المغرب من ممر للهجرة إلى «إلدورادو» افريقي واعد : قراءة معمقة في معطيات خريطة المقيمين الأجانب لإحصاء سنة 2024

لم تعد الهجرة الأجنبية في المغرب مجرد ظاهرة اجتماعية عابرة أو امتدادا لموجات العبور نحو أوروبا كما كان عليه الوضع منذ تسعينيات القرن الماضي. يكشف الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024 عن تحول بنيوي عميق في طبيعة الوافدين، وفي أسباب استقرارهم، وفي توزيعهم الترابي، بما يجعل المغرب اليوم فضاء جديدا للعيش والعمل والدراسة، لا محطة مؤقتة للمهاجرين.
وتؤكد البيانات، المستندة إلى أول مسح دقيق من نوعه يشمل الأجانب، أن المملكة تعيش توسعا ملموسا في تنوعها الديموغرافي، مدفوعا بعودة الاستقرار الاقتصادي، وتعزيز التعاون جنوب–جنوب، وتغيير مسارات الهجرة الإقليمية.

مسار نصف قرن: من الانكماش الديموغرافي إلى الارتفاع المتسارع

تظهر السلسلة التاريخية للمندوبية السامية للتخطيط أن عدد الأجانب المقيمين بالمغرب مر بتقلبات حادة منذ 1971. فبعد أن بلغ 112 ألفا في بداية السبعينيات، تراجع إلى مستويات دنيا خلال إحصائي 1982 و1994، في سياق الأزمة الاقتصادية وسياسات التقويم الهيكلي.
غير أن المنحى، شهد تغيرا جذريا منذ بداية الألفية، إذ عاد العدد إلى الارتفاع بوتيرة تدريجية، قبل أن يقفز بقوة بعد 2014 ليصل سنة 2024 إلى 148.152 أجنبيا، بزيادة 76,4% خلال عشر سنوات فقط.
إن هذه الطفرة ليست نتيجة تراكم طويل المدى، بل ثمرة موجة هجرة جديدة لافتة: 55,3% من الأجانب الحاليين وصلوا بين 2021 و2024، بينما استقر 35,8% بين 2011 و2020، والبقية قبل ذلك. يشير هذا التوزيع الزمني إلى تغير في جاذبية المغرب كوجهة للإقامة، وإلى دخول عناصر جديدة – اقتصادية وأمنية وإقليمية – رسمت ملامح مرحلة هجرة مختلفة.

«أفرقة» الوافدين وتقلص
الثقل الأوروبي

أحد أهم ما تكشفه بيانات 2024 هو تغير جذري في جغرافيا المقيمين الأجانب. فقد أصبحت إفريقيا جنوب الصحراء تمثل القطب الأول لجنسيات الوافدين بنسبة 59,9%، صعوداً من 26,8% سنة 2014.
تتصدر السنغال (18,4%) وكوت ديفوار (17,3%) المشهد، تتبعها كل من غينيا ومالي والكونغو والكاميرون. هذا التحوّل يرتبط بعمق الروابط السياسية والدينية والاقتصادية بين المغرب وغرب إفريقيا، وبأثر برامج تسوية الوضعية القانونية التي أطلقتها المملكة منذ 2013.
في المقابل، تراجع حضور الأوروبيين إلى 20,3% (بعد أن كانوا 40% في الإحصاء السابق)، مع بقاء الفرنسيين في مقدمة هذا المكون بنسبة 13,8%. كما تراجعت نسبة المغاربيين إلى 6%، متأثرة بانحسار الهجرة الليبية التي كانت بارزة في العقد الماضي.
وتضيف الوثيقة تفاصيل دقيقة لجنسيات أخرى أقل حضورا لكنها مهمة في فهم المشهد في المملكة. يمثل الآسيويين نسبة 4,1% في المجموع ومتنوعة بين الصين بـ24,8%، الفلبين بـ21,5% وتركيا 15%.
وبالنسبة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA) فهي 7% تقريبا (السوريون يمثلون 41,4% ضمن هذه المجموعة، كما تتشارك الأميركيتان نسبة 1,8%. هذه الخريطة الجديدة تُخرج المغرب من ثنائية “إفريقيا–أوروبا”، لتضعه داخل فضاء تعددي عابر للقارات يتشكل على وقع تحولات اقتصادية وتربوية وثقافية متسارعة.

