المشهد الصوفـي (8) : صوفية العلمي من خلال شعره وثقافة عصره

إن القراء اليوم المولعين بـ «تراث فن الملحون» الأصيل يريدون أن يتعرفوا – بدورهم – على بعض الجوانب الخفية من حياة فرسان الزجل بالمغرب، وهي جوانب جد هامة ومفيدة، ظلت مخزونة بين ثانيا الصدور، ومحفوظة في الذاكرة الشعبية زمانا غير يسير، وعلى تعاقب الأجيال المغربية ؛ وقد رصدنا من أجل توثيقها مجموعة من اللقاءات والمهرجانات الفنية أزيد من خمسة عقود خلت.
نعم، إن هذه المرويات التي تروى حول بعض شعراء الملحون على اختلافها في بعض المدن المغربية لا يزال يحفظها أهل الملحون بالتواتر، جيلا عن جيل، مما يجري في كل منتدى من منتدياتهم، وفي كل محفل من محافلهم. إنها مرويات تكشف عن خفايا إنتاجات هؤلاء المبدعين، وعن ألغازها، ومعمياتها، بل من أجل العمل على تقريبها من الأذهان، والأذواق، فيحاول الدارسون، والباحثون، تقديم ذلك سهلا ومبسطا إلى جمهور عريض من القراء والمولعين بفن الملحون؛ في كل غرض من أغراض القصيدة الزجلية –على تعدد أشكالها الفنية، وأجناسها الأدبية -. ومن الأسماء اللامعة في هذا الفن، اسم قد ظل– في كل وقت وحين- تردده الشفاه وتستشهد بمعانيه العقول والأرواح، بل يرن صدى بدائعه وروائعه في كل وسط من الأوساط، في الغدو ، والرواح.

