سبق أن تمت الإشارة – ولو في عجالة سريعة، وجولة عابرة – إلى بعض الأدوار الطلائعة التي كانت تقوم بها زاوية العلمي – رحمه الله – ، في عهده وتحت إمرته، وذلك انطلاقا مما تضمنته «المُسْتلَّة» التي أعدها الأستاذ الباحث، محمد أمين العلوي، والمُهداة من «جامعة محمد الخامس بالرباط « إلى الأستاذ ابراهيم بوطالب – رحمه الله – ( منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ، سلسلة بحوث ودراسات) رقم 27 .
نعم، إنها وقفة أخرى متأنية لما كانت تؤديه هذه الزاوية العلمية من خدمات علمية جليلة، لروادها ، وللأتباع، والمريدين، بتوجيهات من الشيخ سيدي قدور العلمي – رضي الله عنه- ؛ فلقد أشار الأستاذ المذكور في موضوع : الوراقة ونسخ الكتب، إلى أن هذه العملية قد أثبتت – بدورها – ما كانت تقوم به زاوية العلمي من نشاط، يخص حركة الوراقة ، ونسخ المخطوطات ، منذ نشأتها، إلى أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين ؛ ويشير الأستاذ محمد أمين العلوي إلى أنه قد وقف على عدة مجلدات مخطوطة، أنجزت داخل الزاوية ومحبسة عليها، منها ما يلي :
1 – نسخ من قصيدة البُردة، والهمزية، لشرف الدين محمد البوصيري وأشعار في المَديح النبوي، مسفرة، بخط الشريف العالم المحقق، سيدي عبد الله بن محمد بن عبد الله الحسني الإسماعيلي؛
2 – نسخ من دلائل الخيرات لمحمد بن سليمان الجزولي، من مختلف الأحجام والقياسات، لعلها بقايا النسخ التي جيئ بها من ضريح الجزولي بمراكش ؛
3 – نسخ من «أرجوزة» الطبيب العلامة، امحمد بن عبد الهادي غريط، المسماة «رياض أنس الفكر ، والقلب» …
4 – نسخ من صحيح الإمام البخاري، وخصوصا نسخة في أربع مجلدات من الحجم الكبير ، في عُلَب من خشب العرعار، لم تر قط عيني مثلها ، من حيث روعة الخط المغربي وجماليته، والترجمة أي التزويق، والتنميق من تسطير وتوريق، بألوان زاهية متناسقة، محلاة ومموهة بماء الذهب، زادتها جودة الورق قوة ومقاومة للزمن، وهذه النسخة – التحفة – الفريدة عارية من اسم الناسخ، أما تاريخ الفراغ من النسخ، فهو يوم الأحد، 11 ربيع الثاني، عام : 1322 هـ ؛ وقد كتب على أحد أجزائها :
«الحمد لله، هذا الجزء الثاني من صحيح أبي عبد الله، سيدي محمد بن اسماعيل البخاري، حبس على زاوية الوَلي الصالح، مولانا عبد القادر العلمي، نفع الله به، من قبل محبسه الشريف، مولاي عبد السلام بن سيدي محمد بن الحسين الأمراني، لينتفع به هناك طلاب العلم الشريف بالنظر، والقراءة، والدرس، والنسخ المقابلة بمن بشهادته ما ذكر في أوائل ورقة من الجزء الأول، فيها هُنا تنبيها على الخشب المذكور، في ثاني جمادى الثانية، عام واحد وخمسين وثلاثمائة وألف ؛
* * *
* – مشهد الولاية والصلاح، في شعر العلمي :
عندما نتأمل ما جاء في سيرة الشيخ عبد القادر العلمي – رضي الله عنه -، سيلاحظ الباحث معنا في هذه السيرة، أن صاحبها قضى فترتين هامتين من فترات حياته التي تجاوز فيها مائة سنة:
– الفترة الأولى، كانت عادية، عاش فيها كغيره من شعراء الملحون، يستمتع بمباهج الدنيا وتمراتها، تصحو نفسه مرة، وتغفو مرة ؛
– والفترة الثانية ، فترة زهد وانقطاع عن ملذات الحياة وشهواتها، وأشار في هذا الصدد – الدكتور عباس الجراري، إلى حادث وقع للمترجم له في حياته، ولعل هذا الحادث مما لا نعلمه، جعل العلمي يغير اتجاه حياته، وإن كنا نستأنس بما ذكر لنا بعض الأشياخ من أنه حين نظم قصيدة «المحبوب» التي يقول في حربتها :
كِيفْ ايوَاسي اللّْي افْرَقْ مَحْبُوبُو، وَبْقىَ ابْلا عـْقـَلْ في لَرْسَامْ افـْريدِ
كِيفْ اجْفَانِي احِبيبْ قـَلْبـِي، مَا خَلا غِيرْ صُورْتـُو وَانْعُوتُو وَاخْيَالـُو
أمَنْ لا عَمْرِي انْظَرْتْ افـْـلـَـبْـدَرْ ابْحَالـُـو
* * *
عارضها أحد معاصريه بقصيدة في مدح الرسول – عليه السلام، قال فيها ما نصه :
كِيف ايوَاسِي اللـّي عْشَقْ مَحْبُوبُو وَبْغـَى ازْيارْتـُو، لكِنْ جَاهْ ابْعِـيــدْ
وَنـَا كِيفْ اعْشَقْتْ سِيدِي العربي، مـَا نـَهْوَا غِيرْ صُوْرتُو،وَابْهَا حَسنُو
نعم، فقد كان لهذه المعارضة تأثيرها عليه، واَلى بعدها على نفسه ألاَّ ينظم في غير الابتهالات، والتوسلات، والمواعظ، ومديح النَّبي والأولياء – رضوان الله عليهم – .