دوافع الهجرة..
الاقتصاد أولا ثم الدراسة

تكشف بيانات الإحصاء، لأول مرة، الأسباب الفردية للاستقرار في المغرب، التي يتصدر قائمتها العمل بنسبة 53,3%، ما يعكس الطلب الكبير على اليد العاملة الأجنبية في قطاعات أبرزها: البناء؛ الخدمات المنزلية؛ الفندقة؛ الصناعات الخفيفة؛ الاقتصاد غير المهيكل.
أما الدراسة فهي سبب رئيسي لـ 14% من الوافدين، خصوصا الطلبة من غرب إفريقيا الذين يتوزعون بين الجامعات العمومية والمدارس العليا، مستفيدين من منح التعاون الدولي أو من جاذبية سوق الشهادات المغربية.
في نفس السياق، تظهر أسباب أخرى ذات دلالات (حتى وإن كانت أقل حضورا) على غرار: الحروب والاضطرابات (الداخلية أو الإقليمية) بنسبة 2,5% (خاصة للسوريين) ؛الاستثمار والأعمال بنسبة 1,8%؛التقاعد بنسبة 2,2% (خاصة لدى الأوروبيين) ؛الهروب من العنصرية أو التمييز بنسبة 0,5%؛ الأسباب المناخية (فيضانات/تصحر) بنسبة 0,3%؛التطبيب والاستشفاء بنسبة 0,3%.
وتبرز المعطيات الديموغرافية كذلك، صورة مجتمع مهاجر فتي وذو مؤهلات. فنسبة 80,1% من الأجانب في سن النشاط، و38,9% منهم حاصلون على تعليم عال (نسبة تفوق المعدل الوطني). أما على مستوى الحالة العائلية، فيشكل العازبون 49,4%، والمتزوجون 45,5%، فيما يبقى حضور المطلقين والأرامل محدودا.

المدن المستقطب الأول..
وصعود جهات جديدة

ما يميز الهجرة الأجنبية في المغرب أن لها طابعا حضريا بامتياز، كون 95% من الأجانب يعيشون في المدن. فمن حيث الجهات، تحتفظ جهة الدار البيضاء–سطات بصدارتها بنسبة 43,3% – تعبيرا عن موقعها الاقتصادي المركزي – تليها الرباط–سلا–القنيطرةبـ19,2%، رغم التراجع النسبي الذي سجلته مقارنة بالعقد الماضي.
وتسلط الوثيقة الضوء على تحولات جغرافية مهمة من حيث الاستقطاب. فقد تراجعت جهة الشرق من 7,5% سنة 2014 إلى 1,9% فقط، بفعل تقلص الهجرة العابرة وتشديد المراقبة الحدودية. وانخفضت حصة جهة فاس–مكناس من 9,2% إلى 4,1% بسبب محدودية الفرص الاقتصادية.
ومن جهة أخرى، فقد برزت جهات مراكش–آسفي وسوس–ماسة، حيث تصاعدت نسبتهما تصعدان إلى حوالي 9% لكل منهما، بفضل الدينامية السياحية والفلاحية. وأما جهة الداخلة–وادي الذهب فقد تضاعف (تقريبا) حصتها من 2,2% إلى 4,2% بدفع من مشاريع الصيد واللوجستيك والميناء الجديد. تبرهن هذه التغيرات على أن الهجرة الأجنبية تتحول تدريجياً إلى عنصر بنيوي في ديناميكية الاقتصاد الجهوي.

الأسر المختلطة، سوق السكن، والاندماج الاجتماعي: نحو ملامح مجتمع حضري جديد!

تكشف المعطيات الأسرية مستوى متقدماً من الاندماج بين المغاربة والأجانب ؛ وأن نسبة 69,3% من الأسر التي تضم أجانب هي أسر مختلطة، في حين تمثل الأسر الأجنبية الصرفة 30,7%. ويعكس هذا المعدل انتشار الزواج المختلط، وتوسع أشكال السكن المشترك، وتراجع الصورة النمطية حول “تجمعات مهاجرين معزولة” (Les Ghettos).
وتبرز الوثيقة كذلك، مستويات دقيقة لتشكيلات الأسر. بلغت نسبة من يعيشون بمفردهم 36,7%، كما أن30% يعيشون داخل أسر مركّبة، و 22,2% في أسر أحادية الوالد، و 11,1% أزواج بلا أطفال.
أما في سوق السكن، فيقطن 57,9% من الأجانب في شقق حضرية، ويستأجر 62,3% مساكنهم، بينما ترتفع نسبة الملكية داخل الأسر المختلطة بشكل ملحوظ. وعلى الجانب الاقتصادي، يشتغل 65,8% في القطاع الخاص، فيما يشكل الطلبة والمتقاعدون والعاملون المنزليون نسبا متفاوتة ضمن الفئات الأخرى.
وتبرز هذه المؤشرات، في مجموعها، أن وجود الأجانب لم يعد مؤقتا ؛ بل يساهم في إعادة تشكيل المشهد الحضري المغربي، عبر أنماط عيش جديدة، وتنوع ثقافي، وتداخل اجتماعي متزايد.

الصورة باتت واضحة..

تقدم نتائج إحصاء 2024 صورة واضحة: المغرب لم يعد نقطة عبور أو “حديقة خلفية” للطرق التهريبية نحو أوروبا، بل بات فضاءا للاستقرار الدائم لعدد متنامٍ من المواطنين الأجانب المنحدرين من قارات متعددة.
تظهر معطيات التقرير أن التحول ليس ظرفيا، بل نتاج دينامية اقتصادية داخلية، واستراتيجيات دبلوماسية إفريقية، و تغيرات جيوسياسية. والأهم، أن هذا التحول يعيد تشكيل المجتمع الحضري المغربي في اتجاه تعددية أكبر، واندماج اجتماعي أعمق، وتنوع ديموغرافي يعكس موقع المملكة كفاعل محوري في فضاء الهجرة جنوب–جنوب.


الكاتب : إ و تـ: المقدمي المهدي

  

بتاريخ : 02/12/2025