المهدي المنجرة المنذر بآلام العالم

لا جدال في كون المهدي المنجرة عالم المستقبليات يمثّل الصوت النشاز والمفارق للأصوات المثقفة في العالم، ومردّ ذلك إلى رؤيته الثاقبة وزوايا النظر، التي ينطلق منها في تحليل قضايا العالم وفق استراتيجية علمية، أساسها الانتصار إلى الإنسان. كما أنّه علَم من أعلام الفكر الرافض للهيمنة الغربية واستحواذها على خيرات الشعوب الثالثية خصوصا، ويعتبر من المعارضين الأشدّاء للإمبريالية المتوحشة، منتقدا جشع النيولبيرالية الجديدة أو الاستعمار الجديد، ومن المدافعين الأُصَلاءِ عن حق العالم الثالث في تحقيق تنمية مستقلة عن سياسة الدول العظمى اللاإنسانية، من خلال، دعوته إلى بناء نظام عالمي جوهره العدالة والإنصاف والكرامة.
كما فضح الأنظمة المتخلفة التي تسعى دائما إلى ترسيخ ثقافة العبودية والاستعباد، وممارسة الجَوْر والاستبداد، بل يعدّها السبب الرئيس في تخلف شعوبها، وذلك بالعمل على تكريس ثقافة الخنوع والخضوع والتبعية المقيتة لإملاءات صندوق النقد الدّولي وبنك باريس وغيرها صناديق، ممّا يؤدي إلى انتشار أحزمة البؤس والفقر والجهل واللاأمن، وهذا يتناقض مع كل المواثيق الدولية، فبدون إنسانية الإنسان لا يمكن الحديث عن القيم، لهذا حاول الوقوف إلى جانب الإنسان أين ما كان بالحث عن قيمة القيم التي أبرز أنها المسلك الوحيد للقضاء على التغوّل الإمبريالي في دول العالم الثالث.
بعبارة أخرى إن العمل على نشر القيم الإنسانية – كما يتصوَّرها المنجرة -لكليشيهات برّاقة تعمي البصر والبصيرة، وإنما كثوابت يشترك فيها كل الناس كيفما كان عرقهم أو جنسهم أو لونهم أو دينهم، لكن المهم هو الإنسان في جوهره وعمقه. وقد كان هذا الأمر من بين الانشغالات المهمة والرئيسة عند المفكر المهدي المنجرة الذي نذر حياته وعمره وعقله لهذه القيم النبيلة.
ويعتبر المنجرة كذلك من أهم المفكرين الذين أبدعوا مفاهيم عديدة منها قيمة القيم / الميغا-إمبريالية/ الاستعمار الجديد. بل إن مفهوم صراع الحضارات كان سبّاقا إليه قبل صامويل هنتنجتون الذي اعترف وأقرّ بهذا. فالمهدي المنجرة وظف هذا المفهوم كموقف وقائي بنائي لا أصولي، بغية الوقوف إلى جانب الدول الضعيف؛ وإلى الانتصار للإنسان بأبعاده التاريخية والحضارية، لأن هذه الحضارة الإنسانية، في مشروعه التحليلي، لم تأت من فراغ، بل تحقّقت بفضل كل البشر.
من هنا كان المنجرة رمزا من الرموز الفكرية العالمية التي عرّت حقيقة القوى الدولية على المستوى السياسي، من خلال، الوقوف على مخططاتهم الجهنّمية والكشف عنها برؤية عميقة، الشيء الذي جعله محطّ الاهتمام نظرا لما يميّز قراءاته للوضع الدولي من نباهة وتصوّر واع ومتشرّب من كافة العلوم والمعارف.
ولعل ما تنبأ له بخصوص حرب الخليج الأولى والثانية، حيث أشار إلى الكوارث التي ستنجم عنها ، كوارث إنسانية/ اجتماعية/ سياسية/ وبيئية، وكل التكهنات – المبنية طبعا على قواعد العلم والعقل- كانت سليمة الطرح، وقد حدث للعراق ما حدث له من القهقرى والتراجعات على جميع الصُّعُد خير دليل على ذلك، وأن هاتين الحربين – كما قال المنجرة – كانت لصالح إسرائيل والمشروع الأمريكي الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط.
ولعل واقع التشرذم والشقاق والنفاق وصراعات الإخوة الأعداء دليل على صحة ما أشار إليه المهدي المنجرة في جل كتاباته النيّرة، والمتنوِّرة ذات البعد الكوني؛ والساعية إلى تحقيق التوزيع العادل للخيرات، والمساواة في الحقوق والواجبات بغية عتق الإنسان من نظم اقتصادية عولماتية جشعة، لا تؤمن بالقيم والإنسان؛ بقدر ما تبتغي هيمنة اقتصاد السوق البشع المقاصد والغايات المتمثلة في استنزاف خيرات الدول المتخلفة عبْر استعمار بلبوسات اقتصادية، وهذا ما حذّر منه المفكر المهدي المنجرة الذي يشكّل صلة وصل بين الوطن العربي والعالم، حيث كان ينقل نظريات وأفكار تصورات غربية جديدة للعالم المغاربي والعالم العربي.
