يعتقد البعض أن المكتبة حيّز مكاني ترصف فيه الكتب وتحفظ، وتوضع في رفوف تخرج من حالة الفراغ إلى وضع جديد هو الامتلاء، بل إنها ذاك الفضاء الذي تتعالق فيه الأجساد والعقول، وتُخْلَق فيها حياة أخرى تختلف وتتباين عن الحياة العادية، فالحياة جديدة بيت آخر تسوده المودة ومحبة الخيال، ورحابة اللغة، ورجاحة العقل، ورسائل العواطف المبثوثة بين هاته الثنايا الورقية.
هذا البيت الآخر الذي يبقى أليفا في المنفى، وحليفا في العزلة، لكن المنفى والعزلة شيئان محبوبان بالنسبة لي على الأقل، ذلك أن الغربة والنفي والعزلة تنتفي في حضرة رفاق طيبين، مسالمين، يحبون ديمومة الحياة، ويكرهون موت العقل وجمود التفكير، يضحون طول الأبد، لا يكِلّون ولا يمَلّون، يوثرون على أنفسهم ولو كان بهم يتم وحيْف، لا يكترثون بتقلبات المناخ، ولا بصفقات الحروب والسلام، ولا بالحلفاء والأعداء، لا يحملون الضغينة تجاه أحد، حبهم الوحيد الانتصار للجمال والنور والجلال.
عدوهم الكبير الحجْر على العقول، وقتل الأحلام، واغتيال كل الأشياء الرائعة في حياة الإنسان، وهم أيضا من أنصار الماء، يتغيرون، ويغيّرون جلدهم كلما ناوشهم قارئ ما قراءة وتفكيكا وتحليلا وإصغاء.
حين شيّدت بيتي الآخر بنيته بمحبة الأطفال الذين لا يحملون في قلوبهم غير براءة الحب وطهره، وبصداقة كتب مازلت أصافيها صفاء السماء في ظهيرة ربيعية، كنت كلما اقتنيت كتابا عزيزا، أو عثرت على ذخيرة من الكتب أشعر بروح جديدة تسري في خلايا الجسد وبقاع الوجود، كم كنت أحزن حين أدلف مكتبة عمومية في أية مدينة ولا أجد فيها مبتغاي، فالكتاب بالنسبة لي نَفَسٌ آخر لا يفقه جوهره إلا الراسخون في حب الخيال واللغة والحلم.
منذ ثلاثة عقود، وأنا صحبة الكتب، لم أشعر يوما بكآبة تلبسني وأنا بقربهم، أعتني بهم كما أهتم ببيت أسرتي الصغيرة، وأصففهم بعشوائية أعتبرها أجمل وأبهى، فوضى الكتب تعبير عن أرخبيلات متفرقة غير أنها تجتمع على مائدة واحدة، مائدة المحبة. فكل كتاب عندي بمثابة كينونة تتخلّق من صلب الأفكار والخيالات والآمال والأحلام التي تصاغ باللغة.
المكتبة هذا العالم الغريب العجيب جمّاع لكائنات لغوية ملحها خيال جامح جانح، ورؤى مسافرة في سماء الآفاق البعيدة، ولا يمكن لأي أحد أن يدرك كنهها ويبحر في محيطاتها المدلهمة أسئلة وقلقا، توترا وصراعا، تفكيرا وتأملا إلا الذي يحب، فبدون محبة لا تستقيم حياة الكتب، فالكتاب ميت إذا لم تفتحه قراءة ومصاحبة، فإن ظل مغلقا فهو يشبه مقبرة.
وما يجمّل المكتبة كونها مجرات متعددة، تدور في فلكها كتب تشرع أفق الترحال في كواكب وأجرام وفضاءات مفتوحة على المحتمل، الكائن والممكن، على المحدود واللانهائي، وتشق للقارئ دهاليز مظلمة يضيئها ضوء العقل وارتجاج العاطفة.
إن البيوت التي تنعدم فيها المكتبة، المقيم فيها عدم، وعدمه أجدر من وجوده.