محمد خيي، ناصر أقباب، هاجر كريكع، نادية آيت، آفيشاي بنعازر، البشير واكين، كريم الدكالي، عدنان موحجة، يحيى الفاندي، بقيادة مراد الخودي يصالحوننا مع الفن الدرامي الرفيع
كثيرة هي المداخل التي يمكن من خلالها الكتابة عن المسلسل المغربي التحفة “قضية العمر”، الذي عرضت حلقته الثلاثين (والأخيرة) ليلة الأربعاء الماضي بالقناة التلفزية المغربية الأولى، من ضمنها قيمة الممثلين، قيمة الإخراج، قيمة السيناريو واحترافية الحبكة الدرامية. لكن، الحقيقة أن المدخل الأكبر الذي يمكن من خلاله توصيف هذه التحفة الفنية المغربية (التي كم انتظرناها في مشهدنا التلفزي والدرامي المغربي وكم تأخرت كي نفرح بأنفسنا مغربيا كقيمة فنية من خلالها)، هو: “الإتقان”.
نعم، هذا عمل فني متقن بدرجات عالية من الإحترافية، يستحق فريقه أن تقف له الصفوف احتراما وتصفق طويلا. لأن جيلا جديدا من صناع المعنى الفني الإحترافي قد تبرعم في المغرب. وهو عمل لا يمكن أن يتركك محايدا أبدا في إعلان الشغف به بصوت عال، لأن الزمن النفسي الذي تأخدك إليه متوالية الأحداث، وتحرك الشخوص وزوايا التصوير وصفاء الصورة، يجعلك أشبه بمن يتشرب بلذة ماء زلال (أنت العطش أصلا لفن مغربي محترف رفيع)، وتكاد تقول من تكرار الخيبات السابقات في علاقتنا بالدراما التلفزية المغربية (التي قليل منها من يحترم ذكاءنا كمشاهدين): يا ريث أن يكمل الجمال هذا حتى النهاية. وفعلا اكتمل ذلك الجمال بهيا حتى الختام. كنا في مكان ما كمشاهدين نخاف على القيمة الفنية الرائقة ل “قضية العمر” أن تسقط في الطريق، وكنا نكاد نصيح، مثلما كنا نفعل مع كبارنا من أبطالنا الرياضيين (خاصة في ألعاب القوى، من عويطة إلى الكروج، ومن المتوكل إلى بيدوان): “سير، سير”، بذات الشغف الفرح بالمنجز الذي يرتسم كبيرا وهائلا أمام الروح، وأمام الحق في الفرح ب “تامغربيت”. ولم يخذلنا فنانونا من صناع متعة “قضية العمر”.
نعم، هذه كتابة شغف عاشقة، لأن المنجز لا يسمح بغير الإلتذاذ بالمتعة الفنية الراقية والرفيعة التي وهبها لنا الفريق الفني الذي اقترف إبداعية مسلسل “قضية العمر”. ومثلما يكون الأمر في كل كتابة عاشقة، كثيرا ما يتم التجاوز عن بعض هنات طريق الإنجاز، لأن متعة “الكل الفني” تغطي عاليا عن كل تلك “السقطات الصغيرة”. ونكاد نصيح في كل الفريق الفني: “سيروا إلى الأمام”، لقد تعلمتم أكثر أكيد، وبمجهود، كم هو هائل. فأنتم في الطريق الصحيح فنيا تماما، ونطمع في الآتي منكم بذات الشغف وبذات القيمة.
قوة المسلسل كامنة، أيضا، في منظومة القيم التي بناها السيناريو، وفي لغة الحوار الطالعة من البئر الغني للدارجة المغربية في تلألئها التعبيري الوجداني والإنساني، ثم في صرامة الإخراج. ذلك أن منظومة القيم التي بنتها قصة المسلسل، تجد قوتها في أنها تنطلق من حدث عابر يومي (جريمة قتل)، كي تبني حبكة درامية يتصاعد فيها الصراع بين القانون كما يجب أن يسود، وبين اللاقانون الذي هو السائد، ضمن اصطخاب للقيم في مجتمع يتحول، كما تجسده الدار البيضاء (معمل إنتاج القيم الأكبر بالمغرب). ونجح الإخراج، في أن يلعب دوما (مشهديا) بين ثلاث بلاطوهات كبرى:
• البحر كعنوان للأمل وللتصالح مع الرضى على الذات، حيث نجد أن كل الأبطال المصارعون من أجل انتزاع الحق بالقانون، حين تضيق بهم السبل يؤوبون إلى شط المحيط.
• الغابة بضواحي الدار البيضاء، حيث يكون الفضاء مجالا لكل العمل الوسخ أو الإجرامي (منطق الغاب).
