«المـغـرب الذي عـشـته» للأستاذ عبد الواحد الراضي

 

تقديم قراءة موجزة عن كتاب « المغرب الذي عشته ، سيرة حياة « للأستاذ الكبير الراحل عبد الواحد الراضي ، مبعث اعتزاز وقد أعتبره امتيازا لأسباب عديدة أذكر منها :
1 ــ أن الأستاذ عبد الواحد الراضي قيمة وطنية هامّة ،فهو من الرعيل الأول من المثقفين الذين ساهموا في تأسيس الجامعة المغربية ،وتحمّل فيها مسؤوليّة رئيس شعبة .وهو رجل دولة ، قائد يساري،وطني، مناضل ديموقراطي، كرّس حياته من أجل البناء الديموقراطي والمؤسساتي للمغرب الحديث .
2 ــ لأن جمعية أبي رقراق التي أتشرف بعضوية مكتبها التنفيذي والتي يرأسها الأستاذ الفاضل الذي كرّس حياته للعمل الجمعوي «نور الدين اشماعو» ويترأس فيها مهرجان «مقامات « ، الباحث والفنان المبدع «عبد المجيد فنيش « والتي هي من بين الجمعيات التي تهتم بالفكر والفن والثقافة والعمل الاجتماعي هي من سيقدم هذا الكتاب ، وذلك له دلالته، لأن الكتاب ينطلق من مسار شخص إلى مسار وطن .
3 ــ لأني اقتسمت مع المؤلف « ّ عبد الواحد الراضي» بعضا من المراحل التي أوردها في كتابه ، عرفته ـ منذ بدايات انخراطي السياسي ـ كأخ في الحزب ، كأستاذ وكـقائد . كنا أسرة واحدة ،وشرّفني بالعمل معه في محطات عديدة داخل الحزب وفي الفضاء العمومي ، وآثرني باختياره لي مستشارة له في ديوانه عندما كان رئيسا لمجلس النواب .
4 ــ لأن هناك مشتركا هامّا بيننا عدا العمل في المجال السياسي وهو مدينة سلا ، حيث ننتسب معا إلى هذه المدينة بإرثها التاريخي، وتنوعها الاجتماعي وعمقها الثقافي وغناها الفكري.وقد خصص لها حيزا هاما في كتابه، فتحدث عن عمقها التاريخي وإرثها الحضاري وثرائها العمراني،وذكر العديد من جنباتها لا كفضاءات عادية قضى فيها طفولته وصباه ، بل نجده يتحدث عن ذاكرة الأمكنة،عن العائلات ، عن بعض العادات، عن خصائص الحياة اليومية ، عن المقاومة ..وعن ..وعن ..، فكان يحييها ويغنيها بتحليلاته .
سأقدم بعض محتويات الكتاب باختصار، و سأذكر بعض القضايا التي استوقفتني وهي عديدة ، يصعب معها الإيجاز والاكتفاء بالإشارة ،ولكن ليس لدي خيار. .
الكتاب من القَطْع المتوسط في 808 صفحة ، الناشر: المركز الثقافي للكتاب ،الدار البيضاء وبيروت .حرّر سيرة الحياة هاته الشاعروالروائي «د حسن نجمي « رئيس اتحاد كتاب المغرب سابقا و(المهتم بالثقافة المغربية وبهوامشها ،من أوائل من جعل الزجل موضوعا لبحثه في شهادة الإجازة وأول من اختار موضوعه لشهادة الدكتوراه فن العيطة).
