اليسار ينقذ فرنسا من اليمين المتطرف
تعهد التحالف اليساري بوضع حد أقصى لأسعار السلع الأساسية، مثل الوقود والأغذية، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى صافي 1600 يورو شهريا، ورفع أجور العاملين في القطاع العام، وفرض ضريبة الثروة، وإدخال تعديلات على ضريبة الميراث
حقق تحالف اليسار المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها بفرنسا، متقدما على الكتلة الرئاسية واليمين المتطرف وحلفائه، وهي نتائج لم تكن متوقعة حسب أغلب استطلاعات الرأي التي تمت الأسبوع الماضي، حيث جاء تحالف الجبهة الشعبية الجديدة في المقدمة، لكن دون أن تحصل أي كتلة على غالبية مطلقة في الجمعية الوطنية. ورغم أن اليسار والجبهة التي شكلها لم تحقق الأغلبية المطلقة التي تسمح بالحكم، فانه تمكن من قطع الطريق على الشعبوية التي كانت تسير نحو الانتصار وحكم فرنسا.
واستمرت الاحتفالات بالعديد من المدن الفرنسية ليلة الأحد سواء بمدن ليل، ليون، مرسيليا، بوردو احتفالا بهزيمة الشعبوية خاصة بساحة الجمهورية بالعاصمة باريس، حيث صوت الفرنسيون واليسار ليس على أغلبية بل على قطع الطريق على الجبهة الوطنية العنصرية، وهو ما يجعل منها انتخابات تاريخية بفرنسا، فخلال شهر، كان اليمين المتطرف هو القوة الأولى في الانتخابات الأوروبية وأيضا في الدور الأول بالانتخابات التشريعية، ليتحول إلى المرتبة الثالثة بعد اليسار والوسط واليمين في الدور الثاني من هذه الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها.
هذه الانتخابات ستبقى استثنائية في كل شيء، سواء من حيث الدينامية التي خلقتها، أو من حيث تحرر الخطاب العنصري بفرنسا خلال الحملة الانتخابية التي تمت في أجواء متوترة جدا، مع شتائم واعتداءات جسدية على مرشحين وأشخاص يضعون ملصقات وكلام عنصري حيث الهجوم العنصري على الفرنسيين من أصول أجنبية تحرر في بعض وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة ضد رموز الهجرة من شخصيات سياسية أو صحافيين، هذا بالإضافة إلى حالة القلق التي مست أوساط المال والأعمال والمقاولات بصفة عامة خوفا من وصول حزب متطرف إلى سدة الحكم وقلبه للتوازنات الاقتصادية الهشة بفرنسا، وهو القلق الذي عبر عنه شركاء باريس، سواء بالاتحاد الأوربي أو في باقي العالم.
النتائج النهائية للجولة الثانية
تصدر تحالف اليسار، المجتمع تحت راية «الجبهة الشعبية الجديدة»، نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية المبكرة بـ 182 مقعدا في الجمعية الوطنية الفرنسية، وفقا للنتائج النهائية للانتخابات التي نشرتها وزارة الداخلية اليوم الاثنين.
وحصل المعسكر الرئاسي، تحت راية «أونسومبل»، على 168 مقعدا، بينما حصل التجمع الوطني (أقصى اليمين) وحلفاؤه على 143 مقعدا، حسب نفس المصدر.
هكذا، لا تستطيع أي من التشكيلات السياسية الوصول بمفردها إلى الأغلبية المطلقة البالغة 289 نائبا.
ومن حيث عدد الأصوات، تصدر التجمع الوطني الانتخابات بأكثر من 8,7 مليون صوت، أي 32,05 بالمائة من الأصوات المعبر عنها. وحصلت الجبهة الشعبية الجديدة على أكثر من 7 ملايين صوت، أي 25,68 بالمائة من الأصوات، في حين حصدت الأغلبية الرئاسية على أكثر من 6 ملايين و314 ألف صوت، أي 23,15 بالمائة من الأصوات.
يذكر أنه تم استدعاء حوالي 49.3 مليون فرنسي إلى صناديق الاقتراع أمس الأحد برسم الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها الرئيس الفرنسي في 9 يونيو، بعد أن قرر حل الجمعية الوطنية عقب فوز أقصى اليمين في الانتخابات الأوروبية.
وتنافس حوالي 1,094 مرشحا في هذه الجولة الثانية لشغل 501 مقعدا في الجمعية الوطنية.
وفي ختام الجولة الأولى، تم انتخاب 75 نائبا من أصل 577. وحصل التجمع الوطني على 39 مقعدا، مقابل 32 للجبهة الشعبية الجديدة، و2 للمعسكر الرئاسي.
وبلغت نسبة المشاركة 66,63 بالمائة يوم الأحد، حيث صوت 28 مليون و870 ألف و328 ناخبا، وفقا للنتائج النهائية لوزارة الداخلية الفرنسية.