ولا غرابة في الأمر، فالرجل كان ينذر بآلام العالم – كما وصفه ميشيل جوبير – قبل وقوعها مما يزكّي قيمته المعرفية وتجربته الثرية والغنية التي أوصلته إلى هذه الحقائق المؤلمة التي يتخبط فيها العالم الثالثي من حروب وخراب وتهجير الشعوب من بلدانهم تحت رحمة رصاص الأعداء والإخوة، وتدمير لحضارات منحت الإنسانية الشيء الكثير، لكن العقلية الغابوية للدول المهيمنة والمصالح كانت أكبر من القيم والإنسان، مما أفضى إلى قتل العدل والسلام والمحبة والحياة في نفوس الشعوب المقهورة.
والرجل بالتالي ينبذ وسائل الإعلام العميلة والساعية إلى نشر ثقافة التسطيح وتبخيس الفكر الملتزم والإنساني، وموقفه من القنوات الفضائية معتبرا إياها وسيلة للضحالة والتسطيح، وهذا دليل على رفضه لكل ما يمس قيمة الإنسان. إضافة إلى امتلاكه بصيرة ثاقبة تنبّأَتْ بأن الدول المستبّدة والديكتاتورية ستعرف انتفاضات ستغيّر من وجوه العديد الرؤساء الحاكمين، و»الربيع العربي» تعبير عما قاله المهدي المنجرة» انتفاضة شعبية تنعش الفكر الثوري العربي وتحيي حلم الحرية الموؤود وتعيد وهج ستينيات القرن الماضي».
هنا تجلّت عبقرية هذا المفكر إذ عبّر عن تنبؤاته في كتبه العديدة منها «الانتفاضة في زمن الدمقراطية» و»الحرب الحضارية الأولى» كلها كتابات عمودها الفقري الاستشراف المستقبلي؛ المنبني على المقارنة ومؤشّر التطور الاجتماعي والاقتصادي والبشري إضافة إلى حجم الموارد والحكامة الجيّدة والتدبير المعقلن. وقد كان هذا المفكر العالم الفذ عرضة للتهميش والإقصاء والمضايقات من لدن السلطة، من خلال التضييق عليه، بمنع محاضراته ولقاءاته مع محبّيه، ممّا جعل المجتمع المغربي يخسر ثروة علمية وفكرية، كان من الأولى احتضانها وتيسير مهامّها لتنوير الرأي العام المغربي والعربي، ومع ذلك فإن المهدي المنجرة ترك أثره في أجيال السبعينيات والثمانينيات وحتى بداية التسعينيات، رغم مظاهر التغييب التي مورست عليه.
إن استرجاع المهدي المنجرة في ذكراه الرابعة على رحيله، فيه نوع من الاعتراف بهذا العالِم الفذ، المختلف والمتنوع أولا، وثانيا لكونه رجل المواقف التي أصبحت نادرة اليوم نظرا لانبطاح غالبية المثقفين والعلماء أمام سلطة المال والاستبداد، واستسلامهم والهروب إلى الأمام بدعاوى واهية. وثالثا حتى نستلهم الدروس والعِبَر من نتاجاته الكثيرة العميقة والغنية بالطروحات والأفكار، ورابعا دعوة إلى التفكير في المنجز الذي خلّفه من أجل مدارسته وتفكيكه وتحليله، والكشف عمّا يطرحه من أفكار تنتصر للإنسان المقهور، وخطاب نقدي لسياسة الدول العظمى تُّجاه العالم الثالثي، ولعل منجزه النقدي التحليلي يثبت ما نقوله على اعتبار أنَّ كان خبيرا بمُجريات ما يُحاك من مشاريع ضد إرادة الشعوب الراغبة في التحرر وتحقيق الاستقلال التام، والساعية إلى التقدم والتطور.
إن درس المهدي المنجرة لا يمكن أن يستوعبه إلا المؤمنون بأهمية علم المستقبليات وبالفكر الاستشرافي الذي يلعب دور التّرْمُومِتر لقياس التوتر الاجتماعي، والوقوف على المؤشرات الاقتصادية التي تكون بمثابة الشرارة الأولى لأي اضطرابات أو قلاقل قد تقع في مجتمع من المجتمعات التي تعرف ركودا اقتصاديا واستبدادا سياسيا وسلطويا، إنه درس عميق يدعونا إلى إعادة قراءته قراءة متأنية حتى ندرك الأوضاع والوقائع التي يشهدها العالم العربي؛ المتمثلة في انتكاسة حضارية تعكس معالم التردّي وهيمنة الضحالة كعنوان يُميِّزُ الألفية الثالثة، ويؤكّد بما لا يدع مجالا للشك في كون المهدي من الذين دقوا جرس الإنذار لإثارة انتباه المجتمعات العربية حتى تستعيد عافيتها ، وتؤدي دورها الحضاري ومواكبة التحولات الرهيبة والمربكة للعقل البشري، حتى لا يبقى خارج أسئلة الحاضر والتاريخ.


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 14/10/2021