«المغرب البرتغالي» بين ثقل التاريخ ومعالم الامتداد

 

لاتزال قضايا «المغرب البرتغالي» تثير نهم الباحثين والمؤرخين بالضفتين المغربية والإيبيرية. ولايزال الحرص على تجديد الرؤى بخصوص التباسات ظاهرة الغزو الإيبيري، وخاصة على مستوى رصد أشكال استمرارها في الزمن وانتصابها كشواهد مادية وكقيم ثقافية ورمزية وتاريخية، موضوع الاهتمام المتجدد لدى المغاربة والبرتغاليين على حد سواء. فالبرتغال كظاهرة تاريخية أضحت مكونا مركزيا من مكونات الهوية البصرية داخل العديد من المدن المغربية الأطلنتية، مثلما هو الحال مع مدن طنجة، وأصيلا، والعرائش، وأزمور، والجديدة، والصويرة، والقصر الصغير،… وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسمائة سنة على تواري سياقات الغزو الإيبيري، فإن الامتدادات الرمزية القائمة حاليا والشاهدة على عمق التأثير تشكل خير حافز على العودة المتجددة من أجل تكثيف البحث والتنقيب في مجمل أشكال استمرار الحضور البرتغالي داخل البيئة المغربية الراهنة. فالموضوع متجدد في مظانه، غزير في تفاصيله، عميق في تأثيراته، ومثير في خلفياته. ونظرا لهذه السمة المتميزة في واقع الحضور البرتغالي الراهن فوق الأرض المغربية، فإن مجال الاهتمام لم يبق منحصرا فقط على المؤرخين المتخصصين، بل تجاوز ذلك إلى كتاب وباحثين من مجالات علمية وإبداعية متعددة، مثل اللسانيات، والكتابات السردية الأدبية، والهندسة المعمارية،…
في سياق هذا الاهتمام المتجدد، يندرج صدور كتاب «تاريخ البرتغال في المغرب» لمؤلفه الباحث البرتغالي فيردريكو مينديش باولا، سنة 2019، في ما مجموعه 176 من الصفحات ذات الحجم العريض. ويمكن القول إن الإصدار الجديد يقدم نتائج آخر التنقيبات التي قام بها المؤلف داخل دور الأرشيف البرتغالية، وفوق الأرض المغربية من خلال استثمار نتائج الدراسات المعمارية المنجزة بخصوص العمارة البرتغالية بالمدن المغربية الأطلنتية التي كانت ضحية لموجة الغزو الإيبيري الجارف خلال القرنين 15 و16 الميلاديين.
ولعل من عناصر القوة في هذا العمل الجديد، تحرره من الرؤى المركزية التي وجهت مجمل المواقف المسبقة للإسطوغرافيات البرتغالية تجاه المغرب وحضارته ورموزه السيادية والتاريخية، مثلما هو الحال مع «كارثة» معركة وادي المخازن التي أعاد المؤلف تقديم -بخصوصها- نبشا فريدا، ساهم في بلورة مقاربات غير مسبوقة، مخلصة لمنهجها العلمي، ومتحررة من يقينيات المصنفات التاريخية الكلاسيكية الإيبيرية للقرون الخمسة الماضية. والملاحظ في هذا الكتاب، حرص المؤلف على التركيز على مدينتين اثنتين، اعتبارا لما استخلصه من أدوار اضطلعتا بها في سياق جهود دولة البرتغال خلال القرنين 15 و16 لتأبيد وجودها فوق الأرض المغربية، بعد أن تحولتا إلى قاعدتين متقدمتين داخل العمق المغربي، مكنتا سلطات الاحتلال من توسيع نفوذها داخل مناطق واسعة بأصقاع محيطهما الإقليمي المجالي. يتعلق الأمر بكل من مدينة مازغان، أو الجديدة الحالية، بعمقها الواسع داخل منطقة دكالة والممتد إلى حدود مدينة مراكش، ثم بمدينة أصيلا بعمقها الإقليمي الممتد إلى قلب بلاد الهبط بمنطقة جبالة.