إن صوفية العلمي تشكل مذهبا في الحياة ، ومسلكا فكريا محدد المعالم والقسمات. يتجلى ذلك في سلوكه بين الناس، إنه سلوك تجليه أقواله السائرة، و المتفرقة في قصائده، وهي – كما يقول الأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل – : أقوال نستطيع القول جازمين بأنها إذا ما جمعت في ديوان خاص، وضم بعضها إلى بعض، كان من شأنها أن تقيم دعائم مدرسة في التوجيه، وفي التوعية الاجتماعية، وأن تنخرط في سلك المنظومات، والمقالات التي تستهدف تربية الأجيال، وتزويد الناس بما يقوي خبرتهم. ومعرفتهم بأسرار “الحياة».
ويشير الأستاذ – مرة أخرى – إلى أن صوفية العلمي تتجاوز الوقوف عند الخلجات النفسية النابضة، والخطرات الفلسفية العابرة، بل تتخطى «الشطحات الفكرية « البراقة . وصوفية العلمي – أيضا – طاقة جبارة ، تحرك فيه دواعي التأمل في الحياة، وتنير لديك فضول التساؤل عن مدى صلابة مجموعة من المسلمات التي اعتادها الناس، واطمأنوا إليها، وجعلوا منها مقاييس قارة، ومعايير ثابتة، في معاشهم، واعتبروها قيما يبنون عليها علاقاتهم، وأسس معاملاتهم، بينما هي عند العلمي ترهات وأكاذيب وأوهام من نسيج الطموح البارق، والخيال الجامح؛
إن صوفية العلمي تجسد تجاربه الحياتية، وهي لم تكن صادرة عن عجلة في القول، ولا عن غرور بالنفس، واستئثار في الرأي، ولكنها نابعة من مواقع المعرفة بالواقع. فصاحبها قد تجول في البلاد طولا وعرضا، وجالس العارفين، واختبر الناس، وتدرج في كل شريحة من شرائح مجتمعه، حتى اهتدى إلى هديه، وميز بين رشده وغيه. فالباحث في شخصية العلمي لابد أن يرجع إلى شعره بالدرجة الأولى، وإلى مصادر التاريخ ورواية الذاكرة الشعبية، ليضع الموازنة والمقارنة بين هذا وذاك، وبين الرواية المكتوبة والشفوية من جانب آخر، وليجعل من ذلك كله أسسا في بناء صرح بحثه ودراسته. ومع الوقوف المباشر أمام المدون والمروي شفويا من أخبار العلمي وأشعاره، فإن الباحث والدارس لا بد أن يعانق إنتاج الشاعر، ولا بد أن يتعامل معه من زوايا متعددة ومختلفة حسب معطيات مجتمعه، ومؤهلات شخصيته، وأيضا حسب ما يتزود به من زاد ثقافي، وفني واجتماعي. ولا يتم هذا العناق، وهذا التجاوب، إلا بالتعرف على حياة العلمي، وعلى البيئة الشعبية التقليدية التي أفرزته، بل على الجو العام للتصوف ومذاهبه، وروافده وقنواته، ومعرفة الأدوار الأساسية، التي لعبت دورها الكبير في تاريخه، وفي غير زمانه ووقته .
الأدوار التاريخية للتصوف، ومجتمع مكناس :
وهذه الأدوار – حسب أهميتها – جاءت كالتالي :
أ – دور التسامي في الحياة المادية، ويتمثل في الزهد، والتواضع، وفي الخوف من الله. ويبدأ من حياة الرسول – عليه السلام – قبل البعثة.
ب – دور الاعتزال والانقطاع عن الناس، ويبدأ قبل نهاية القرن الثاني الهجري.
ج – دور الابتعاد عن التقشف والزهد، والتأمل، ورياضة النفس ويشتمل على أواخر القرن الثالث، والرابع للهجرة.
د – دور تنظيم التصوف، وادعاء الكرامات، ويبدأ من القرن الخامس الهجري، وفيه كثير من الشطط في التفكير، والقول بوحدة الوجود …
هـ – دور المجذوبين، وهم قوم لهم أمور غريبة، وأفعال عجيبة، ولهم تصرفات شاذة، ظهروا في القرنين : التاسع، والعاشر للهجرة . فكانت لهم مجالسهم وآراؤهم ، ومعظمهم قد يكون مصابا بأعراض نفسية، أو مرضية، أو يكون عنده استعداد ليوهم الناس، ويلقي في روعهم ما يهيمن به على عقولهم، ومشاعرهم، فيصدقونه، ويجلونه، بل كان جلهم يجعل منه ملاذا أمينا يلوذ إليه عند الملمات وعند عجزه بصفة نهائية.
إن مجتمع المدينة الإسماعيلية – كما سبقت الإشارة – يعد من المجتمعات التي عرفت ألوانا من الصوفية ، والتي تفاعلت معها في مظاهر شتى، ولاسيما ما ظهر في القرن العاشر الهجري من طوائف من أشهرها – كما ذكرت – الطائفة العيساوية ، وكان لها مد طويل في الدعوة إلى الله، وإلى سنة رسوله الأمين، محمد – صلى الله عليه وسلم – ثم تحول هذا المد إلى نوع من التضليل والتهويل فيما بعد فنسب إلى الطريقة العيساوية ما ليس في مبادئها، ولا في أعرافها ومراسيمها، ولا فيما كان يدعو إليه شيخها محمد بن عيسى المكناسي – رحمه الله . واستمر هذا الهذيان الصوفي إلى أيام العلمي – رحمه الله – ولعله يرمز بقصيدة «الدار» إلى هذا التحول الفظيع الذي انصرف الناس بسببه إلى احترام وتقديس آل العيساويين ، بدل احترام وتقديس آل البيت – رضي الله عنهم – وقد قيل قديما : « من لم يكن أهلا للعظمة ، فليس له منها إلا التعاظم، ومن لم يكن أهلا للزعامة، فليس له منها إلا التزعم» …
فشاعرنا عظيم بمؤهلاته وقدراته، وليس بالمتعاظم، وهو زعيم مدرسة صوفية قائمة الذات، وليس بمتزعم. فمدرسته قد أخذت عن المشيشيين ما تتمثل به المعاني الرائقة التي حفل بها ديوانه ؛ فهو أحد أحفاد الأسرة العلمية التي انحدرت من القطب الشهير، مولاي عبد السلام بن مشيش دفين جبل العلم.
إذا فالباحث في شخصية العلمي تراه – مرة – يهيم بين صفحات الكتب : مصادر، ومراجع، و – مرة – بين قطوف المعارف التي تجود بها صدور الهواة. فهي جولة في حياة العلمي مع نفسه، ومع الناس، وفي خلوته وعزلته، وفي رحاب ربه وتهجده. جولة تعني لدى الباحث المتتبع الوقوف المباشر من خلال محطات معينة للدخول المأذون به في صلب شخصيته، وأيضا للنظر في مؤهلاته وقدراته، وفي إبداعاته وابتكاراته .
نعم، فسيدي قدور العلمي لا يعرف حقا إلا من خلال أشعاره، والباحث – هو الآخر – لا يفقه هذا الإنتاج إلا إذا أحاط بمعطيات المجتمع الذي عاش فيه، وبالظروف التي أحاطت به. وعلى أي ، فإن القصيدة الزجلية التي نستنطقها اليوم كباحثين – تمتاز عند العلمي بخصائص فنية قلما توجد في غيرها من قصائد الملحون في بابها الصوفي، والاجتماعي. فهي قصيدة تدعو إلى التحليق بالروح في سماء الفضيلة، وإلى السمو بالنفس عند الإنسان الواعي، وإلى الإعراض عن زينة الدنيا وعند الزاهد غير المتزهد. كما تدعو – أيضا – إلى التحلي بصفات الحب الخالص لله ولرسوله محمد – صلى الله عليه وسلم -.
وإذا تأملنا – بعمق – في هاته الصفات التي تتراقص مكارمها الأخلاقية بين الكلمات والمعاني وهاجة وضيئة في شعر العلمي، فإننا – ولاشك – نؤمن بالمنهل المعرفي الذي نهل منه شاعرنا ، وبالمشرب الذي اغترف منه . إنه المعين الذي لا ينضب عند الشاذليين، والذي تفرعت عنه فروع عدة ومختلفة» .
ولعل ما يحكى من حكايات، وما يروى من روايات، يقرب الباحث والمتتبع من مفهوم «الحب»عند الشاذليين، والمشيشيين وعند الجزوليين، والعيساويين. إنه حب إلهي نبوي تشر به العلمي، فجاء ممثلا في كل عمل من أعماله الأدبية الدينية وتلقاه – بواسطة ما كان يحكى عنه من حكايات – طفلا غضا، وشابا يافعا، وكهلا مجربا، وشيخا مستثمرا لما جادت به الحياة عليه من معارف وحكم . وهذا الزخم من المرويات، اعتنت به كتب التراجم التي خصصت للعلمي حيزا كبيرا، كما اعتنى به – أيضا – الموروث الشعبي، موروث يوصل الباحث والدارس بالقاعدة العريضة التي كانت تعشقه وتحكي الكثير من سيرته الذاتية في محافلها، ومنتدياتها، وفي كل مناسبة من مناسباتها.


الكاتب : عبد الرحمن الملحوني

  

بتاريخ : 11/04/2022