• بلاطو وسط الدار البيضاء (حيث تمة تمجيد فني بالصورة لفن المعمار الأصيل للمدينة، فن لارديكو)، التي هي مجال الصراع بين واطئ الفعل الإجرامي وظلامية الدروب حيث تهندس الجرائم، وبين الأدراج العالية النظيفة لبناية المحكمة، التي يصعدها المدافعون عن الحق وينزل منها الجناة. وفي قلب ذلك البلاطو لوسط الدار البيضاء تعيش الشخوص صراعاتها الداخلية (القلق/ الخوف/ الرجاء)، مثلما تتبرعم لحظات متع إنسانية رفيعة (علاقة الأخ مع الأخت هنا وهناك بين ضفتي عائلتي القصة/ علاقة الإبن مع الأم الضحية / علاقة البنت مع الأب المجرم/ علاقة العشق الأصيل البكر “البلدي” بين كاتبة المحامي وبين المحامي الشاب المتدرب). ومن خلال كل ذلك التكثيف يتصاعد معنى للوجود المغربي، يعكس واقعية القصة، وتصالحها مع أفق انتظار المتفرج المغربي.
إن قوة العمل الدرامي التلفزي المغربي “قضية العمر”، آت أيضا من التكامل في الصراع من أجل العطاء الفني بين كافة أطرافه الإبداعية. لأنه في مكان ما الذي وهب لهذه التحفة الفنية أن تنجح عاليا، قوة السيناريو الصادر عن رؤية جمالية رصينة ورفيعة، تكامل فيه الإجتهاد بين كل من المخرج مراد الخودي والممثلين (الكاتبين) عدنان موحجة ويحيى الفاندي. وأيضا قوة التحكم في الحرفة الواجبة للإخراج، في كافة أبعادها: تحرك الشخوص، زوايا الإلتقاط، الصورة والإنارة، المونتاج، الموسيقى التصويرية، التي أظهرت لنا مستوى الصرامة والجدية التي أنجز بها المخرج مراد الخودي مهمته كمخرج. وشخصيا لم أستغرب ذلك من هذا الفنان المغربي، إبن المدينة القديمة، الذي جاء من المسرح، وأساسا من واحد من أصعب أنواع المسرح (الفن الساخر الأسود) في شبابه الأول، وكان بشغبه الفني من حينها يقدم وعدا أنه اسم قادم سيكون راسخا بمقاومة ذاتية ضمن المشهد الفني المغربي. ولم يخدلنا كمشاهدين ومتفرجين أبدا. فالرجل رقايقي، قوته في أنه لا يكذب على نفسه في ممارسته لدوره كفنان ومبدع، حيث تتزواج فيه صرامة المجد وأيضا مكرمة المشاغب (بمعناها الأصيل فنيا). ولعل من أقوى ما أبهرنا به مراد الخودي، قوة تحكمه في الشخوص والممثلين، دون تمييز بين الراسخ منهم في النجومية أو المبتدأ في طريق الإبداع الدرامي التلفزي. فكان بذلك سيد الأوركسترا.
مثلما، شكل الفريق التمثيلي القوة الضاربة الأخرى لمسلسل “قضية العمر”، حيث كان تمة تنافس بين فرسان، كل يجر صاحبه كي يعطي الأحسن الذي لديه، وفي ذلك تصاعد البعض وتسامى منهم، وبقي البعض سجين التهيب الطبيعي في كل تقمص للشخصية، مما جعله سجين أداء لم يصل إلى مستوى حقيقة قدرته في العطاء الفني (دون ذكر الأسماء). لكن لا يمكن التجاوز عن أن يقبل المرء رأس الفنان محمد خيي، لأن الرجل انتصر على نفسه في الدور الذي لعبه، وبلا تردد أجزم أن هناك ما قبل محمد خيي في “قضية العمر” وهناك ما بعده. لقد كان إبن الرحامنة الأصيل، الصاعد من صهد الوقت الصعب للفن المسرحي والسينمائي والتلفزي المغربي، في مصاف الكبار بمقاييس عالمية، حين لعب في أدائه الفني بجسده أكثر من الكلام، وكان تعبيره الفني بلغة الجسد رفيعا وعاليا ومؤثرا، ما يجعلك تقول أكثر من مرة مع ذاتك: “يا ألله عليك يا سي محمد. شكرا أنك تعلي من قيمة الفن الدرامي المغربي بمستواك هذا”.
لا يمكن، أيضا، التجاوز عن الرهيب ناصر أقباب، فهذا الشاب مكسب فني للمغرب بدرجات عالمية، حيث لعب الرجل بجسده كي يقدم لنا لغة فنية نافذة، تقوم لوحدها نصا إبداعيا مستقلا ضمن مجموع العمل الفني كله للمسلسل. فقد كان قامة لوحده، ومسلسلا مستقلا ضمن المسلسل. وتعجز جديا الكلمات أن توفيه حقه كما يجب، لأن الرجل تقمص الشخصية تعبيريا بشكل يؤكد أنه استوعبها بليغا، وأن ذلك لا يتحقق سوى باشتغال كبير من قبله عليها كشخصية درامية. ناصر أقباب صار علامة فنية، كم نخشى عليها أن تنكسر أمام صخر موج واقعنا الفني غير المساعد دوما، ونرجوه أن يواصل ذات الألق البهي بمقاومة وذكاء أيضا.
