المعرض الفني للمصطفى غزلاني «الأرض، محمولي الحميمي»

ذاكرة التراب.. حكاية الصحراء

 

 

يتصل العمل الفني للمصطفى غزلاني بسيرورة التراب /الرمال وديمومة الحجارة، ليتحول كل منهما (التراب /الحجارة) -على مساحة القماشة- إلى مفردات ومسوغات جمالية تعمل على منح المنجز بدنا وملمسا.. لتغدو – بالتالي- كل لوحة فصلا منتزعا من الطبيعة، ونافذة نطل من خلالها على الامتداد النسيجي الذي يجمع بين كل مكونات العالم، بما فها الإنسان.. كأني به يعيد الفنان إنتاج العالم في مساحات مُصغّرة بكل ما يستدعي ذلك من حمولات سيكولوجيا التراب، الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بلاوعينا الحضاري والتطوري، وحتى الاعتقادي والديني والروحاني.
يترصد غزلاني تدرجات ألوان التربة، دون أن يجعل منها مطية لأي نزعة تجريدية صباغية كليّة، إذ تتشكل ضمن مغامرة الاستدراج هذه، مشاهد طبيعة وتنشأ كتل إيمائية يتكون بفعلها مستويات بصرية متقاربة ومتباعدة، أو هيئات نباتية وصخرية وآدمية وغيرها، تأثث الحقل المشهدي وتمنح اللوحة حركية مثقلة بالغُمرة.. كأننا أمام مشهدية من صلب الصحراء، حيث يتناقض كل منه الخواء والملء..
ليست الصحراء فراغا تاما أو خواء مُفزعا، إنها عامرة في إقلاليتها المهيبة.. تجسيد فعليّ لمقولة «أقلّ أكثر»..
تطاردنا الصحراء مهما حاولنا الانفلات منها، شبيهةُ الماضي السحيق الذي تكوّنت عنده جيناتنا الأولى، نحن أبناء الصحراء موعودون بـ»جنة خلف الصحراء»، حيث لا حدود ولا موانع ولا جدران..
تهاب الصحراء الحيطان، ولا منافس لزحف رمالها، للعودة إلى حالة الصمت الأولى، إلى الهدوء التام، إلى المصالحة مع أعماق الذات، تلك الصحاري التي تسكننا منذ الكلمة الأولى.. إذ كل واحد منا يُعدّ صحراء تزحف قياما على قدمين، وأما كل المنجز فني فهو دائمًا صرخة في الصحراء، في أعماق الأعماق، داخل الداخل.. ومدعاة للتأمل ودعوة لتأويل حركة العالم وتغيره.
تختلط وتتواشج الألوان والأشكال والعلامات الميّالة لأن تغدو كتابة على صخر منقوش منذ القدم، في لوحات مصطفى غزلاني، وتتحد جميعها مع حدة الصباغة القادمة من الغمرة الأولى التي رفعها الإنسان الأول ليرسم/يبصم بها خلوده /يده على جدران الكهوف.
بهذا المعنى، يعيد هذا الفنان مساءلة الأصل ومطارحة الأسئلة الأزلية في علاقتها بالإنسان وعالمه.. في زمن تحتدم فيه التغيرات، وينفتح فيه المرء على كل دروب المجهول، بكل ما تفرضه السرعة في كل المستويات الحياتية والتقنية والفنية، وكل ما يتصل بها من صخب يهدد قدسية الصمت.. إذ لا تصير الصحراء وعيدا بل حاجة روحية وروحانية.
يعمل مصطفى غزلاني منذ مدة على مساءلة قدرات اللون والصباغة في إثارة الأسئلة، بأقل مفردات ممكنة، سواء عبر لوحات أو منحوتات الرملية/ الترابية، بل حتى عبر الكتابة سردا وشعرا. مما يجعل منه فنانا متعدد المذاهب والتخصصات، وهو الكفيل بأن يغني رؤيته الجمالية الميّالة إلى تكثيف الدلالات والعلامات، خدمة لإلزام المتلقي في ولوج عملية بناء وتركيب المعنى عبر إعمال التأويل الحر، كأنه مستكشف يخوض غمار البحث عن مخرج من صحراء ليلج أخرى.

( أقيم المعرض الفني «الأرض: محمولي الحميمي» من 23 دجنبر الى 11 يناير الجاري بالمحمدية)