ومواجهة الجمهور مع تلمس طرق الاندماج الايجابي في المجتمع بالإضافة إلى تنشيط الجانب الحسي الحركي عند الممارس حسب ظريف دائما.
و قد حرص من جانبه عبد الحق الفكاك الفاعل المسرحي و المؤطر التربوي على التذكير في مداخلته بأن الفعل المسرحي هو في عمقه محاكاة للواقع، باستعمال المخيلة وتوظيف عناصر الفرجة و بالتالي فالحديث عن التنمية الثقافية للمسرح يجب أن يرتبط بأبعاد اخرى تنموية و هي التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، طالما أن المسرح يظل قادرا على مسرحة عدد من الحالات الاجتماعية بشكل يساهم في تشكيل وعي بالإصلاح داخل المجتمع ضمن بعد جماهيري كان فيه الى وقت مضى دور كبير للاعلام حينما كانت هناك قناة عمومية واحدة قادرة على ضمان نوع معين من الخطاب الثقافي و إذاعة لأشكال معروفة من الفرجة المسرحية آنذاك، بشكل كان يخلق نوعا من النقاش المجتمعي حول هذا المحتوى الاعلامي او ذاك. لكن واقع الحال داخل حقل الصحافة و الاعلام اليوم حسب الفكاك، فرض تعددا كبيرا لقنوات الاتصال الاعلامي بمختلف أجناسها التي استطاعت أن تزاحم عمليا الفن المسرحي، الذي كان دائما الوسيلة الجماهيرية الكبرى القادرة على التفاعل مع قضايا المجتمع. وهو ما أثر حسب نفس المتدخل على المساحة التي أصبحت تحتلها المواعيد الثقافية الخاصة بالمسرح حيث تغيب الارادة الحقيقية للفاعل المنتخب و الجماعات المحلية في دعم أي عرس مسرحي طالما أن المسرح الحقيقي لم يعد من أولويات التنمية الثقافية حسب منطق البعض في ظل نزوع الأغلبية نحو مهرجانات ذات طابع فلكلوري تروج لمسرح لا يناقش إلا القضايا السطحية حسب نفس المتدخل. وقد أكد هذا الأخير في نهاية كلمته على أن الانتصار لفعل مسرحي مغربي بنفس تربوي لن يتحقق دون التعبير عن هويتنا الثقافية المحلية بعيدا عن الارتماء في أحضان التجارب المسرحية للآخرين، و تقليدها في انسجام مع شرطية الانفتاح على المؤثرات التكنلوجية الجديدة القادرة على توضيح الرؤية الفنية للعمل المسرحي المعروض.
وفي تدخل قصير له أشار جواد مرزوق إلى ضرورة الانتباه لأشكال قراءة النص المسرحي طالما أنها عنصر أساسي إضافي، لتأصيل البعد التنموي للفرجة المسرحية خصوصا أن هناك من النصوص كتبت لكي تقرأ بالمعنى الدلالي للكلمة و لم تكتب لتمسرح،الأمر الذي فتح الباب لتدخل أحد قيدومي الكتابة المسرحية في المغرب المسكيني الصغير في أشغال هذه الندوة مشيرا إلى أن ما طرحه مرزوق أصبح متجاوزا في وقتنا الراهن، طالما أن لغات درامية جديدة مثل السينوغرافيا بالإضافة إلى الإخراج المسرحي الرصين ووجود إعداد درامي متكامل صوتا وتمثيلا وتشخيصا و تجهيزا لفضاء العرض تظهر كعناصر قادرة على إنجاح مسرحة أي نص كيف ما كان موضوعه وبناؤه، وبالتالي الإشكال الحقيقي المطروح حسب الصغير يكمن أساسا في تراجع النقد المسرحي و غياب الإرادة العمومية الحقيقية لخلق ثقافة مسرحية نشيطة، خصوصا على مستوى وسائل الاعلام الجماهيرية التي رأى نفس المتدخل أن دورها التاريخي في التفاعل مع الشأن الثقافي ببلادنا قد تراجع، بما في ذلك الاهتمام بالفن المسرحي خاصة على مستوى دعم الأعمال المسرحية المعروضة حاليا بالدعاية الإعلامية اللازمة والبرامج الصحفية المؤسسة للنقاش المسرحي معتبرا أن قلة وجود الإعلاميين المهتمين بالمسرح يزيد من صعوبة الوضع الثقافي الذي نعيشه.
ولم يفت المسكيني الصغير التنويه بتجارب المسرح المدرسي ببلادنا في العقود الماضية، حينما كانت المدارس العمومية مشتلا حقيقيا لإنبات الطاقات المسرحية الهاوية و تكوين أطر تعليمية أصبحت لها القدرة حينها في كتابة مسرح خاص بالصغار و إخراجه، وهو ما ساهم إلى جانب تجارب المسرح الجامعي في تنشيط حركية مسرحية حقيقية حتى و إن كانت استمراريتها رهينة باستمرار هذا المسؤول التربوي أو ذاك المهتم بالمسرح في منصبه. لكن واقع الحال الآن حسب نفس المتدخل يدعو إلى ضرورة اتخاذ قرار سياسي واضح المعالم يفرض على جميع المسؤولين الاهتمام بالتربية المسرحية و بالشأن الثقافي المسرحي بما يخدم الحاجة لنهضة حقيقية داخل هذا القطاع.
لا ننسى أن هذه الندوة عرفت أيضا عدة مداخلات من طرف بعض المتدخلين الذين تجاوبوا مع هذا النقاش الفكري مثل ما طرحه البعض من ضرورة الاهتمام بكل الافاق التنموية الثقافية للمسرح كفضاء مكاني بما يتضمنه من عناصر فرجة أخرى غير محصورة في النص المسرحي بما فيها الديكور و قاعة العرض، و ما أشار إليه آخرون أيضا حول محدودية حضور النصوص المسرحية في المقررات التعليمية بالمغرب اليوم، و التي لا تلزم التلاميذ بالاشتغال عليها قراءة وتحليلا طالما أنها غير مرتبطة بالامتحانات الإشهادية، في حين فضل البعض التصريح بأن واقع الفن المسرحي ببلادنا يدعو حقيقة إلى عقد مناظرة وطنية تستطيع أن تجيب على الإشكالات الحقيقية التي يعرفها المجال المسرحي كقطاع ثقافي تنموي بالمغرب.