عودة الأحزاب الكلاسيكية
يبدو أن المشاركة الكبيرة والقياسية في هذه الانتخابات كانت لصالح الأحزاب الكلاسيكية، وعلى رأسها أحزاب اليسار على الخصوص، وتمكن التجمع الوطني المعادي للهجرة والإسلام من تقوية فريقه في الجمعية الوطنية الجديدة إلا أنه يبقى بعيدا عن السلطة، مع تسجيله نتيجة مخيبة لتطلعاته مقارنة مع ما سجله خلال الدورة الأولى من هذه الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها.
تساؤلات كثيرة سوف تطرح الأسابيع المقبلة حول طبيعة الحكومة التي سوف تقود فرنسا وتسهر على نجاح الألعاب الأولمبية قبل أسابيع من افتتاحها، لعدم وجود أفق لتشكيل حكومة، وذلك للتشتت داخل الجمعية الوطنية.
وفيما حققت «الجبهة الشعبية الجديدة» المؤلفة من أربعة أحزاب، مفاجأة بحلولها في المرتبة الأولى، أظهر معسكر ماكرون قدرة على الصمود بعد شهر على مجازفة غير محسوبة للرئيس إيمانويل ماكرون بعد دعوته إلى هذه الانتخابات المبكرة .
وفور صدور النتائج الأولية، رأى زعيم فرنسا الأبية جان لوك ميلانشون أن على رئيس الوزراء «المغادرة» وأنه ينبغي على الجبهة الشعبية الجديدة التي ينتمي إليها حزبه، أن «تحكم» فرنسا.
اليمين المتطرف حل ثالثا وفق النتائج النهائية لهذه الانتخابات، بعدما كان فوزه مرجحا في كل استطلاعات الرأي، ولم يتردد مرشح حزب التجمع الوطني للوزارة الأولى، جوردان بارديلا الأحد من انتقاد الجبهة الشعبية واعتبرها «تحالف للعار» الذي حرم الفرنسيين من «سياسة إنعاش»، وهو يقصد أنها جبهة حرمت فرنسا من حكم اليمين المتطرف الذي يتزعمه.
من جهتها، اعتبرت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن تعليقا على نتائج الانتخابات الأحد «نصرنا مؤجل فقط. المد يرتفع. لم يرتفع بالمستوى الكافي هذه المرة لكنه يستمر بالصعود» مضيفة «لدي خبرة كبيرة تكفي لكيلا أشعر بخيبة أمل بنتيجة ضاعفنا فيها عدد نوابنا». وهي تقصد من كلماتها أن النصر قادم في الانتخابات الرئاسية القادمة التي سوف تشهدها فرنسا في سنة2027. أما قصر قصر الإليزيه فقد قال، بعيد نشر النتائج، إن ماكرون ينتظر «تشكيلة» الجمعية الوطنية الجديدة من أجل «اتخاذ القرارات اللازمة».
في غضون ذلك، أعلن رئيس وزراء فرنسا غابريال أتال تقديم استقالته ، موضحا أنه مستعد للبقاء في منصبه «طالما يقتضي الواجب» خصوصا أن فرنسا تستضيف دورة الألعاب الأولمبية قريبا.
وفي انتظار تشكيل التحالفات داخل الجمعية الوطنية بين مختلف الأحزاب، يبقى الأفق السياسي مفتوحا على جميع الاحتمالات السياسية بما فيها أزمة نظام في حال عدم توافق الأحزاب على برنامج ومرشح لرئاسة الحكومة.
تعهدات اليسار
إلى ذلك تعهد زعيم اليسار الفرنسي رئيس حزب فرنسا الأبية، جان لوك ميلونشون، بالاعتراف بدولة فلسطين، عقب تقدم اليسار في النتائج الأولية للجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، التي أُجريت الاحد.
وقال ميلونشون: «سننفذ برنامجنا بالكامل، ومن ضمنه الاعتراف بدولة فلسطين «.
وأكد ميلونشون أن على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يعترف بهذه الهزيمة، وعلى رئيس الوزراء، غابرييل أتال، أن يرحل، كما يجب على ماكرون الآن أن يعهد بتشكيل الحكومة إلى الجبهة اليسارية.
من جانبها، قالت رئيسة الكتلة النيابية لحزب «فرنسا الأبية» ماتيلد بانو؛ إنه خلال الأسبوعين المقبلين «سنعترف بدولة فلسطين».
وأضافت: «في الأسبوعين المقبلين، سنرفع الحد الأدنى للأجور إلى 1600 يورو، ونلغي التقاعد عند سن 64 عاما، ونعترف بدولة فلسطين».
وقد اتفقت الأحزاب السياسية التي تمثل اليسار، التي تشمل الاشتراكيين والخضر من اليسار المعتدل والحزب الشيوعي وحزب فرنسا الأبية بزعامة جان لوك ميلنشون من أقصى اليسار، على تشكيل تحالف.