يتوزع الكتاب على 22فصلا بدءاً من : الطفولة في البادية وفي مدينة سلا والتأطير الجمعوي، مُروراً ب : الحركة الوطنية والمهدي بنبركة ومغرب الستينات وعلال الفاسي والاتحاد العربي الافريقي والمغفور له الملك الحسن الثاني والمؤتمر الخامس للاتحاد الاشتراكي ومابعده:الكتلة الديموقراطية وتحضير التناوب، وعبد الرحيم بوعبيد ورئاسة مجلس النواب وعبد الرحمان اليوسفي والكتابة الأولى للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، وصولا إلى : مغربيّ بهوية كونية على رأس الاتحاد البرلماني الدولي،كما أورد فصلا خاصا عن جلالة الملك محمد السادس حفظه الله تحت عنوان «المغرب وأفقه الديموقراطي « وختم كتابه بملحق للصور الـفوتوغرافية .
يبتدئ الكتاب بقولة « ويليام تشرشل» : « إن شعبا لا يستطيع أن ينظر إلى ماضيه لا يمكن أن يكون له مستقبل».يتلوه إهداء له خصوصيته ومعناه وفرادته ،فقد أهداه لأسرته الصغيرة والكبيرة ولسكان دائرته وإلى القادة والزعماء الذين رافقهم وتتلمذ عليهم، وإلى كل المناضلين الذين اقتسم معهم جزءا من حياته .ومن كرمه شكره لكل أصدقائه الذين ساهموا في الكتاب إما بالقراءة أو الاقتراح أو الدعم المعنوي،أوالذين مكّنوه من بعض الصور . وقد وجدت اسمي ضمن الذين ذكرهم، أغتنم هذه الفرصة لأقول له : شكرا.
وصف الأستاذ عبد الواحد الراضي كتابه بأنه شهادة شخصية أُنجزت ليطلع عليها الشباب وقد يستفيدون من تجربة هذه الحياة…فالأمر لايتعلق إذن بمؤلَّف تاريخي ،وإنما باستعادة حياة شخصية واكبت وقائع تاريخية، وعايشت أحداثا وطنية ودولية كان لها تأثير حاسم في تشكّل الأشخاص والمجموعات الاجتماعية والسياسية .
حياة الأستاذ عبد الواحد الراضي تتداخل مع حيوات آخرين أذكر منهم المرحوم الملك الحسن الثاني وكذلك جلالة الملك محمد السادس ، والمرحوم علال الفاسي والمرحوم عبد الله إبراهيم والمرحوم عبد الرحيم بوعبيد والأستاذ عبد الرحمان اليوسفي أطال الله عمره . إلا أن شخصيّة عبد الواحد الراضي ــ من خلال الكتاب ــ هي تركيبة متشابكة مع ثلاث شخصيات أثّرت ولا شك في وعيه ولا وعيه، وفي سلوكه ونظرته للحياة،وهم المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد والملك الحسن الثاني، تغمّدهم الله جميعا بواسع رحمته.هذا دون أن نغفل طبعا مكونات اخرى لشخصيته كسياسي، وعالم نفس ورجل تربية ورجل فكر : إنه كل هذا .
عنوان الكتاب
أول شئ استوقفني في الكتاب هو العنوان ، تساءلت لماذا لم يسمّه ( المغرب الذي عشت فيه ) أو ( المغرب الذي عرفته ) أو ( المغرب كما أعرفه ) لماذا اختاربالتحديد (المغرب الذي عشته) فوجدت أن لهذا التعبير معناه العميق وخصوصيته، فسيرة حياته هي المغرب الذي عاشه، سيرة حياته وتاريخ ومسار بلده يتماهيان ويتداخلان فيصعب الفصل بينهما.
حكي وتحليل وصورة .
ــ قد يبدو في الوهلة الأولى أن الكتاب مبني على الحكي، فالمؤلف يحكي التفاصيل الصغيرة والكبيرة بطريقة شيقة، سهلة، ممتعة، وممتنِعة . ولكن هناك جانبا ثانيا يتخلل الحكي وبقوة ،إنه التحليل الفكري والمعرفي والتاريخي لتطور المجتمع والدولة في المغرب ، مدعّم بالتوثيق الفوتوغرافي . الصورفي الكتاب ليست للتذكير أو التكميل فقط بل هي وثائق تدعم البعد السردي وتضيئه كحجج ،بل تضيف معان أخرى للأحداث بما تحفل به من حمولة أبعاد بصرية ومعانيها، وأعتقد أن قراءة خاصة لصور الكتاب وحدها يمكن أن تكون سندا أساسيا لكتابة تاريخ المغرب في تلك الفترة لأنها تسجل أحداثا معينة بعضها مِفْصليّ هام وأساسي .