عدنان موحجة ويحيى الفاندي، لم يكن مسموحا لهما غير أن يكونا ما كاناه معا على طول المسلسل: كبارا. لأنهم أصحاب الفضل الأصلي في القصة والسيناريو والحوار، فلم يكن مسموحا لهم أبدا بالخطأ، ولم يخطئا أبدا. بل إن عدنان موحجة، بروحه المراكشية الأصيلة، قد ولد آخر فنيا تماما، مقارنة بكل ريبرتواره الفني السابق (في ما قبل كان في مكان ما تايتمشخر فنيا، لكن مع “قضية العمر” قال لنا جميعا: ها أنا). بينما كان البشير واكين ذات البشير واكين، الكبير دوما، الرائق أبدا، الهادئ أداء مثلما كان يفعل سقراطيس البرازيلي حين يغازل الكرة في ميادين الدنيا. فهو يتمتع مع ذاته أولا، ما يهبه صدقا فنيا يجعلنا نتمتع معه، ونرفع له القبعات. وعلى ذات المستوى في الأداء نجد الفنان كريم الدكالي، الذي بقي متوازنا في تقمص دور “المجرم” السادر في جريمته ضد نفسه وضد زوجته وأبنائه. حتى وإن كانت ملامحه التعبيرية قد بقيت نمطية أحيانا، من قبيل حين كان في لحظات ضعف إنسانية أمام ابنته، لكنه لعب دوره باحترافية أكيدة.
تمة اكتشاف آخر وهبه لنا هذا المسلسل الرفيع، إنه الفنان المغربي اليهودي، إبن الدار البيضاء الأصيل والوفي، آفيشاي بنعازر. هذا الرجل قصة لوحده فنيا، كونه قدم لنا فعليا شخصية “البيضاوي/ الكازاوي” في كافة رونقها الذي يجعلها “حزينة” لكن مع صلابة وعزة نفس، ومع قاموس تعبيري بمخارج حروف لا نظائر لها. ذلك أن لكل فضاء لغته التعبيرية، وفضاء كازا له لغته الخاصة الأصيلة. ومع كل مشهد يكون فيه آفيشاي ترتقي متعة الأداء الفني، خاصة حين تستشعر أنه يتصارع مع فنانين من جيله مثل عدنان موحجة والبشير واكين وناصر أقباب.
ولذة الختام، لا يمكن إلا أن تكون بالفريق النسائي من الممثلات. هنا لن نزيد على دربة ورسوخ الفنانة حسناء طمطاوي شيئا، فقد أبانت عن معنى ما تلعبه الدربة والتجربة في سمو العطاء الفني. لكن (اسمحوا لي على هذا التعبير) “الفليفلة ديال” الممثلة هاجر كريكع، قصة لوحدها، كونها تماما مثل محمد خيي وناصر أقباب، قد لعبت بجسدها تعبيريا (بحكم ما تفرضه طبيعة الشخصية ذات الإحتياجات الخاصة)، بشكل لا يكون سوى للكبيرات الراسخات في العطاء الفني وأنها اشتغلت عاليا على تلك الشخصية ونجحت في تمثلها واستيعاب أبعادها النفسية والسلوكية، حيث كانت لغة العين وحدها تعبيرا فنيا، ومخارج الحروف الهادئة، الهنية، تعبيرا فنيا آخر راسخا. مثلما كان أداء الممثلة نادية آيت مؤثرا بدرجات راسخة من الدربة الفنية، كونها تقمصت على طول حلقات المسلسل ملامح حزن يتوافق وطبيعة الشخصية الفنية (ضحية واقعها العائلي)، وكانت حتى في شكل خطوها تجعلك تستشعر معنى ثقل ما كانت ترزح تحته من ألم نفسي، من تمزق. فكانت نادية آيت سامية بدرجات عالية في أدائها الفني. وهو ذات المستوى الذي نجده، في شخصية نسائية أخرى نقيضة، لها كل أسباب الفرح بالذات، والرضى على واقعها الحياتي البسيط، كما أدتها الفنانة الراسخة، الآتية من مجال الكوميديا (ابنة سباتة بالدار البيضاء) رجاء لطفين. معها كنا نؤوب إلى يفاعة براءة المغربي الشعبي الرائق، وكنا نفرح مع طبيعة شخصيتها، خاصة حين تكون المشاهد تجمعها مع الممثل عماد فجاج (المحامي المتدرب)، فكلاهما قد شكل عالما مستقلا فنيا داخل المسلسل، حيث المتعة الفنية راقية كلما كان المشهد ثنائيا بينهما.
هذه الكتابة، لا تريد أن تدعي أنها قراءة نقدية، قد إصرارها على أن تكون تحية امتنان لفنانين مغاربة منحونا متعة إبداعية رصينة ورفيعة، كنا جميعنا جوعى إليها من زمان. فشكرا لكم جميعا واحدة واحدة، وواحدا واحدا.