وإذا كان العلمي – من خلال وقوفنا على مجموعة من أشعاره في هذا الموضوع – ، قد هام في حب الذات المحمدية، حيث أكثر في قصائد هذا اللون الجميل من الإعراب عن هذا الحب، وهذا الهيام؛ فإنه في حب الأولياء، والصالحين، كان يتوسل بجاههم عند الله، ووقف طويلا عند «مولى مكناس» وهو الشيخ الهادي بن عيسى – رضي الله عنه -، ويبدو هذا واضحا في قصيدته التي يقول في مطلعها :
غَارَة سِيدي بَنْعِيسى
غِيرْ اعْليَّا رَانـَا بْقيتْ بين الاشْعـَابْ
خُذْ مَن المْدَحْ نفِيسَا
وَانْشَدْهَا قـُـدَّامْ الهْمَامْ قـُطْبْ الاقـْطَابْ
مُولْ الهَمَّة وَالطِّيسَا
الْعَارَفْ بَوْصَافْ الكـْريمْ رَبّْ الارْبَابْ
مْقـَامُه فِيهْ وْنِيسَا
قـَالـُو مَنْ زَارُه مـَا يْشُوفْ هَـلْ الحْسَابْ
وهذا اللون من المديح، يسمى عند أهل الملحون «الذكر العيساوي» أبرع فيه شاعر آخر، وهو الحاج ادريس الحنش – رحمه الله – ؛ يمدح شيخ الطريقة في غلو ، ويخصص له في ديوانه حيزا كبيرا من أشعاره ، حيث نقرأ له مولد الشيخ وذكر مجموعة من الكرامات، والمناقب، على صورة «المعجزات» وخوارق العادة المذكورة في مولد الرسول – عليه السلام – ، وتراه – في هذا الموضوع بالذات – ينهج في مديحه نهج شعراء الفصيح الذين تحدثوا في أشعارهم عن مولد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعن نشأته إلى أن أصبح مبعوثا من قبل ربه الذي أرسله هدى للناس، يهديهم إلى التي هي أقوم، منتقلا إلى المرحلة الثانية من السيرة النبوية وهي مرحلة الدعوة وبناء الدولة الإسلامية وعند العلمي – في مدح الأولياء والصالحين – أن تعظيمهم والإشادة بأعمالهم، يعد عنده جزءا من الإيمان، فهو يسلو بذكرهم خاطره، ويفرح مزاجه ووجدانه، ويلين قلبه ومشاعره، ويتهلل وجهه من البشر، وتذهب أحزانه :
تعظيم الأولياء من اوظايف ليمان
وَنـَا تعظيمكم هـُـــــــــوَ سَـلـْــوَانِي
عند ذكركم تـُوجد قـَـلـْبـي فَـرْحَانْ
كِنـِّي منكـُم مَن كـْثـَرت مـَا زْهَـانِي
قـَلـْبِي الـْقـَاسِي إلا اتـْـفـَا كدكُمْ يَلْيَانْ
تتهَلْل ابْـشَـارْتِي ويذهَبْ شِيطـَانِي
* * *
وعند العلمي – أيضا – أن حب الأولياء قوة لساعده، وحجاب يستره من عيون الحساد، في قوله بالنص:
دَرتْ اشْـكـَالْ حبّْكُمْ لعضُودي عـَوَّانْ
احْجَابْ اعلَى اعْيُون لَحْسُودْ اخـْفَـانِي
وفي بعض الأحيان نرى العلمي يستعرض أسماء الأولياء المتوسل بهم على هذا النحو :
الجيلالِي حَرمتْ جَــــــدَّكْ بُــولَحسانْ
الـْهَاشْمِي لـَهْـــــــمَامْ ذَا الـنـُّورْ السَّانِي
وابن أبي طالبْ الفضل رُوحْ الشجعانْ
كَوكَبْ لَمْجَاهـْــدِين رشــــــــدي ومَانِي
وَبَابَا بكَـــــرْ الزّْكِـــي عُـمَرْ وعـثـْـمانْ
نـَرْجَا يُومْ اللـقــــا ايكـُــونُـــو رَفْـقـَانِي
يتبع …
المشهد الصوفي 29 : أدوار طلائعية بداخل الزاوية العَلمية: الوراقة ونسخ الكتب، بزاوية العلمي
الكاتب : عبد الرحمان الملحوني
بتاريخ : 07/05/2022