وتعهد التحالف اليساري بوضع حد أقصى لأسعار السلع الأساسية، مثل الوقود والأغذية، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى صافي 1600 يورو شهريا، ورفع أجور العاملين في القطاع العام، وفرض ضريبة الثروة، وإدخال تعديلات على ضريبة الميراث.
كذلك تعهد التحالف اليساري بوقف مشاريع بناء الطرق السريعة الجديدة، واعتماد قواعد لمكافحة هدر مياه الشرب، وإلغاء تعديلات نظام التقاعد التي نفذها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في وقت سابق، والعمل من أجل عودة سن التقاعد إلى الستين.
وأعلن أنه سينهي إجراءات التقشف التي فرضت بموجب قواعد ميزانية الاتحاد الأوروبي، وإدخال تعديلات على السياسات الزراعية المشتركة مع أوروبا.
ماذا سيفعل ماكرون؟
مع حلول معسكره ثانيا في الانتخابات التشريعية متقدما على اليمين المتطرف، تجنب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الهزيمة النكراء المتوقعة له، إلا ان المستقبل يبدو معقدا على الصعيدين الداخلي والدولي.ذلك أن معسكر ماكرون الذي كان يتمتع بغالبية نسبية من 250 نائبا في الجمعية الوطنية السابقة، بات يعاني ضعفا. فرئيس البلاد يواجه استياء حتى في صفوف معسكره منذ قراره المفاجئ الذي اتخذه بشكل يكاد يكون متفردا، بحل الجمعية الوطنية في التاسع من يونيو بعد الهزيمة الكبيرة في الانتخابات الأوروبية، وبات استئثاره بالقرارات، موضع انتقاد علني.
فقال رئيس الوزراء الفرنسي غابريال أتال الذي قاد حملة الانتخابات في هذا المعسكر ويمكنه أن يعتد بنتائجها، الأحد «حل (الجمعية الوطنية) قرار لم اختره لكني رفضت الاستسلام لتداعياته».
وسيضطر ماكرون الذي أكد قبيل إعادة انتخابه في 2022 أن فرنسا لا تتمتع «بنظام برلماني»، إلى التعامل مع خصوم لا يمكنه من دونهم الحصول على غالبية ولو نسبية.
وتنفس المعسكر الرئاسي الصعداء نوعا ما جراء نتيجة الأحد. وقالت أوساط رئيس البلاد إن «الكتلة الوسطية حية» مشددة على ضرورة «توخي الحذر» في تحليل النتائج. لكن خلافا للخطط الرئاسية، لم ينقسم اليسار، أقله خلال فترة الانتخابات، بل انطلق موحد الصفوف تحت راية الجبهة الشعبية الجديدة.
وباتت الولاية الثانية والأخيرة للرئيس الفرنسي الذي وعد بالقضاء على الميول المتطرفة في البلاد عند انتخابه العام 2017، مدموغة بتقدم غير مسبوق لليمين المتطرف الذي يتوقع حصوله على 134 إلى 152 نائبا.
هل يتجه المعسكر الرئاسي إلى اليسار الذي يطالب برئاسة الحكومة رغم انتقاداته المتواصلة له خلال حملتي الانتخابات الأوروبية والدورة الأولى من الانتخابات التشريعية في فرنسا؟
وسيقدم المعسكر الرئاسي «الشروط المسبقة لأي نقاش» لتشكيل غالبية، على ما قال رئيس حزب «النهضة» وزير الخارجية ستيفان سيجرونيه، ذاكرا العلمانية والبناء الأوروبي ودعم أوكرانيا.
وقال إن «جان لوك ميلانشون والبعض من حلفائه لا يمكنهم حكم فرنسا». أما اليمين الديغولي الممثل بحزب الجمهوريين فبدا وكأنه يستبعد أي تحالف مع معسكر ماكرون. وقال أحد مسؤوليه لوران فوكييه «بالنسبة لنا لن يكون هناك ائتلاف أو تسوية».
وقد تضعف هذه الانتخابات رئيس الجمهورية أيضا على الساحة الدولية. فقد سلطت نتائج اليمين المتطرف خلال الدورة الأولى الأضواء على فرنسا. وأعربت دول أوربية عدة عن قلقها وأخرى عن اهتمامها مثل إيطاليا التي تديرها جورجيا ميلوني اليمينية المتشددة، فيما تتولى المجر بقيادة القومي فيكتور أوربان الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي ديسمبر. بينما رحبت موسكو، علنا، بنتيجة اليمين المتطرف بعد الدورة الأولى.
ورأت كلاوديا ميجو من المعهد الالماني للشؤون الدولية والأمن في برلين «ثمة خشية من فرنسا معطلة غائبة تأتي بنتائج عكسية في ظروف دولية صعبة جدا».
وتساءلت «ما الذي يحل إذ غاب أحد القادة أو بات يأتي بنتائج عكسية؟ إن اتخذت الأمور منحى سيئا، سنجد أنفسنا مع ترامب ومع اليمين المتطرف في ألمانيا الشرقية وأوربان على رأس الاتحاد الأوروبي، وفرنسا في حال الفوضى».