تحضر مدينتا أصيلا ومازغان قويا بين مضامين متن الكتاب، في مستويات متداخلة، تجعل الكتاب يقدم نتائج متقدمة ومجددة لمجمل الأحكام العامة المتداولة بهذا الخصوص. وللاقتراب من السقف العام للخلاصات الكبرى التي انتهى إليها الكتاب، أستشهد بالتركيز الكبير الذي أعطاه المؤلف لظروف احتلال البرتغاليين لمدينة أصيلا سنة 1471، حيث نجد وصفا دقيقا للملابسات التي أفضت إلى احتلال المدينة، وخاصة الخلفيات التي تحكمت في هذا الاحتلال. في هذا السياق، أبرز المؤلف كيف أن هذا الاحتلال يندرج في إطار ظروف ما بعد الحملات البرتغالية لاحتلال مدينة طنجة، عندما اقتنع الملك البرتغالي أن لا مجال لإسقاط طنجة في قبضة البرتغال إلا بمحاصرتها برا. وبما أن هذا الحصار البري كان يستلزم احتلال مدينة أصيلا لتحويلها إلى قاعدة لانطلاق الغزو البرتغالي البري، فإن القيادة البرتغالية اعتبرت إسقاط مدينة أصيلا اختيارا استراتيجيا على المستوى العسكري بالنسبة لمشاريع الغزو البرتغالي في كل الشمال المغربي. لقد استفاض المؤلف في رصد هذه الحيثيات، وتجاوز السياق الزمني الضيق المرتبط بتاريخ الاحتلال، أي سنة 1471، لتقديم تحليل دقيق يبرز دور مدينة أصيلا في تخطيط الملك دون سيبستيان لمشروع احتلال المغرب سنة 1578، وهو المشروع الذي انكسر في نفس السنة على أعتاب مدينة القصر الكبير في معركة وادي المخازن الشهيرة. لقد استفاض المؤلف في إبراز دور مدينة أصيلا في التمهيد للمعركة المذكورة، مقدما تفاصيل مهمة في الإعداد الذي سبق الإنزال العسكري البرتغالي ثم بداية التحرك نحو العاصمة فاس، وهي التفاصيل التي استند فيها المؤلف إلى مصادر برتغالية غير متداولة على نطاق واسع، إلى جانب مادة وثائقية غميسة.
وفي الشق الثاني من اهتمام المؤلف بالحديث عن حضور «أصيلا البرتغالية»، نجد اهتماما دقيقا بالمجال العمراني الخاص بالعمارة البرتغالية بالمدينة. في هذا الإطار، نجح المؤلف في استثمار نتائج أبحاث متخصصة في الهندسة العمرانية البرتغالية بمستعمرات عالم ما وراء البحار، حيث نشر تصاميم وخرائط تفصيلية، وتحليلا للمكونات الجزئية لمرافق هذا التراث العمراني الخصب والغني، وعلى رأسه السور البرتغالي الذي يبلغ طوله 1164 مترا، ثم الأبراج، والخندق، والتجهيزات الحربية، ومقر إقامة الحاكم،… ولم يكتف المؤلف بتوجيه اهتمامه نحو المكونات العمرانية للمدينة والمحصورة داخل السور التاريخي، بل تجاوز ذلك للحديث عن أحواز المدينة حيث نجح البرتغاليون في خلق امتداد عضوي لنفوذهم، على الرغم من قوة حركات المقاومة التي قادها المغاربة من مراكز جهادية متعددة، وعلى رأسها مركز جبل حبيب في قلب منطقة جبالة. يحتفي الكتاب بالحضور البرتغالي فوق الأرض المغربية، وفق نظرة متحررة من اليقينيات الكولونيالية. وفي المقابل، نجده يعيد تركيب عناصر اللحمة الحضارية التي خلفها البرتغاليون ببلادنا، من خلال تشريح مقومات التراث الرمزي غير المدون المشترك بين الضفتين، وهو التراث اللامادي الذي يتكامل في مضامينه التاريخية مع «الرسائل الحضارية» التي تحملها الشواهد المادية التي لا تزال منتصبة في قلب المدن المغربية الأطلنتية، بعد أن تحولت إلى كليشيهات متناغمة ومنسجمة مع العين المحلية التي لم تعد تجد في البرتغال، كدولة وكشعب وكثقافة، رمزا للاحتلال وللغصب، ولكن -في المقابل- رمزا لجسور التواصل الممتد بين الطرفين، ولأشكال التجانس القائم على مستوى العقليات والذهنيات وأنماط التفكير وسبل تدبير العيش المشترك.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 21/09/2022