على طول الكتاب نجد ـ كما أشرت سابقا ـ تداخلا بين المسار الشخصي للكاتب وبين التحولات الثقافية في المغرب مما يؤكد أن الكتاب ليس سيرة حياة تقليدية لشخص بعينه بقدر ماهو تاريخ لتبلور مجتمع بمؤسساته ومدنه . فقد كان «للشبيبة والرياضة» ولبعض أنشطة المجتمع المدني آنذاك دورهما في تشكيل شخصيته بدْءا من مدينة سلا ،من مدرسة السور، من حواري وأزقة هذه المدينة التي كانت مشتلا لجيل من القادة في الحركة الوطنية والسياسيين والاقتصاديين ورجال ونساء الفكر والتربية ،كانت سلا تَنّوراً يَغلي ليُنضِج جيلا قويّا مسؤولا . تحدّث عنها كمدينة لها شخصيّتها ورموزها وأولياؤها ووطنيوها وإشعاعها ،فيها تمكّن كطفل وكيافع من أن يبدأ التمييز بين نمطين اثنين في التربية طبعا حياته :
في البيت والكُتّاب في المدرسة
ــ يُؤمَر بعدم اللعب ــ يحصل على درجات أعلى إن أحسن اللعب .
ــ يؤمر بعدم الرسم ــ يحصل على درجات أعلى إن أحسنه
ــ الأمر بعدم كثرة الأسئلة ــ أجوبة منطقية تعلم التعوّد على السؤال
ــ مناقشة الرأي ( قباحة ) ــ مناقشة الرأي ميزة
ــالكتابة على الألواح ــ استعمال السبورة والدفتر
ــ الحفظ والتقليد ــ الشرح والفهم والاستيعاب
ــ النجاح = الطاعة ــ النجاح : بناء الشخصية وقدراتها .
وأنا أقرأ الكتاب عاد إلى ذهني تساؤل كان لا يفارقني حول قدرته على الجمع بين نقيضين : الأستاذ عبد الواحد الراضي رجل اليسار مارس المعارضة على مستوى التحليل والخطاب وعلى مستوى الممارسة السياسية والتنظيمية .وهو بخطابه ونظرته للأشياء، كيف جمع بين نقيضين في زمن كان يصعب فيه الجمع بينهما ؟ليخلص إلى نظرة وخطاب خاصّين به .
إضافة إلى قدرته على هذا الجمع،لا بد أن أشير إلى قدرته القوية على الكتمان وهي ميزة نادرة جعلته رجل ثقة بامتياز . كان واسطة بين المرحومين الملك الحسن الثاني والزعيم عبد الرحيم بوعبيد ، بين الدولة والمعارضة في الزمن الصعب، دور دقيق لتقريب وجهات النظر، دور خفي لا مرئي ، لا يعرفه إلا القليلون جدا، دور يتم في الأروقة يلُـفّه الكتمان ، ويفرض على صاحبه حفظ الأسرار . لقد صرّح لخلصائه أثناء تحرير كتابه بأن (هناك أسرارا لا أستطيع أن أكشفها حتى لنفسي ) . شخصيا أتوقع دفنت معه .
هذه القدرة على الكتمان لم تكن سهلة بل جعلته ـ كما قال ـ يتألم في صمت ،أو بتعبيره في سيرته الذاتية (كم كان الألم الصامت هو امتيازي الوحيد ) .لأنه ليس من السهل ـ كما قال أيضا ـ أن ينجز عملا يتلقى عنه آخرون الثناء ، ويتلقى عنه هو ـ أحيانا ـ أنواعا من الإشاعات التي تُسمّم النفس وتُلحق الضرر… وقد تمسّ أحيانا نزاهة وصدق انتمائه ونقاء تاريخه وكرامته كمناضل .
هذا الكتمان مارسه أيضا حتى بين أفراد أسرته، بحيث لم يكن يحدّث أيا منهم بما يحكيه له الآخرون رغم محبته القوية لهم .
هناك الكثير مما يقال ويصعب علي الاختيار في هذه الدقائق القليلة المُخصّصة لمداخلتي ،ولكن قبل أن أختم ببعض أقواله ، لا بد أن أشير إلى مسألة أخرى ألحّ عليها المؤلِف حتى في الخلاصات الواردة في سيرة حياته،وتتعلق بالحزب الذي ينتمي إليه «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية « وتحديدا بالممارسة الديموقراطية التي ميزت الممارسة السياسية التي كان منخرطا وفاعلا فيها ، حيث ناضلوا جميعا من أجل زرع وترسيخ ثقافة سياسية وحقوقية حديثة ، وقيم كونية متعلقة بالحريات والعدالة والمساواة وحقوق الانسان ،وكانوا غالبا ما يواجهون في سنوات الستّينيات والسبعينيات بأنها ثقافة وقيم مستوردة من الخارج ، دخيلة لا تنسجم مع الروح المغربية فكانت كُلفة الإيمان بها باهظة بالنسبة للذين دفعوا الثمن غاليا ،ويتضح هذا من خلال إلاحصائيات التي أعلنت عنها «هيئة الانصاف والمصالحة « حيث نجد أن 70 في المائة من ملفات سنوات الجمر من هؤلاء،واليوم وكما يقول أستاذنا الراضي أصبحت ثقافةَ المجتمع والدولة،وأصبحت جزءا هاما من الخطابات الرسمية ، تبنّتها الدولة وأقرّها دستور 2011 ، أصبحت ثقافة بلد ، مغرب الديموقراطية والعدالة .
وأختم بعبارات أستقيتها من الكتاب تترجم بعضا من مقومات شخصية ّ عبد الواحد الراضي :
ــ «المغرب كان دائما نصب عينيّ : تاريخه،استقراره، قوته، صورته، تلاحمه، ووحدة صفه، ومستقبله، ومصلحته العليا «.
ــ « العمق الانسانيّ والحضاريّ والثقافيّ والفكريّ والأخلاقيّ الرحب والمفتوح ،هو مرجعي وبوصلتي».
ــ» أن تعمل برأسمال اسمه الثقة، واسمه الآخر العهد، واسمه الرسميّ القسم . أن تقسم أمام نفسك أمام ضميرك،أمام تاريخك، وأمام الله أولا وأخيرا بأن تخدم مشروع بلدك وشعبك. «
ــ «البوْح بالحقيقة إلى الحد الذي يسمح به العقل والمنطق والأخلاق والمصلحة العليا للبلد»
ــ « الثقة هي رأسمال رجل السياسة وامرأة السياسة،وهي القانون الخفيّ لشرطنا السياسي، بل لشرطنا الاجتماعي والثقافي .»

وأخيرا ، فمن الصعب أن أقدم كتابا بهذا الحجم من الغنى والعمق ، كتابا في حجم هذا الوطن الشاسع الذي أحبه في دقائق معدودة وحتى في ساعات ، كما أودّ وأرغب ، لان هذا سيكون من رابع المستحيلات.

* قدمت الأستاذة الباحثة أمينة أوشلح هذه القراءة الموجزة لكتاب الأستاذ عبد الواحد الراضي ( المغرب الذي عشته، سيرة حياة ) في الجلسة الافتتاحية لمهرجان مقامات الذي تنظمه جمعية أبي رقراق بإدارة الباحث المخرج عبد المجيد فنيش، وذلك يوم 8 / 5 / 2017 بالقاعة الكبرى للمجلس البلدي ،باب بوحاجة ، سلا .


الكاتب : أمينة أوشلح

  

بتاريخ : 02/06/2023